الحرب العالمية الأولى والثورة العربية
أُعلنت الحرب العالمية الأولى في تموز عام 1914، وفي تشرين الثاني من العام نفسه دخلتها الدولة العثمانية رسمياً إلى جانب ألمانية، فقامت دول الحلفاء بضرب الحصار على سواحلها ومنعت البضائع من دخول موانئها، ولم يمض وقت طويل حتى أخذ المخزون الغذائي بالنفاذ واختفت الحاجات الضرورية الأخرى من الأسواق. وأخذت الدولة تصادر الموجود منها لمصلحة الجيش، وغزا الجراد سورية الطبيعية فأتى على أغلب المحاصيل الزراعية فيها، وزاد الأمر سوءاً تدفق عشرات الآلاف من المهاجرين الأرمن. وكان قانون الخدمة العسكرية يشمل جميع المناطق التابعة للسلطنة، فسيق الشبان إلى ميادين القتال في ظروف سيئة للغاية أدت إلى وفاة الكثيرين منهم لأسباب كثيرة، لم تكن الحرب إلا واحدة منها، فقد كان الجنود يموتون جوعاً ومرضاً وبرداً وإرهاقاً. كما خسر الأردن كثيراً من ثروته الحرجية، إذ قطعت الأشجار ليستعمل خشبها وقوداً للقطارات.
ومنذ الأيام الأولى لقيام الحرب العالمية الأولى، عانى الناس في بلاد الشام والأردن أقسى درجات المعاناة وشعروا أن القتال والمصاعب التي فرضت عليهم لا تمت إلى أمانيهم القومية بأية صلة، ولهذا كانت نفوس الناس مهيأة لاستقبال فرسان الثورة العربية والترحيب بهم حين انطلقوا من مكة متجهين إلى الشام، من دون أن يكون لعامة الناس معرفة بالدور الذي قامت به دمشق وسواها من المدن السورية ودور رجالات الشام في التهيئة لهذه الثورة والحشد لها لتضع حداً لحكم العثمانيين الذي لم يلب شيئاً من تطلعاتهم. ولا يسمح الإطار الذي ينتظم هذه الدراسة بالحديث عن نشوء الفكر القومي في ظل الحكم العثماني وقيام الجمعيات والمنتديات القومية، وعن مطامع الحلفاء في تركة السلطنة العثمانية، أو عن مساوئ الحكم العثماني في عهد جماعة الاتحاد والترقي، وتركية الفتاة، ومحاولات التتريك، والتهيئة للثورة العربية وسوى ذلك من أمور تكوّن الخلفية الضرورية لقيام هذه الثورة، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن إشارة بدء الثورة انطلقت من دمشق حين أرسل فيصل من هذه المنطقة برقيته المشهورة إلى والده الشريف حسين، التي قال فيها: «أرسلوا الفرس الشقراء»، وهو الرمز المتفق عليه لإعلان بدء الثورة، وقال قولته الشهيرة: «طاب الموت يا عرب». وهكذا سار الثائرون من مكة ليلتقوا بإخوة لهم ينتظرون على طول الطريق من الحجاز إلى الشام، وكانت قبيلة الحويطات في جنوبي الأردن أول من لبى نداء الثورة من الأردنيين، إذ اتصل شيخها عودة أبو تايه بالأمير فيصل، قائد الجيش العربي الشمالي، وأعلن انضمام قبيلته إلى الثورة. وفي 9 أيار عام 1917 توجه عودة والشريف ناصر بن علي في مجموعة قليلة من الفرسان نحو العقبة، فقطعوا مواصلات العدو، وحرضوا أبناء القبائل النازلة هناك، فانضموا إلى الثورة، وتمكنت هذه الفئة القليلة من القيام بمهمتها بنجاح وسهلت للجيش العربي الشمالي احتلال العقبة في 6 تموز عام 1917. وباحتلال العقبة تم الاتصال بين الجيش العربي وجيش الحلفاء الذي كان يقوده الجنرال اللنبي Allenby، وبين الجيش العربي والقيادة البريطانية في القاهرة. وبينما كانت القوات البريطانية تتقدم في جنوبي فلسطين فتحتل بئر السبع وغزة ويافا والخليل وبيت لحم، وتستولي على القدس في أواخر تشرين الأول عام 1917، أخذت القوات العربية في مناوشة القوات التركية في معان والمناطق المجاورة لها. وفي منتصف كانون الثاني 1918 استولت على الطفيلة والشوبك. وبعد مناوشات بين الإنكليز والأتراك حول مدينتي السلط وعمان، أعد الأمير فيصل حملة لاحتلال الأزرق، وقد تمكنت هذه الحملة من إنجاز مهمتها، ثم انطلقت لمهاجمة محطة خربة غزالة قرب درعا، ومن ثم احتلت درعا في 28 أيلول عام 1918.
وبنتيجة ذلك اضطر الجيش التركي إلى الانسحاب من عمان، وتوجه إلى دمشق، ولكنه بسبب ضغط جيش الثورة ما لبثَ أن غادرها، ودخلتها قوات الأمير فيصل في اليوم الأول من تشرين الأول عام 1918. وقد أسهم الأردنيون إسهاماً فعالاً مع جيش الثورة العربية في العمليات العسكرية التي انتهت بتحرير بلادهم من النير العثماني. وهكذا ارتبط مصير الأردن في تلك المرحلة من العهد الفيصلي بما كان يجري من أحداث في بلاد الشام والشرق العربي كله.ففي اليوم الثالث من دخول فيصل إلى دمشق، طلب الجنرال اللنبي، القائد العام لقوات الحلفاء في البلاد، من فيصل أن يقيم إدارة عسكرية عربية في المنطقة الواقعة شرق نهر الأردن والممتدة من العقبة إٍلى دمشق، على أن يكون حكامها العسكريون وموظفوها المدنيون من العرب وأن يكون ارتباطهم بالأمير، الذي يكون مسؤولاً أمام اللنبي طوال مدة الحرب، وطبيعي أن ذلك سبب خيبة أمل كبيرة للأمير ومن شايعه من الزعماء العرب الذين صدقوا الوعود والتصريحات التي أصدرها الحلفاء إبان الحرب والتي كانت تؤكد بأنهم سيحظون بالاستقلال بعد أن يحتلوا دمشق. وهكذا، وبعد لقاء فيصل - اللنبي بيومين ألّف فيصل أول حكومة عربية بدمشق برئاسة الفريق علي رضا الركابي، الذي منح لقب «الحاكم العسكري العام».
وقبل المضي قدماً في الحديث عن الأردن في هذه المرحلة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الأولى، لا بد من العودة إلى الوراء قليلاً للتذكير ببعض ما اتفق عليه الإنكليز والفرنسيون في الاتفاق المعروف باسم: اتفاقية سايكس - بيكو، التي ضربت عرض الحائط بكل الوعود بالاستقلال التي منحت للشريف حسين وبكل ما جاء في مراسلاته مع مكماهون. وبحسب هذه الاتفاقية فقد اقتسمت مناطق النفوذ بين الدولتين على أن تكون هناك:
1ـ منطقة نفوذ فرنسية تشمل ولايات دمشق وحلب والموصل.
2ـ منطقة نفوذ بريطانية تشمل الأراضي الممتدة من فلسطين إلى العراق، على أن تنشأ دولة أو دول عربية مستقلة، أو اتحاد فدرالي لدول عربية، يكون لفرنسة وإنكلترة حق تزويدها بالمستشارين والموظفين، وحق الأولوية الاقتصادية والمالية. ومن دون الدخول في تفصيلات اتفاقية «سايكس - بيكو» الأخرى، وكتمانها عن العرب حتى فضحها وزير الخارجية البولشفي سازانوف في عام 1917، ورد الإنكليز المخادع على سؤال فيصل
الحرب العالمية
أُعلنت الحرب العالمية الأولى في تموز عام 1914، وفي تشرين الثاني من العام نفسه دخلتها الدولة العثمانية رسمياً إلى جانب ألمانية، فقامت دول الحلفاء بضرب الحصار على سواحلها ومنعت البضائع من دخول موانئها، ولم يمض وقت طويل حتى أخذ المخزون الغذائي بالنفاذ واختفت الحاجات الضرورية الأخرى من الأسواق. وأخذت الدولة تصادر الموجود منها لمصلحة الجيش، وغزا الجراد سورية الطبيعية فأتى على أغلب المحاصيل الزراعية فيها، وزاد الأمر سوءاً تدفق عشرات الآلاف من المهاجرين الأرمن. وكان قانون الخدمة العسكرية يشمل جميع المناطق التابعة للسلطنة، فسيق الشبان إلى ميادين القتال في ظروف سيئة للغاية أدت إلى وفاة الكثيرين منهم لأسباب كثيرة، لم تكن الحرب إلا واحدة منها، فقد كان الجنود يموتون جوعاً ومرضاً وبرداً وإرهاقاً. كما خسر الأردن كثيراً من ثروته الحرجية، إذ قطعت الأشجار ليستعمل خشبها وقوداً للقطارات.
ومنذ الأيام الأولى لقيام الحرب العالمية الأولى، عانى الناس في بلاد الشام والأردن أقسى درجات المعاناة وشعروا أن القتال والمصاعب التي فرضت عليهم لا تمت إلى أمانيهم القومية بأية صلة، ولهذا كانت نفوس الناس مهيأة لاستقبال فرسان الثورة العربية والترحيب بهم حين انطلقوا من مكة متجهين إلى الشام، من دون أن يكون لعامة الناس معرفة بالدور الذي قامت به دمشق وسواها من المدن السورية ودور رجالات الشام في التهيئة لهذه الثورة والحشد لها لتضع حداً لحكم العثمانيين الذي لم يلب شيئاً من تطلعاتهم. ولا يسمح الإطار الذي ينتظم هذه الدراسة بالحديث عن نشوء الفكر القومي في ظل الحكم العثماني وقيام الجمعيات والمنتديات القومية، وعن مطامع الحلفاء في تركة السلطنة العثمانية، أو عن مساوئ الحكم العثماني في عهد جماعة الاتحاد والترقي، وتركية الفتاة، ومحاولات التتريك، والتهيئة للثورة العربية وسوى ذلك من أمور تكوّن الخلفية الضرورية لقيام هذه الثورة، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن إشارة بدء الثورة انطلقت من دمشق حين أرسل فيصل من هذه المنطقة برقيته المشهورة إلى والده الشريف حسين، التي قال فيها: «أرسلوا الفرس الشقراء»، وهو الرمز المتفق عليه لإعلان بدء الثورة، وقال قولته الشهيرة: «طاب الموت يا عرب». وهكذا سار الثائرون من مكة ليلتقوا بإخوة لهم ينتظرون على طول الطريق من الحجاز إلى الشام، وكانت قبيلة الحويطات في جنوبي الأردن أول من لبى نداء الثورة من الأردنيين، إذ اتصل شيخها عودة أبو تايه بالأمير فيصل، قائد الجيش العربي الشمالي، وأعلن انضمام قبيلته إلى الثورة. وفي 9 أيار عام 1917 توجه عودة والشريف ناصر بن علي في مجموعة قليلة من الفرسان نحو العقبة، فقطعوا مواصلات العدو، وحرضوا أبناء القبائل النازلة هناك، فانضموا إلى الثورة، وتمكنت هذه الفئة القليلة من القيام بمهمتها بنجاح وسهلت للجيش العربي الشمالي احتلال العقبة في 6 تموز عام 1917. وباحتلال العقبة تم الاتصال بين الجيش العربي وجيش الحلفاء الذي كان يقوده الجنرال اللنبي Allenby، وبين الجيش العربي والقيادة البريطانية في القاهرة. وبينما كانت القوات البريطانية تتقدم في جنوبي فلسطين فتحتل بئر السبع وغزة ويافا والخليل وبيت لحم، وتستولي على القدس في أواخر تشرين الأول عام 1917، أخذت القوات العربية في مناوشة القوات التركية في معان والمناطق المجاورة لها. وفي منتصف كانون الثاني 1918 استولت على الطفيلة والشوبك. وبعد مناوشات بين الإنكليز والأتراك حول مدينتي السلط وعمان، أعد الأمير فيصل حملة لاحتلال الأزرق، وقد تمكنت هذه الحملة من إنجاز مهمتها، ثم انطلقت لمهاجمة محطة خربة غزالة قرب درعا، ومن ثم احتلت درعا في 28 أيلول عام 1918.
وبنتيجة ذلك اضطر الجيش التركي إلى الانسحاب من عمان، وتوجه إلى دمشق، ولكنه بسبب ضغط جيش الثورة ما لبثَ أن غادرها، ودخلتها قوات الأمير فيصل في اليوم الأول من تشرين الأول عام 1918. وقد أسهم الأردنيون إسهاماً فعالاً مع جيش الثورة العربية في العمليات العسكرية التي انتهت بتحرير بلادهم من النير العثماني. وهكذا ارتبط مصير الأردن في تلك المرحلة من العهد الفيصلي بما كان يجري من أحداث في بلاد الشام والشرق العربي كله.ففي اليوم الثالث من دخول فيصل إلى دمشق، طلب الجنرال اللنبي، القائد العام لقوات الحلفاء في البلاد، من فيصل أن يقيم إدارة عسكرية عربية في المنطقة الواقعة شرق نهر الأردن والممتدة من العقبة إٍلى دمشق، على أن يكون حكامها العسكريون وموظفوها المدنيون من العرب وأن يكون ارتباطهم بالأمير، الذي يكون مسؤولاً أمام اللنبي طوال مدة الحرب، وطبيعي أن ذلك سبب خيبة أمل كبيرة للأمير ومن شايعه من الزعماء العرب الذين صدقوا الوعود والتصريحات التي أصدرها الحلفاء إبان الحرب والتي كانت تؤكد بأنهم سيحظون بالاستقلال بعد أن يحتلوا دمشق. وهكذا، وبعد لقاء فيصل - اللنبي بيومين ألّف فيصل أول حكومة عربية بدمشق برئاسة الفريق علي رضا الركابي، الذي منح لقب «الحاكم العسكري العام».
وقبل المضي قدماً في الحديث عن الأردن في هذه المرحلة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الأولى، لا بد من العودة إلى الوراء قليلاً للتذكير ببعض ما اتفق عليه الإنكليز والفرنسيون في الاتفاق المعروف باسم: اتفاقية سايكس - بيكو، التي ضربت عرض الحائط بكل الوعود بالاستقلال التي منحت للشريف حسين وبكل ما جاء في مراسلاته مع مكماهون. وبحسب هذه الاتفاقية فقد اقتسمت مناطق النفوذ بين الدولتين على أن تكون هناك:
1ـ منطقة نفوذ فرنسية تشمل ولايات دمشق وحلب والموصل.
2ـ منطقة نفوذ بريطانية تشمل الأراضي الممتدة من فلسطين إلى العراق، على أن تنشأ دولة أو دول عربية مستقلة، أو اتحاد فدرالي لدول عربية، يكون لفرنسة وإنكلترة حق تزويدها بالمستشارين والموظفين، وحق الأولوية الاقتصادية والمالية. ومن دون الدخول في تفصيلات اتفاقية «سايكس - بيكو» الأخرى، وكتمانها عن العرب حتى فضحها وزير الخارجية البولشفي سازانوف في عام 1917، ورد الإنكليز المخادع على سؤال فيصل
الحرب العالمية