ابراهيم العريس
كان ذلك قبل أن تعرف تخوم المدن ثورة لها علاقة بالمشكلات المستعصية على الحل في بلدان العالم، المتقدم وغير المتقدم: من مشكلات المستبعدين والمهمشين، إلى مشكلات الشبيبة والبطالة والمخدرات وأوقات الفراغ وصولاً طبعاً إلى المشكل العنصرية التي تقوم بين السكان الأصليين في البلدان الأوروبية والوافدين لاجئين من شتى أنحاء العالم بحثاً عن شيء من الأمان في بلاد تعاديهم وتعادي وجودهم أكثر فأكثر. كان ذلك حين كانت المدن لا تزال مدناً والتخوم تخوماً والضواحي ضواحي. يومها حدث لرسام قادم من قلب عالم السوريالية أن اكتشفت سطوة المدن العملاقة ووحشيتها. واكتشف المسافة التي تفصل إنسان العصر عن المدينة وتضعه خارجها، مهما كانت علاقته بها، هذا الرسام هو إيف تانغي، الفرنسي الأميركي الذي رحل عن عالمنا عام 1955، قبل عقد ونصف العقد من اندلاع ثورة الضواحي، وقد بات أميركياً منذ قصد العالم الجديد هرباً من الحرب والنازية عند بدايات الحرب العالمية الأولى.
لا هم اجتماعياً
لا يعني هذا الكلام بالطبع أن إيف تانغي جعل من لوحاته مرآة لنظرة اجتماعية ما، أو مادة للتفكير في الذي سيجره المستقبل، بل إن الرجل لم يكن صاحب فكر سياسي أو اجتماعي بأي حال من الأحوال. كل ما في الأمر، أنه عرف كيف يعبر، في عديد من لوحاته خلال واحدة من أكثر مراحل حياته نشاطاً وازدهاراً، عن علاقة الفرد بالمدينة، وليس بالمعنى الانطباعي القديم الذي قام على التغني بالمدن، أو بالمعنى الحداثي الذي صنم المدينة واعتبرها ضحية لهجمة الريف، بل بالمعنى الأهدأ، معنى طغيان المدينة كحيز ومبان ومربعات وأشكال هندسية متوحشة تهاجم الإنسان/ الفرد في عقر حميميته.
خارج فرنسا
ولد إيف تانغي في عام 1900 في باريس، ليموت بعد ذلك بأكثر من 50 عاماً في ولاية كونكتيكت الأميركية، هو الذي عاش، في جسده وفي هواه، خارج فرنسا على الدوام، إذ إنه بعد اكتشافه إنجلترا مبكراً زار طوال صباه عديداً من البلدان الأوروبية والأميركية والأفريقية قبل أن يعود إلى الاستقرار في باريس اعتباراً من 1922 مقيماً في قصر مع أصدقاء كان تعرف بهم خلال خدمته العسكرية، ومن بينهم الشاعر جاك بريفير. وكان ذلك قبل أن يكتشف ولعه بفن الرسم. وتقول الحكاية إن تانغي إنما اكتشف ذلك الولع فيما كان يتمشى ذات يوم في شارع لابويسي الباريسي، ولاحظ في واجهة أحد المعارض لوحة للإيطالي جورجيو دي كيريكو فكانت هي التي دفعته لاتخاذ القرار النهائي بالتوجه الذي وسم حياته وعمله. وقد روى تانغي لاحقاً أنه منذ اللحظة التي شاهد فيها تلك اللوحة بدأ يرسم من دون أن يكون قد سبق له أن رسم من قبل، ما يجعله واحداً من أكثر الرسامين عصامية بين مجموعة الفنانين التي كانت حينها تتحلق من حول أندريه بريتون في خوض المغامرة السوريالية التي إن لم تدم طويلاً كمجموعة، فإنها في الوقت نفسه دامت في تأثيراتها وفي امتدادها إلى شتى المدن والقارات وتوسعت معانقة عديد من الفنون بحيث إنها ومن دون أن تصل في عالميتها إلى التكعيبية مثلاً، هيمنت على جزء من القرن الـ20.
من باريس إلى العالم
بشكل عام، تميزت لوحات تانغي الأولى بحس ساذج لا يخلو من أبعاد فطرية، وبنكهة شعبية (على حد تعبير واحد من الذين أرخوا لسيرته الفنية). فهو رسم أول ما رسم مناظر باريسية ومشاهد مستقاة من حياة الشارع، فكانت المدينة، من الداخل، حاضرة في أعماله منذ البداية. وهذا ما قاده، بصحبة جاك بريفير، إلى الانخراط في جماعة السورياليين منذ 1925. وكان ذلك الانخراط ما جعله يغوص في نزوعه نحو الرسم التلقائي والتعبير العفوي منذ العام التالي. غير أن ثورته "التلقائية" تلك سرعان ما هدأت خلال السنوات التالية وراح يرسم لوحات تتسم باتزان داخلي، بل بنوع من الرومانسية الحزينة. ويبدو أن هذه الرومانسية هي التي أخذت تقود حياته إلى خارج المدن وجعلت لوحات مرحلته التالية (1930 - 1931) تمتلئ بمساحات واسعة تنتهي إما إلى مفازات، وإما إلى أشكال في الأفق غير إنسانية. والحال أن تلك الأشكال هي التي اتخذت بعد ذلك، وبالتدريج، شكل المدن الهمجية تفصلها عن عين الناظر إليها (الرسام أو المتفرج) تخوم الفراغ والخوف والقلق.
بعيد لا إنساني
هذه النزعة القلقة إزاء المدينة تكثفت لديه، بالطبع، اعتباراً من 1939 حيث وصل إلى الولايات المتحدة، عابراً كندا، ليقيم بشكل نهائي في مدينة وودباري بولاية كونكتيكيت. وهو في اللوحات التي حققها في تلك المدينة، التي كانت في مجملها لوحات تستخلص تجاربه السابقة، لا سيما تجارب علاقته مع المدن وتخومها، وصل إلى أقصى درجات نضجه، بخاصة أن العزلة النسبية التي عاش فيها أبعدته هناك عن كل نشاط جماعي لتضعه وحيداً، كشخوص لوحاته جميعاً –هذا إذا كان في مقدورنا أن نتحدث عن تلك الأشكال التي كان يرسمها في لوحاته بوصفها شخوصاً، في مواجهة البعيد والمنفصل واللاإنساني. وهذا ما عبرت عنه بشكل خلاق لوحتاه الأخيرتان "تعددية الأقواس" و"الأرقام الوهمية" اللتان حققهما قبل عام من رحيله. ففي هاتين اللوحتين راكم إيف تانغي كل ما يخيفه من حجارة ومبان، بشكل جعل فنه يبدو وكأنه ناقوس الخطر الأخير يدق ضد الهمجية القادمة، همجية التخوم والآفاق المسدودة التي ما لبثت أن غزت العالم، ولا تزال، بعد موت إيف تانغي بفترة من الزمن.
تلقائية محمودة
فهل يمكننا إزاء ذلك أن نقول عن لوحات تانغي، إنها "عرفت باكراً كيف تتنبأ بما ستكون عليه حياة التخوم والضواحي في أزمنة مقبلة؟ طبعاً يمكن الوصول إلى هذه الفرضية بشكل أو بآخر ولكن من الصعوبة بمكان تأكيد هذا الأمر على ضوء "وعي مفترض" به لدى الفنان الذي لم يترك كتابات أو تفسيرات أو حتى أي شيء ينم عن ربط رسومه بواقع اجتماعي ما. فهو بعد كل شيء وكما يستشف من مواقف كان يعبر عنها مع كثير من التردد، لم يهتم بأن يكون عالم اجتماع يستخدم الرسم ليعبر عن أفكار في ذلك المجال. كل ما في الأمر أن تأثره بالسوريالي الإيطالي الكبير جورجيو دي كيريكو، ومعه بماكس إرنست، وضعه وربما بشكل بالغ العفوية في مواجهة حالة بصرية من الصعب حتى أن نعتبرها حالة جماعية. ففي لوحات إيف تانغي وكما في لوحات دي كيريكو وإرنست ليس ثمة من معان مقصودة يراد التعبير عنها. هناك رؤى تنتج بعضها بعضاً على مسطحات تخلق معانيها من داخلها. وبهذا المعنى اعتبر فن تانغي النموذج الأفضل تعبيراً عن "الرسم التلقائي" الذي كان في خلفية السوريالية كما دعا إليها أندريه بريتون وشملها برعايته. ومن هنا نرى بريتون، الذي بقي تانغي مخلصاً له ولتعاليمه حتى النهاية –على عكس كثر من الذين "خانوه" وانصرفوا عنه وغالباً كي يخوضوا مغامرات "سياسية" تتجه يساراً أو يميناً بحسب الظروف وتبعاً لاختيارات سياسية كانت طبيعية في ذلك الزمن. أما تانغي فإنه رغم تفضيله في مرحلة اشتداد الصراعات الأوروبية أن يهاجر إلى الولايات المتحدة فإنه لم يفعل لنضالية سياسية أو لخوف استبد به من النازيين، أو مما يحدث، بل وكما سيقول غير مرة، لأنه كان يعرف أن المساحات الواسعة في العالم الجديد تتيح له مجالات أفضل للتعبير عن نفسه وعن رؤاه التي تكاد تكون مرتبطة بالأحلام.
نبي الضواحي رغم أنفه
ومن هنا فإن تعبير تانغي عن تلك الرؤى لا يمكن النظر إليه إلا بوصفه تعبيراً "جمالياً" خالصاً من الصعب ربطه بأي أبعاد فكرية أو اجتماعية وفلسفية من تلك التي هيمنت على حيز إبداعي واسع في القرن الـ20، مصعبة غالباً على الباحثين والنقاد الخوض في التحليلات والتفسيرات في محاولة منهم لاستخلاص الدروس من فنون كان مبدعوها في أحيان كثيرة يريدونها ألا تكون في نهاية الأمر أكثر من تعبير "عفوي" عن رؤى يريدونها أن تسهم في إبقائهم خارج الراهن والتاريخ. ومن المؤكد أن تانغي كان واحداً منهم رغم أن كثراً يعتبرونه اليوم "من خير الفنانين الذين خاضوا لعبة الضواحي وعبروا عنها".
كان ذلك قبل أن تعرف تخوم المدن ثورة لها علاقة بالمشكلات المستعصية على الحل في بلدان العالم، المتقدم وغير المتقدم: من مشكلات المستبعدين والمهمشين، إلى مشكلات الشبيبة والبطالة والمخدرات وأوقات الفراغ وصولاً طبعاً إلى المشكل العنصرية التي تقوم بين السكان الأصليين في البلدان الأوروبية والوافدين لاجئين من شتى أنحاء العالم بحثاً عن شيء من الأمان في بلاد تعاديهم وتعادي وجودهم أكثر فأكثر. كان ذلك حين كانت المدن لا تزال مدناً والتخوم تخوماً والضواحي ضواحي. يومها حدث لرسام قادم من قلب عالم السوريالية أن اكتشفت سطوة المدن العملاقة ووحشيتها. واكتشف المسافة التي تفصل إنسان العصر عن المدينة وتضعه خارجها، مهما كانت علاقته بها، هذا الرسام هو إيف تانغي، الفرنسي الأميركي الذي رحل عن عالمنا عام 1955، قبل عقد ونصف العقد من اندلاع ثورة الضواحي، وقد بات أميركياً منذ قصد العالم الجديد هرباً من الحرب والنازية عند بدايات الحرب العالمية الأولى.
لا هم اجتماعياً
لا يعني هذا الكلام بالطبع أن إيف تانغي جعل من لوحاته مرآة لنظرة اجتماعية ما، أو مادة للتفكير في الذي سيجره المستقبل، بل إن الرجل لم يكن صاحب فكر سياسي أو اجتماعي بأي حال من الأحوال. كل ما في الأمر، أنه عرف كيف يعبر، في عديد من لوحاته خلال واحدة من أكثر مراحل حياته نشاطاً وازدهاراً، عن علاقة الفرد بالمدينة، وليس بالمعنى الانطباعي القديم الذي قام على التغني بالمدن، أو بالمعنى الحداثي الذي صنم المدينة واعتبرها ضحية لهجمة الريف، بل بالمعنى الأهدأ، معنى طغيان المدينة كحيز ومبان ومربعات وأشكال هندسية متوحشة تهاجم الإنسان/ الفرد في عقر حميميته.
خارج فرنسا
ولد إيف تانغي في عام 1900 في باريس، ليموت بعد ذلك بأكثر من 50 عاماً في ولاية كونكتيكت الأميركية، هو الذي عاش، في جسده وفي هواه، خارج فرنسا على الدوام، إذ إنه بعد اكتشافه إنجلترا مبكراً زار طوال صباه عديداً من البلدان الأوروبية والأميركية والأفريقية قبل أن يعود إلى الاستقرار في باريس اعتباراً من 1922 مقيماً في قصر مع أصدقاء كان تعرف بهم خلال خدمته العسكرية، ومن بينهم الشاعر جاك بريفير. وكان ذلك قبل أن يكتشف ولعه بفن الرسم. وتقول الحكاية إن تانغي إنما اكتشف ذلك الولع فيما كان يتمشى ذات يوم في شارع لابويسي الباريسي، ولاحظ في واجهة أحد المعارض لوحة للإيطالي جورجيو دي كيريكو فكانت هي التي دفعته لاتخاذ القرار النهائي بالتوجه الذي وسم حياته وعمله. وقد روى تانغي لاحقاً أنه منذ اللحظة التي شاهد فيها تلك اللوحة بدأ يرسم من دون أن يكون قد سبق له أن رسم من قبل، ما يجعله واحداً من أكثر الرسامين عصامية بين مجموعة الفنانين التي كانت حينها تتحلق من حول أندريه بريتون في خوض المغامرة السوريالية التي إن لم تدم طويلاً كمجموعة، فإنها في الوقت نفسه دامت في تأثيراتها وفي امتدادها إلى شتى المدن والقارات وتوسعت معانقة عديد من الفنون بحيث إنها ومن دون أن تصل في عالميتها إلى التكعيبية مثلاً، هيمنت على جزء من القرن الـ20.
من باريس إلى العالم
بشكل عام، تميزت لوحات تانغي الأولى بحس ساذج لا يخلو من أبعاد فطرية، وبنكهة شعبية (على حد تعبير واحد من الذين أرخوا لسيرته الفنية). فهو رسم أول ما رسم مناظر باريسية ومشاهد مستقاة من حياة الشارع، فكانت المدينة، من الداخل، حاضرة في أعماله منذ البداية. وهذا ما قاده، بصحبة جاك بريفير، إلى الانخراط في جماعة السورياليين منذ 1925. وكان ذلك الانخراط ما جعله يغوص في نزوعه نحو الرسم التلقائي والتعبير العفوي منذ العام التالي. غير أن ثورته "التلقائية" تلك سرعان ما هدأت خلال السنوات التالية وراح يرسم لوحات تتسم باتزان داخلي، بل بنوع من الرومانسية الحزينة. ويبدو أن هذه الرومانسية هي التي أخذت تقود حياته إلى خارج المدن وجعلت لوحات مرحلته التالية (1930 - 1931) تمتلئ بمساحات واسعة تنتهي إما إلى مفازات، وإما إلى أشكال في الأفق غير إنسانية. والحال أن تلك الأشكال هي التي اتخذت بعد ذلك، وبالتدريج، شكل المدن الهمجية تفصلها عن عين الناظر إليها (الرسام أو المتفرج) تخوم الفراغ والخوف والقلق.
بعيد لا إنساني
هذه النزعة القلقة إزاء المدينة تكثفت لديه، بالطبع، اعتباراً من 1939 حيث وصل إلى الولايات المتحدة، عابراً كندا، ليقيم بشكل نهائي في مدينة وودباري بولاية كونكتيكيت. وهو في اللوحات التي حققها في تلك المدينة، التي كانت في مجملها لوحات تستخلص تجاربه السابقة، لا سيما تجارب علاقته مع المدن وتخومها، وصل إلى أقصى درجات نضجه، بخاصة أن العزلة النسبية التي عاش فيها أبعدته هناك عن كل نشاط جماعي لتضعه وحيداً، كشخوص لوحاته جميعاً –هذا إذا كان في مقدورنا أن نتحدث عن تلك الأشكال التي كان يرسمها في لوحاته بوصفها شخوصاً، في مواجهة البعيد والمنفصل واللاإنساني. وهذا ما عبرت عنه بشكل خلاق لوحتاه الأخيرتان "تعددية الأقواس" و"الأرقام الوهمية" اللتان حققهما قبل عام من رحيله. ففي هاتين اللوحتين راكم إيف تانغي كل ما يخيفه من حجارة ومبان، بشكل جعل فنه يبدو وكأنه ناقوس الخطر الأخير يدق ضد الهمجية القادمة، همجية التخوم والآفاق المسدودة التي ما لبثت أن غزت العالم، ولا تزال، بعد موت إيف تانغي بفترة من الزمن.
تلقائية محمودة
فهل يمكننا إزاء ذلك أن نقول عن لوحات تانغي، إنها "عرفت باكراً كيف تتنبأ بما ستكون عليه حياة التخوم والضواحي في أزمنة مقبلة؟ طبعاً يمكن الوصول إلى هذه الفرضية بشكل أو بآخر ولكن من الصعوبة بمكان تأكيد هذا الأمر على ضوء "وعي مفترض" به لدى الفنان الذي لم يترك كتابات أو تفسيرات أو حتى أي شيء ينم عن ربط رسومه بواقع اجتماعي ما. فهو بعد كل شيء وكما يستشف من مواقف كان يعبر عنها مع كثير من التردد، لم يهتم بأن يكون عالم اجتماع يستخدم الرسم ليعبر عن أفكار في ذلك المجال. كل ما في الأمر أن تأثره بالسوريالي الإيطالي الكبير جورجيو دي كيريكو، ومعه بماكس إرنست، وضعه وربما بشكل بالغ العفوية في مواجهة حالة بصرية من الصعب حتى أن نعتبرها حالة جماعية. ففي لوحات إيف تانغي وكما في لوحات دي كيريكو وإرنست ليس ثمة من معان مقصودة يراد التعبير عنها. هناك رؤى تنتج بعضها بعضاً على مسطحات تخلق معانيها من داخلها. وبهذا المعنى اعتبر فن تانغي النموذج الأفضل تعبيراً عن "الرسم التلقائي" الذي كان في خلفية السوريالية كما دعا إليها أندريه بريتون وشملها برعايته. ومن هنا نرى بريتون، الذي بقي تانغي مخلصاً له ولتعاليمه حتى النهاية –على عكس كثر من الذين "خانوه" وانصرفوا عنه وغالباً كي يخوضوا مغامرات "سياسية" تتجه يساراً أو يميناً بحسب الظروف وتبعاً لاختيارات سياسية كانت طبيعية في ذلك الزمن. أما تانغي فإنه رغم تفضيله في مرحلة اشتداد الصراعات الأوروبية أن يهاجر إلى الولايات المتحدة فإنه لم يفعل لنضالية سياسية أو لخوف استبد به من النازيين، أو مما يحدث، بل وكما سيقول غير مرة، لأنه كان يعرف أن المساحات الواسعة في العالم الجديد تتيح له مجالات أفضل للتعبير عن نفسه وعن رؤاه التي تكاد تكون مرتبطة بالأحلام.
نبي الضواحي رغم أنفه
ومن هنا فإن تعبير تانغي عن تلك الرؤى لا يمكن النظر إليه إلا بوصفه تعبيراً "جمالياً" خالصاً من الصعب ربطه بأي أبعاد فكرية أو اجتماعية وفلسفية من تلك التي هيمنت على حيز إبداعي واسع في القرن الـ20، مصعبة غالباً على الباحثين والنقاد الخوض في التحليلات والتفسيرات في محاولة منهم لاستخلاص الدروس من فنون كان مبدعوها في أحيان كثيرة يريدونها ألا تكون في نهاية الأمر أكثر من تعبير "عفوي" عن رؤى يريدونها أن تسهم في إبقائهم خارج الراهن والتاريخ. ومن المؤكد أن تانغي كان واحداً منهم رغم أن كثراً يعتبرونه اليوم "من خير الفنانين الذين خاضوا لعبة الضواحي وعبروا عنها".