الشخصية (فن الصورة-) Portraiture - Art du portrait

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشخصية (فن الصورة-) Portraiture - Art du portrait

    الشخصية (فن الصورة ـ)

    دأب الإنسان ولا يزال، على تسجيل حالاته السعيدة والحزينة، الشاردة أو المتأملة، بأكثر من لغة فنية، وفي ذلك كله، كانت الصورة الوجهية (الشخصية) أهم الوسائل تعبيراً عن هذه الحالات الإنسانية وغيرها.
    فالصورة الشخصية هي المَعْبر والجسر والوسيلة الأنجع للوصول إلى دواخل الناس والوقوف على ما يموج فيها من هموم وآمال، والوجه أشبه ما يكون بكتاب مفتوح، يمكن أن تُقرأ فيه حالة صاحبه الآنية، وتُستشف تركيبته النفسية ككل.
    وفي (كتاب الوجه) تأتي العينان والفم فعلين من أهم فصوله، وأقدرها بلاغة على التعبير. وبمراجعة بسيطة لكل ما حققه الفن التشكيلي من صور شخصية: رسماً وتصويراً ونحتاً وحفراً وإعلاناً، ثم التصوير الضوئي من بعده، يتبين أن العينين والفم، كانت محط اهتمام الرسام والمصور والنحات والمصور الضوئي، لما لها من قدرة على التعبير عما يعتمل في داخل الإنسان من عواطف وأحاسيس وحالات.
    وعلى هذا الأساس، فإن فن الصورة الشخصية، أو فن الصورة، أو فن الوجه، هو الفن الذي يتناول الوجه الإنساني مفرداً أو مع الصدر أو الجذع، للتعبير عن خصائص هذه الشخصية، أو التوثيق لها، والتعريف بها وغير ذلك، لأن الغرض منها إظهار حالة تعبيرية إنسانية خاصة، كالحزن أو الفرح، السمو أو الوضاعة، الفقر أو الغنى، الانطلاق أو الانطواء، الحب أو الكره، الطيبة أو اللؤم، الحنان أو الحزم....الخ.
    لقد اكتشف الإنسان- الفنان، في وقت مبكر من تاريخ الإنسانية، أن الوجه يملك قدرات كبيرة على كشف دخيلة الإنسان والتعبير عنها، على النحو الأفضل والأمثل. فمنذ تعرف الإنسان الأشكال المسطحة والمجسّم وسيلة للتعبير اهتدى إلى هذه الحقيقة، وجدران الكهوف التي كانت السكن الأول للإنسان، تزخر بمئات الرسوم والصور الوجهية، لكن أقدم الأعمال الفنية التي تناولت الشخصية الإنسانية بمقومات وخصائص تشكيلية وتعبيرية سليمة ومتميزة، قام بها الفنان المصري القديم قبل آلاف السنين، سواء بالرسم أم بالتصوير أم بالنحت، مدفوعاً بحس عقائدي كان يتملكه (العودة إلى الحياة)، بدليل قيام الفراعنة بدفن الميت ومعه جملة من الأشياء التي يحتاج إليها حين العودة إلى الحياة من جديد، ومنها صوره وتماثيله وصور ومنحوتات تمثل الآلهة والفراعنة، نُفِّذت بأسلوب مختزل ومعبر، لا يكشف عواطف الفنان المنفذ ومشاعره الذاتية، إنما كليات مجردة، تتعلق بالعقيدة والمثل العليا التي نهضت عليها الحضارة المصرية القديمة. كما عرف الإغريق القدماء فن الصورة الشخصية، ونفذوها بدوافع وصيغ مختلفة عما عند المصريين القدماء، فقد عاشت الأعمال الفنية الإغريقية بين الناس، وفي أرض الواقع: في الشوارع والحدائق والساحات والقصور والأبنية وحيث تعقد المهرجانات، وتقام المسارح ومنابر الخطابة، وتدار المناقشات والحوارات. ولم تقتصر هذه الأعمال على الملوك والأمراء والقادة والآلهة، بل طالت الفلاسفة والشعراء والكتاب الذين كانت لهم مكانة رفيعة في المجتمع. اعتمد الفنان الإغريقي الصيغة الواقعية المثالية في تنفيذ هذه الأعمال، معتمداً على التراث الكريتي والمسيني Mycenean أو الإيجي. وقد تميزت الهيئات البشرية في الفن الإغريقي بأنها متماثلة وتقوم بالحركة ذاتها، وليس فيها أثر للعمق والنظام المكاني، بل إن أجسامها كانت بلا حجم أو وزن، غارقة في الزخرف السطحي، والتلاعب بالخطوط الممتدة ضمن أشرطة وأحزمة.
    أما في بلاد ما بين النهرين وماري، فقد نالت الشخصية أو فن الصورة اهتماماً ملحوظاً من الرسامين والنحاتين، فكانت توثيقياً وتأريخيا ً لأحداث وشخصيات بارزة، ونفذت بأسلوب بسيط ومختزل، لكنه مستوعب للملامح والهيكل العام والفكرة، على الرغم من حيادية التعبير، مثلها مثل الصورة الشخصية في الفن المصري القديم، حيث لا يجوز للفنان إظهار عواطفه ومشاعره الذاتية.
    وفي العصر الهيلنستي، كانت النزعة التلقائية هي الصفة المميزة لفن الصورة، لأن الذوق الهيلنستي أدى إلى قبول جميع المؤثرات من دون تمييز بينها. لذلك كانت الحضارة الهيلنستية خليطاً هجيناً بحق. أما روما التي حكمها القياصرة، ومعها الإدارة المتجانسة للامبراطورية، فقد أنتجت فناً امبراطورياً متجانساً بدرجات متفاوتة، صار بمضي الوقت متحكماً بالأذواق، لأنه كان يضم في داخله جميع الاتجاهات الأشد تقدمية. وبالتدريج تخلص الفن الرومي من مثله العليا الكلاسيكية لمصلحة نزعة شعبية إقليمية، وصار تطور هذا الفن (ولاسيما في ميدان فن الصورة الشخصية) مرتبطاً بالتراث اليوناني القديم الذي ظل قائماً بلا انقطاع، في أقنعة الأجداد التي كانت تعرض في القاعات.
    كان الفارق الحاسم بين تصوير الشخصيات عند الرومان، وتصويرها عند اليونان، هو أن الأخير كان يستهدف غرضاً واحداً، هو أن يستخدم في الآثار الضخمة العامة، على حين أن الهدف الرئيس من الأول، كان تلبية الحاجات الفردية.
    أما فن الصورة الشخصية في العصر البيزنطي، فقد هدف إلى أن يكون تعبيراً عن سلطة مطلقة هي سلطة الكنيسة، وعن عظمة تفوق مستوى البشر، وإعجاز صوفي، وكان الفن البيزنطي يمثل نقطة القمة، في محاولة تقديم صورة رائعة للشخصيات التي كانت تطالب باحترام الناس وتبجيلهم، وهو اتجاه ازداد وضوحاً في السنوات الأخيرة للامبراطورية.
    أما في صور الفيوم بمصر، فهناك الفن المسيحي، وقد تحرر من معظم القيود المفروضة عليه، لكنه ظل محتفظاً بطابع ديني وروحي عميق، لأنه تعبير عن عصر ظل يتمسك بعمق بالمسيحية، وظل كهنوتياً في تنظيمه.
    والحقيقة المؤكدة، أن الفن بوجه عام، احتاج إلى زمن طويل حتى تمكن من الاستقلال عن المعبد والأسطورة والكنيسة وصور القديسين المكرورة، وتوجَّه من ثم نحو موضوعات الطبيعة والإنسان. وكانت بداية هذا التحول في عصر النهضة الأوربية ومركزها إيطاليا. كان ذلك في بداية القرن الخامس عشر، إذ استعاد الفن الجديد روحية الحضارة اليونانية القديمة، واتخذ من الإنسان مادته الرئيسة، مما مهد لانتشار فن الصورة الشخصية العادية، ولاسيما بعد التطور العلمي والتقاني، وظهور البرجوازية الكبيرة والوسطى التي تبنت الفنون وشجعتها.
    لقد وفر عصر النهضة الحرية للفنان، ودفعه لرصد الحياة، والبحث عن جمالياتها، واعتماد العقل في التفكير والتأمل، بعيداً عن تأثير رجال الدين والأساطير والأفكار الغيبية، وهكذا تحلل الفنان من الضغوط الخارجية، وأخذ حريته الكاملة في التعبير عن المشاعر الإنسانية في أعماله. كما تحلل من الموضوعات التي كانت مفروضة عليه، وصار بإمكانه رسم وجه أمه أو أبيه أو أخته أو حبيبته ورسم صورته أيضاً، إذ بدأت ظاهرةُ (الوجه الشخصي للفنان self- portrait) تنتشر وتسود في نتاجات الفنانين التشكيليين.
    إن أبرز سمات عصر النهضة هي تلك الحرية والتلقائية غير المألوفة في التعبير وتلك الرشاقة والحيوية والتناسق في أدوات التعبير، فقد اختفى ذلك الوقار المتحجر المحسوب في فن العصور الوسطى، لتحل محله طريقة تعبير طافحة بالحيوية والانطلاق، غير أن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، إذ بدأ مع عصر الباروك ظهور فن كنسي جديد، في مقابل فن عصر النهضة الذي كان اتجاهه الأساسي دنيوياً. ومع ذلك لم يكن الاهتمام في عصر الباروك منصباً على القيم الروحية التي تعلو على هذا العالم، بل انصب على الوقار والجلال والفخامة والمجد، ثم جاء بعده عصر التكلُّف الذي نهض على تيارين متعارضين هما: الروحانية الصوفية عند الفنان إلغريكو[ر]، والنزعة الطبيعية المرتكزة على فكرة شمول الألوهية عند بروغل. لكن هذه الحركة لا تمتد في حقبة معينة محددة تاريخياً بدقة، كما أنها اختلطت باتجاهات سادها أسلوب الباروك، ولاسيما في بداية التكلفية وآخرها.
    مارس فن الصورة أو الشخصية عدد كبير من الفنانين التشكيليين المنتمين إلى الواقعية والانطباعية والتعبيرية والسوريالية، ومنهم ليوناردو دافنشي[ر] الذي اتسمت وجوهه بروحية خاصة مستلهمة من أحداث الكتاب المقدس ومن أشهرها (الجوكندا) أو (الموناليزا)، والفنان ميكلانجلو[ر] الذي صور قصة الخلق من منظوره الخاص غير التقليدي، وتقمص القوة الروحية المتفجرة في تمثاله (موسى)، والفنان رافايلو الذي وضع عشرات اللوحات الشخصية ومن بينها لوحة (مادونا) و(ابنة الخباز)، كما قام الفنانون الثلاثة برسم صورهم الشخصية، في محاولة منهم للإعلان عما في داخلهم، ولو بخطوط بسيطة وسريعة، وبلا تزويق أو تنميق. كما تحتفظ متاحف الفن العالمية بروائع من فن الصورة الشخصية، أبدعها فنانون كبار ينتمون لأكثر من اتجاه فني، منهم رامبرانت الذي رسم لنفسه ما يربو على خمس وستين لوحة وجهية في أوضاع وحالات تعبيرية وعمرية مختلفة، مما جعله واحداً من أشهر رسامي الوجوه في العالم. ومن الفنانين الذين وضعوا لوحات وجهية متميزة، فان غوخ ودورر وروبنز وفيلاسكيز وإلغريكو وغويا وهالز وبيكاسو ودالي ومانيه وغوغان ومودلياني... وغيرهم. وكان بين الصور الشخصية التي رسموها عدداً لا بأس به لوجوههم.

    رمبرانت: صورة شخصية

    فان غوج: صورة شخصية
    وفنان الصورة الشخصية أو الوجه، لا بد لـه من أن يضع شيئاً من صورته الذاتية في ملامح النموذج المرسوم أو المنحوت، على هذا النحو أو ذاك، مما دفع بعض الفنانين والنقاد للقول، بأن الصورة الشخصية هي دوماً صورة الفنان مضافاً إليها صورة النموذج.
    ولم تقتصر الصورة الشخصية على وسائل التعبير التقليدية، كالرسم والتصوير والنحت والحفر، بل تعدتها لتصبح الموضوع الأثير للتصوير الضوئي والإعلان المتحرك والثابت، كما صار الوجه المادة الرئيسة لعدد كبير من رسامي الكاريكاتير الساخرين، وأخذت هذه الرسوم والصور طريقها إلى وسائل الإعلام المختلفة، وخاصةً المجلات والصحف، حيث تصيد رسامو الكاريكاتير العلامات الفارقة في الوجه وضخموها أو حوروها من دون التفريط بالشبه الذي يعد شيئاً أساسياً في هذا النوع من الفن. وهناك اليوم مجلات وصحف مختصة بهذا الفن، منتشرة في جميع أنحاء العالم.
    محمود شاهين

يعمل...
X