الحكواتي التراث الدمشقي الشفوي في القرن العشرين
| أنس تللو
إن الجلوس إلى الحكواتي والاستماع إليه من شأنه أن يجعل المرء يشعر كأنه يستمع إلى عدة فنانين ضمن مسرح مجهز بأحدث التجهيزات الفنية الحديثة، فقد كان الحكواتي في القرن العشرين طقساً مميزاً من طقوس رمضان، وكان في الاستماع إليه متعة لا تضاهيها متعة.
واليوم يظن بعض الأشخاص اليوم ممن لم يستمعوا إليه أنه مجرد رجل عادي يحفظ حكايات قديمةً ويعيد سردها.
على حين أن الحكواتي ليس إنساناً عادياً ؛ إذ هو رجل وقور ذو هيبة جليلة تمنحه أمارات الحكمة والصرامة، يحمل بيده عصا (خيرزانة) يلوِّحُ بها كلما دعت الحاجة، يجلس فوق سدة خشبية عالية مجللة بالسجاد، وكانت هيبته هذه تساعده على القيام بعمليتي التصوير والإيحاء، فلقد كان مؤلفاً بديعاً وممثلاً بارعاً ومخرجاً متميزاً ومهندساً للديكور في وقت واحد.
فقد كان قادراً على تصوير مشاهد ممتعة لدرجة تثير الانفعالات، حتى ليشعر المستمع إليه كأنه قد غدا جزءاً منها يعيش بين أهلها، وذلك عبر خيال قصصي بديع يجعل المستمع يتفاعل مع أدق التفاصيل.
على أن الحكواتي كانت له منهجية ثابتة لا يحيد عنها، ولعلها تحمل الكثير من أسرار مهنته الخاصة؛ فقد كان لا يتأخر أبداً عن موعده في الحضور إلى المقهى، وكان لا يدخل في حكايته بشكل مباشر، وإنما كان يبدأ بالحديث عن أمور ضاحكة، ويقدم بعض النصائح الطريفة، لكي يقوم بتهيئة النفوس للاستماع، وهذا كان يسمى بـدهليز الحكاية، ولا يفوته بعد ذلك أن يروي موجزاً عما قدمه في الليلة الماضية، لكي يعود المستمع بذاكرته إلى الأمس، فضلاُ عن ذلك كان بعض الحكواتية يتقن اللغة الفرنسية والتركية ليستخدمهما حين يلاحظ وجود من يستمع إليه من غير العرب، وذلك على الرغم من أنه قد يكون أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وهذه ميزة قلَّ نظيرها في عالم الأدب.
على أن الميزة الأشهر التي يتحلى بها الحكواتي هي قدرته الفائقة على التلوين الصوتي ؛ حيث يغير نبرة صوته بما يتماشى مع وقائع الأحداث في قصته ؛ فيشعر المستمع أنه يعيش مع عدد من الشخصيات، مما يضفي على القصة بعداً واقعياً ملموساً، ويزداد تأثر الجمهور بها، وليس أدل على ذلك من أن بعض المستمعين ينساق أحياناً مع الرواية، وتتزايد حدة انفعالاتهم، فيتصايحون ويطلبون من الحكواتي أن يعدِّل الخاتمة، ثم قد ينقسمون إلى فريقين، وقد يصل بهم الأمر إلى التشاجر في نهاية القصة.
ومن مهاراته الكبيرة أنه كان يتوقف عن الكلام عند جزءٍ مشوق جداً، وذلك لكي تحترق النفوس لهفةً لمتابعة ماذا سيحدث بعده، وذلك لكي يضمن تهافت الناس على الاستماع إليه في اليوم التالي.
من هنا فقد كان الحكواتي فناناً عريقاً، يضاهي بفنه فناني اليوم.
كان هذا من المِتع المتميزة في رمضان القديم، اليوم ضاع هذا الرونق البهيج، رحم اللـه أيام البساطة والهوى.
| أنس تللو
إن الجلوس إلى الحكواتي والاستماع إليه من شأنه أن يجعل المرء يشعر كأنه يستمع إلى عدة فنانين ضمن مسرح مجهز بأحدث التجهيزات الفنية الحديثة، فقد كان الحكواتي في القرن العشرين طقساً مميزاً من طقوس رمضان، وكان في الاستماع إليه متعة لا تضاهيها متعة.
واليوم يظن بعض الأشخاص اليوم ممن لم يستمعوا إليه أنه مجرد رجل عادي يحفظ حكايات قديمةً ويعيد سردها.
على حين أن الحكواتي ليس إنساناً عادياً ؛ إذ هو رجل وقور ذو هيبة جليلة تمنحه أمارات الحكمة والصرامة، يحمل بيده عصا (خيرزانة) يلوِّحُ بها كلما دعت الحاجة، يجلس فوق سدة خشبية عالية مجللة بالسجاد، وكانت هيبته هذه تساعده على القيام بعمليتي التصوير والإيحاء، فلقد كان مؤلفاً بديعاً وممثلاً بارعاً ومخرجاً متميزاً ومهندساً للديكور في وقت واحد.
فقد كان قادراً على تصوير مشاهد ممتعة لدرجة تثير الانفعالات، حتى ليشعر المستمع إليه كأنه قد غدا جزءاً منها يعيش بين أهلها، وذلك عبر خيال قصصي بديع يجعل المستمع يتفاعل مع أدق التفاصيل.
على أن الحكواتي كانت له منهجية ثابتة لا يحيد عنها، ولعلها تحمل الكثير من أسرار مهنته الخاصة؛ فقد كان لا يتأخر أبداً عن موعده في الحضور إلى المقهى، وكان لا يدخل في حكايته بشكل مباشر، وإنما كان يبدأ بالحديث عن أمور ضاحكة، ويقدم بعض النصائح الطريفة، لكي يقوم بتهيئة النفوس للاستماع، وهذا كان يسمى بـدهليز الحكاية، ولا يفوته بعد ذلك أن يروي موجزاً عما قدمه في الليلة الماضية، لكي يعود المستمع بذاكرته إلى الأمس، فضلاُ عن ذلك كان بعض الحكواتية يتقن اللغة الفرنسية والتركية ليستخدمهما حين يلاحظ وجود من يستمع إليه من غير العرب، وذلك على الرغم من أنه قد يكون أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وهذه ميزة قلَّ نظيرها في عالم الأدب.
على أن الميزة الأشهر التي يتحلى بها الحكواتي هي قدرته الفائقة على التلوين الصوتي ؛ حيث يغير نبرة صوته بما يتماشى مع وقائع الأحداث في قصته ؛ فيشعر المستمع أنه يعيش مع عدد من الشخصيات، مما يضفي على القصة بعداً واقعياً ملموساً، ويزداد تأثر الجمهور بها، وليس أدل على ذلك من أن بعض المستمعين ينساق أحياناً مع الرواية، وتتزايد حدة انفعالاتهم، فيتصايحون ويطلبون من الحكواتي أن يعدِّل الخاتمة، ثم قد ينقسمون إلى فريقين، وقد يصل بهم الأمر إلى التشاجر في نهاية القصة.
ومن مهاراته الكبيرة أنه كان يتوقف عن الكلام عند جزءٍ مشوق جداً، وذلك لكي تحترق النفوس لهفةً لمتابعة ماذا سيحدث بعده، وذلك لكي يضمن تهافت الناس على الاستماع إليه في اليوم التالي.
من هنا فقد كان الحكواتي فناناً عريقاً، يضاهي بفنه فناني اليوم.
كان هذا من المِتع المتميزة في رمضان القديم، اليوم ضاع هذا الرونق البهيج، رحم اللـه أيام البساطة والهوى.