توفيق الدقن.. شرير السينما خفيف الظل صاحب القفشات الساخرة
«سينماتوغراف» ـ محمود درويش
لمع نجمه في أدوار الشر وإن كان في الأساس هو نجم فكاهي من الدرجة الأولى، وعادة ما كان يمزج الشر بالفكاهة، أو يربطه بـ «إفييه» ساخر، وحده الذي تمكن من إقناع عبد المنعم إبراهيم في فيلم «سر طاقية الاخفاء» أن عُلبةً تكفي لخاتم ذهبي قد تحوي بداخلها «فيل».
«توفيق الدقن» الممثل الذي وهب نفسه للإبداع، منذُ أن أدى صلاته الأولى في محراب الفن، فتتسلط عليه أضواء الشهرة من شخصيات جسدها بإبداع وتألق.
وفي مثل هذا اليوم 26 نوفمبر 1988، تحل ذكرى رحيل الفنان الراحل توفيق الدقن، أحد أشهر ابناء جيله في تصدر الشاشة الذهبية في أزهى عصورها، 33 عامًا من العطاء والإبداع منذ أن طرق باب التمثيل في خمسينات القرن الماضي تاركًا 233 فيلمًا، وحوالى 10 مسلسلات و5 أعمال مسرحية.
لم تستطع السينما بشكل عام والسينما المصرية بشكل خاص أن تأتي بممثل يستطيع ان يُتقن ادوار الاجرام والمكر والخيانة بشكل باهر كما كان يتقنه الممثل المصري القدير توفيق الدقن الذي استطاع ان يمتلك قلوب الجماهير المصرية والعربية بالرغم من انه كان يلعب ادوارا اجرامية عنيفة تشمئز منها العيون والقلوب.
إلا أن توفيق الدقن كان يلعب تلك الادوار بشكل كوميدي ظريف بالرغم من جدية الأدوار واهمية الفكرة الاجرامية التي تكون وراءها.
والغريب أنه على الرغم من التنافس الشديد في أدوار الشر فإن صداقة حميمة ربطت بين توفيق الدقن ومحمود المليجي وفريد شوقي، واستيفان روستي، وظلت هذه الصداقة تربط بينهم حتى رحلوا جميعاً، لدرجة أنه أثناء تصوير فيلم «المخادعون» عام 1973 كان المشهد يتطلب أن يضرب الممثل حسن حامد زميله توفيق الدقن، لكن الدقن اعترض بشدة وقال في استنكار وبطريقة أدائه المعروفة للجميع: «فريد شوقي يضربني مافيش مانع، محمود المليجي زي بعضه، رشدي أباظة لا بأس به، ياما ضربوني وخصوصاً رشدي أباظة أبو إيد تقيله، لكن حسن حامد صعب قوي».
وساعد شكل وتقاسيم وجه توفيق الدقن وطريقة نطقه كثيرا في جذب الجماهير واقناع المخرجين كي يعطوه تلك الادوار وهم على يقين انهم سيحققون بواسطته الارباح المطلوبة، ولم يلعب توفيق الدقن ادوار بطولة الا انه كان البطل المميز في كل فيلم شارك في بطولته.
بدأ حياته الفنية حين كان طالبا في المعهد العالي للفون المسرحية من خلال ادوار صغيره إلى أن اشترك في فيلم «ظهور الإسلام» عام 1951. التحق بعد تخرجه بالمسرح الحر لمده سبع سنوات ثم التحق بالمسرح القومى وظل عضوا به حتى إحالته إلى التقاعد.
وقدم أكثر من 200 فيلم سينمائي، ومن أبرزها: ابن حميدو، ساحر النساء، صراع في الوادي، عصابة الشيطان، درب المهابيل، نهاية الطريق، الشيطان والخريف، صراع في الميناء، الفتوة، الشيماء، الأقوياء، لعدم كفاية الأدلة، شهيدة الحب الالهي، ادهم الشرقاوي، زقاق المدق، مراتي مدير عام، بيت بلا حنان، التخشيبة، ملف في الاداب، سفاح كرموز، والمذنبون، أما أخر أفلامه فكان اشتراكه في فيلم «المجنون».
واستطاع الدقن في كل أعماله السينمائية بموهبته الفريدة وخلطته الفنية أن يدمج خفة ظله مع الشخصية الشريرة التى يقدمها ليتميز بذلك وسط أبناء جيله ويحفر اسمه كعملاق أدوار الشر الظريف، وسط كبار النجوم الذين كانوا يجسدون تلك الشخصية فى ذلك الوقت.
وقد مكنه ذكاؤه من أن ينفرد بأدوار الشر بعيدا عن الأداء التقليدى، حيث قدم الشخصية الشريرة دون أن يقلد أحدا من النجوم أو يسير على طريقتهم، فى تقديم تلك الشخصية بحذافيرها وبالطريقة التقليدية الغليظة التى اعتاد أن يشاهدها الجمهور فى السينما. واستطاع أن يحافظ على سر خلطته فى تقديمها للجمهور لسنوات طويلة دون أن يشعرهم بالملل منها، وكان ذلك شاهدا على عبقرية هذا النجم الكبير، فقد حرص على إلقاء الإفيهات بصفة مستمرة ومتجددة فى جميع أعماله بعيدا عن الابتذال أو«الاستظراف»، ونجح فى ذلك وجذب انتباه الجميع وجعلهم ينتظرون إفيهاته عندما يشاهدونه على الشاشة فى أى مشهد يظهر فيه من أحد أعماله، والتى مازالت تردد حتى الآن وبين الأجيال الجديدة، وحتى أن الفنانين يرددونها فى بعض الأعمال السينمائية التى نشاهدها حاليا، فهو فنان متجدد بالطفرة وعرف كيف يستمر نجاحه حتى بعد وفاته لسنوات طويلة.
الطيبون والأشرار خرجوا كلهم وراء نعش يوسف بك وهبي الفنان العظيم يودعونه لمثواه الأخير، وبين صفوف المشيعين تساند محمود المليجي على توفيق الدقن يهمس له : «الظاهر خلاص الدفعة مطلوبة وباين الحكاية بالدور يا تيفة»، ويرد توفيق الدقن مجففاً دموعه : «كله على ودنه يا بو حنفي».
وطغى على توفيق الدقن لقب «همبكة» وهو اسم الشحصية التي مثلها في فيلم «بنت الحتة» ولا يزال يتردد لقب «همبكة» على المجرمين والفاسدين في الحياة العامة وربما حتى يومنا هذا، وقد اشتهر الدقن بلزاماته وقفشاته في الأفلام التي شاعت في الحياة العامة منها: (احلى من الشرف مفيش، الو يا أمم، استر يللي بتستر، يآه يا آه، خلاص يا نوسة هانت والنبي).
ونال توفيق الدقن العديد من الأوسمة وشهادات التقدير خلال مشواره الفني حيث حصل على وسام «العلوم والفنون» من الطبقة الأولى عام 1956، و«الاستحقاق والجدارة» في عيد الفن عام 1978، بالإضافة إلى دروع وجوائز أخرى من المسرح القومي واتحاد الإذاعة والتليفزيون. غير أن أهم جائزة نالها في حياته وبعد رحيله، هي حب الجمهور، فيكفي أنه بعد رحيله منذ ما يقرب 28 عاماً عانت السينما المصرية ولا تزال من عدم وجود البديل الذي يصل إلى ربع قامته ونصف عبقرية الدقن.. وبغيابه ترك فراغاً على الساحة الفنية لم يستطع أحد غيره أن يملأه حتى الآن لأنه لا يشبه أحداً وظل منفرداً في موهبته وأدائه الصادق.