حب
Love - Amour
الحب
الحب love بضم الحاء لغوياً يأتي من الجذر الثلاثي «حبب» الذي يعني ودَّ، أي أظهر الوداد، فالحب هو الوداد وهو نقيض البغض. وإذا كانت معاجم اللغة العربية تذكر معاني مختلفة لهذا الجذر فإن المعنى الأكثر شيوعاً وتداولاً هو الذي يشير إلى المحبة والموافقة والميل إلى، وبذا فإن الحِِب والحِبة - بكسر الحاء - والحبيب والحبيبة هو الشخص المحبوب أو هو موضوع الحب ذاته.
يُعبَّر عن الحب بمصطلحات مختلفة، يرتبط بعضها بمستوى الحب وشدته مثل العشق والهيام والصبابة، وللمحبة أربعة ألقاب: الهوى وهو سقوط الحب في قلب المحب، والحب وهو خلوص الهوى إلى القلب، والعشق وهو إفراط المحبة، والود وهو ثبات الهوى أو الحب أو العشق في ما يسوء وما يسر على السواء. وارتبط بعضها الآخر بموضوع الحب أو مادته، ويرى لالاند أنّ الحب: اسم عام، مشترك بين كل الميول التجاذبية، خصوصاً عندما لا يكون موضوعها الحصري تلبية حاجة مادية وإشباعها: كالعواطف الأسرية (حب الأهل للأولاد)، والعواطف التكافلية (حب الوطن، العصبية)، والمنازع الفردية (حب اللعب، حب الأناقة، حب المهنة)، فإذا كان الميل مادياً خالصاً، يستعمل فعل (أحب)، ولكن نادراً ما يستعمل الاسم (حب): يقال إنه يحب الشراب، ولا يقال أبداً عنده حب للشراب وهو مايطلق على النزوع الجنسي بكل أشكاله ودرجاته. وعندما تستعمل الكلمة بمفردها، إنما تكون بهذا المعنى إجمالاً. وهو نزعة معاكسة جوهرياً للأنانية، إما أن يكون موضوعها خيراً معنوياً لشخص آخر: حب التعساء، حب القريب، وإما أن يكون موضوعها فكرة تجري مواجهتها، نسبياً، بشيء من إنكار الذات الكامل، إنكار المصلحة وحتى إنكار الفردية: حب العلم والفن والعدل.
أصل الحب وأطواره
لم تستطع أيَّ نظرية نفسية إلى اليوم أن تحدِّد آلية حدوث الحب، ولم يتم الوصول إلى كلامٍ فصلٍ فيما إذا كانت قدرة الفرد على أن يكون محبوباً ومحباً هو من طبيعته ذاتها أم أنه أمر مكتسب تؤسسه أساليب التربية والتنشئة، آخذين بالحسبان أن الحب صفة إنسانية أساساً تجعل الشخص الواحد محباً ومحبوباً في آن واحد.
هناك من ينظر إلى الحب على أنه حاجة أولية، شأنه شأن أي حاجة أولية، كالحاجة إلى الماء والطعام، مستندين في ذلك إلى أن الطفل الذي لا يعطي الحب ويتلقاه منذ ولادته والمتمثل في الرعاية الوالدية يمكن أن يموت أو يعيش معوقاً من الناحية النفسية.
بالمقابل هناك من ينظر إليه على أنه حاجة مهمة لابدَّ من إشباعها، لكي يتمكن الفرد من العيش سليماً من الناحيتين النفسية والجسمية، وفي ذلك يعدُّ الحب حاجة إنسانية لاحقة تنمو وتشبع كأي حاجة أخرى.
تذهب إحدى النظريات في تفسير آلية حدوث الحب بربطه بالحاجات الأولية للطفل، فعندما يتم إشباع هذه الحاجات لديه يرتبط شعوره بالرضى نتيجة الإشباع بشعور إيجابي نحو أولئك الذين يقومون بعملية الإشباع، وتبعاً لذلك فإن الحاجة إلى أولئك الأشخاص تتحول من كونهم مصدراً للإشباع إلى الحاجة إليهم كأشخاص حتى لو انتهت عملية الإشباع أساساً. فالطفل يحب أمه لأنه يحب الحليب فيتمسك بأمه لأنها مصدر طعامه، ولكنه في فترة لاحقة تصبح الحاجة للأم ذاتها دون الحليب. وقد تنطبق مثل هذه القاعدة على مختلف أنواع الحب أو موضوعاته التي يبدو أنها تحقق إشباعاً من نوع ما لحاجات أولية أو ثانوية.
بالمقابل تذهب نظرية أخرى إلى عد الحب ذاته حاجة أولية فطر عليها الإنسان فالحب مقوِّم أساسي من مقومات الطبيعة الإنسانية، إذ ليس ثمة كائن إنساني قادراً على العيش بعيداً عن حب الآخرين وعطفهم وتعاطفهم معه بدءاً من مرحلة الطفولة حتى مرحلة الشيخوخة. ولذلك لاتستغرب والحال هذه أسئلة الأطفال المستمرة لذويهم عمَّا إذا كانوا يحبونهم أم لا؟!.
وأظهرت الدراسات التي أجريت على أطفال حرموا من الحب الوالدي وعاشوا في بيوت التبني، وآخرين عاشوا في رعاية والديهم، الحاجة إلى الحب سواء نظر إليه كحاجة أولية أو ثانوية، ووجود فروقات واضحة بين المجموعتين في مجالات نموهم المختلفة.
للحب كما للكائن الحي أطوار ثلاثة: مولده وحياته وموته، ومولده لايعود إلى مجرد الحاجة الجنسية، فهذه الحاجة موجودة لدى الحيوان، بينما الحب يتجاوب مع الترقي النفسي للوجود البشري. وكل ما تفعله يقظة الغرائز الجنسية أنها تساعد على خلق الجو النفسي الملائم لمولد الحب، فالدلالة الحيوية للحب لا يمكن أن تكون التناسل، بل هي التحرر من العزلة النفسية، ومن ضغط القوى الأخلاقية والأنا الأعلى التي تقيم السدود في وجه عملية إشباع الغرائز، ولأن الحب يتم في الزمان فهو معرض للموت، فإن تحول الحب إلى كراهية فعل يسير لا يحتاج إلى كبير عناء، فالحب في دنيا البشر فضيلة سريعة أو قيمة خاطفة (مطلق نسبي)، ولئن كان الإنسان يشعر قبل الحب بأنه شيء وعند الحب بأنه كل شيء، إنه يشعر بعد الحب بأنه لاشيء. وهذا هو السبب في أن الحب يتذبذب دائماً بين قطبي الحياة والموت.
الحب بين السواء والشذوذ
يقوم الحب على تقبل الآخر بكل ما لديه، وهو بذلك محاولة لتحقيق الذات عبر الحب، ومحاولة من المحب لأن ينمو ويتحمل مسؤوليته تجاه الآخر، وبذلك يبدو الحب - بحسب ماسلو Maslow أولاً تقبُّلاً للذات ثم تقبُّلاً للآخر، ولا يعني التقبل هنا أن يتغاضى الواحد عن عيوب الآخر بل رؤيته كما هو في الواقع دون أي محاولة لوصفه بما ليس فيه أو تجاهل صفاته غير المألوفة وإنكارها.
ويختلف النظر إلى الحب، سوائه وشذوذه، باختلاف العصر والبيئة والعادات والدين والعرق والأخلاق والموروث، فالمجتمع يتغير، ومعه تتغير الثقافة والحاجات العاطفية، فالصحبة وحرية العلاقات السائدة بين الفتية والفتيات في المجتمعات الأوربية اليوم لا يمكن لمجتمع محافظ آخر أن يرضى عنها ويقبل بها.
الحب في القرآن والسنة
أشار القرآن الكريم مراراً إلى المحبة والود والعطف، واستخدم مصطلح الحب ذاته مرات عدة مع تباين موضوعه فيها، فكان الموضوع هو الخالق تارة )ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخذ مِن دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحبُّونَهم كَحُبِّ اللهِ والذِين آَمَنوا أَشدَّ حُبّاً لله( (البقرة 165)، والإنسان تارة أخرى، فثمة آيات كثيرة تؤكد حب الله للتوابين والمتطهرين والطائعين...، كما كان الأنبياء موضوعاً لهذا الحب )وأَلْقيتُ عَليكَ مَحَبةً مِنّي( (طه 39)، وخصّ الخالق أيضاً العلاقة بين الذكر والأنثى بآياته )وقَالَ نِسْوةٌ في المدِينَةِ امرَأة العَزِيز تُرَاودُ فَتَاها عَنْ نَفْسِه، قَد شَغَفَها حُبّاً، إنا لَنَراهَا في ضَلالِ مُبِين( (يوسف30)، كما كانت الدنيا ومتاعها موضوع الحب في آيات أخرى )فقال إنّي أَحبَبْتُ حُبَّ الخَيرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حتى تَوارَتْ بالحِجَابِ( (ص 32).
أمَّا في السنة فلا يبدو الأمر مختلفاً كثيراً، وإن كان هناك من الأحاديث ما يؤكد الحب بمعنى العشق أو الحب بين المرأة والرجل. يقول الرسول الكريمr: «حُبِّبَ إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجعلت قرَّة عيني في الصلاة» وفي حديث عن ابن عباس «من عشق وكتم وعفّ وصبر غفر الله له وأدخله الجنة» و«من عشق فعف فكتمه فمات فهو شهيد». كما استخدم كلمة حِبة حين قال: «إنها حبة أبيك».
الحب في التراث العربي
الحب لدى العرب أنواع ثلاثة: الحب الطبيعي الغريزي، والغريزي، والإلهي أو الروحي، وقد تناوله كتّاب من أمثال الجاحظ والتوحيدي والثعالبي وغيرهم في أجزاء من مؤلفاتهم فتحدثوا عن الحب في إطار العلاقة بين الرجل والمرأة أكثر من ارتباطه بأي شيء آخر، وفرق هؤلاء بين الحب وغيره من المصطلحات كالهوى والعشق والمحبة والشهوة آخذين بالحسبان ارتباط الحب بالفضيلة أو عدمها، فالجاحظ مثلاً يعد الحب أصل الهوى الذي يتفرع عنه العشق، ويعد عشق النساء من أكبر أسباب الشر. بالمقابل ميز التوحيدي بين المحبة التي تصدر عن النفس الفاضلة والشهوة التي ترتبط بالطبيعة، في حين يعطي الثعالبي الهوى المرتبة الأولى من مراتب الحب تليه العلاقة فالكلف فالعشق ثم اللوعة واللاعج.
وأما أولى المؤلفات المستقلة في دراسة الحب فقد كان «كتاب الزهرة» الذي ألفه محمد بن داود الأصفهاني المعروف بابن داود الذي عدّ الحب الشاكلة والموافقة والمجاذبة النفسية الروحية، فالحب عنده نوع من الحب الروحاني وهو سلوك عقلي تأملي روحي نفسي يهدي الإنسان للسمو بعاطفته إلى المستوى الروحي.
أما أبو الحسن الديلمي فقد ربط في كتابه «عطف الأُلف المألوف على اللام المعطوف» بين الحبيبين ورأى أن النفوس التي لم تتهيأ لقبول الحب البشري الطبيعي لا تستطيع الوصول إلى الحب الصوفي الإلهي، فالذين وصلوا إلى محبة الله هم القادرون على محبة الآخرين.
والحب لديه خمسة أنواع لخمسة أشياء، الحب الإلهي لأهل التوحيد، الحب العقلي لأهل المعرفة، الحب الروحي لخاصة الناس، الحب الطبيعي لعامة الناس، والحب البهيمي لرذال الناس.
والحب عند إخوان الصفا فضيلة، أو أمر موجود في العالم وفي طباع النفوس، وهو قائم مادامت الخليقة موجودة. وقد عدّ بعضهم العشق مرضاً نفسياً لما يتعرض له العاشق من سهر ونحول ولأعراض تشبه ما يعانيه المريض أساساً. والعشق لديهم وإن كان على أنواع إلا أنه اتحاد روحي أو فكري وربما غاية أهدافه هو المعشوق الأول وهو الله.
أمّا ابن حزم فقد تناول موضوع الحب بكتابه «طوق الحمامة في الألفة والأُلاف» من زاوية نفسية تحليلية متأثراً بأفلاطون، فذكر أن الحب اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة، إنه استحسان روحاني وامتزاج نفسي، وهو لا يقوم إلا بين اثنين: ذكر وأنثى متشابهين متوافقين. بسلوك غريزي إنساني يؤدي إلى الرضى النفسي».
كما ناقش الكثير من مفكري الإسلام موضوع الحب، ضمن الإطار العام للقرآن والسنة أمثال الغزالي، وابن سينا، ولسان الدين بن الخطيب، وابن قيم الجوزية.
الحب عند العرب المحدثين
ارتبط معظم الحديث عن ماهية الحب عند المفكرين العرب المحدثين بظاهرة الشعر الغزلي أو الغزل أو الحب العذري والنسيب أكثر من ارتباطه بالأدب. وقد تناول هؤلاء المفكرون الحب من زوايا مختلفة ارتبطت بثقافتهم وانفتاحهم على الثقافة الغربية في محاولة لتفسير بعض حالات الحب العذري المعروفة قديماً «أمثال جميل بثينة، وكثيّر عزة وغيرهم»، تفسيراً نفسياً وتحليلاً أدبياً. ومن ضمن هؤلاء طه حسين الذي يعد أول من أشار إلى ظاهرة العذرية في الشعر العربي القديم، وقد سماها الغزل العفيف إذ ربط بينه وبين الحب الأفلاطوني دون أن يذكر أن الفرق بينه وبين الأفلاطوني يتمثل في أنه لديه يقوم بين رجل وامرأة في حين أنه لدى أفلاطون قائم بين ذكرين يربطهما حب الفضيلة والجمال والمعرفة، وجعل للحب معنى متسامياً، بحسب جدله الصاعد الذي يبدأ بحب الشخص أو الشيء الجميل وينتهي بحب الجمال الإلهي الأسمى مروراً بحب الجمال في المعاني.
وعدَّ عباس محمود العقاد الهوى تعطيلاً للإرادة، ولاسيما الهوى الذي يسمى بالعشق أو الغرام، ورأى أن الطبيعة والدين يدعوان إلى العصمة بين العاشقين، وينكران التدافع إلى الشهوات.
ووجد زكي مبارك أن جوهر الحب هو «الاقتحام والاستئثار والامتلاك»، ورأى فيه عدوان «أرواح على أرواح»، و«استبداد قلوب بقلوب»، فنظر إلى الحب العذري على أنه صراع بين روحين يغالبان مطامع الأفئدة ومطالب الحواس. وهذا الصراع هو رياضة أخلاقية.
إيمان عز
Love - Amour
الحب
الحب love بضم الحاء لغوياً يأتي من الجذر الثلاثي «حبب» الذي يعني ودَّ، أي أظهر الوداد، فالحب هو الوداد وهو نقيض البغض. وإذا كانت معاجم اللغة العربية تذكر معاني مختلفة لهذا الجذر فإن المعنى الأكثر شيوعاً وتداولاً هو الذي يشير إلى المحبة والموافقة والميل إلى، وبذا فإن الحِِب والحِبة - بكسر الحاء - والحبيب والحبيبة هو الشخص المحبوب أو هو موضوع الحب ذاته.
يُعبَّر عن الحب بمصطلحات مختلفة، يرتبط بعضها بمستوى الحب وشدته مثل العشق والهيام والصبابة، وللمحبة أربعة ألقاب: الهوى وهو سقوط الحب في قلب المحب، والحب وهو خلوص الهوى إلى القلب، والعشق وهو إفراط المحبة، والود وهو ثبات الهوى أو الحب أو العشق في ما يسوء وما يسر على السواء. وارتبط بعضها الآخر بموضوع الحب أو مادته، ويرى لالاند أنّ الحب: اسم عام، مشترك بين كل الميول التجاذبية، خصوصاً عندما لا يكون موضوعها الحصري تلبية حاجة مادية وإشباعها: كالعواطف الأسرية (حب الأهل للأولاد)، والعواطف التكافلية (حب الوطن، العصبية)، والمنازع الفردية (حب اللعب، حب الأناقة، حب المهنة)، فإذا كان الميل مادياً خالصاً، يستعمل فعل (أحب)، ولكن نادراً ما يستعمل الاسم (حب): يقال إنه يحب الشراب، ولا يقال أبداً عنده حب للشراب وهو مايطلق على النزوع الجنسي بكل أشكاله ودرجاته. وعندما تستعمل الكلمة بمفردها، إنما تكون بهذا المعنى إجمالاً. وهو نزعة معاكسة جوهرياً للأنانية، إما أن يكون موضوعها خيراً معنوياً لشخص آخر: حب التعساء، حب القريب، وإما أن يكون موضوعها فكرة تجري مواجهتها، نسبياً، بشيء من إنكار الذات الكامل، إنكار المصلحة وحتى إنكار الفردية: حب العلم والفن والعدل.
أصل الحب وأطواره
لم تستطع أيَّ نظرية نفسية إلى اليوم أن تحدِّد آلية حدوث الحب، ولم يتم الوصول إلى كلامٍ فصلٍ فيما إذا كانت قدرة الفرد على أن يكون محبوباً ومحباً هو من طبيعته ذاتها أم أنه أمر مكتسب تؤسسه أساليب التربية والتنشئة، آخذين بالحسبان أن الحب صفة إنسانية أساساً تجعل الشخص الواحد محباً ومحبوباً في آن واحد.
هناك من ينظر إلى الحب على أنه حاجة أولية، شأنه شأن أي حاجة أولية، كالحاجة إلى الماء والطعام، مستندين في ذلك إلى أن الطفل الذي لا يعطي الحب ويتلقاه منذ ولادته والمتمثل في الرعاية الوالدية يمكن أن يموت أو يعيش معوقاً من الناحية النفسية.
بالمقابل هناك من ينظر إليه على أنه حاجة مهمة لابدَّ من إشباعها، لكي يتمكن الفرد من العيش سليماً من الناحيتين النفسية والجسمية، وفي ذلك يعدُّ الحب حاجة إنسانية لاحقة تنمو وتشبع كأي حاجة أخرى.
تذهب إحدى النظريات في تفسير آلية حدوث الحب بربطه بالحاجات الأولية للطفل، فعندما يتم إشباع هذه الحاجات لديه يرتبط شعوره بالرضى نتيجة الإشباع بشعور إيجابي نحو أولئك الذين يقومون بعملية الإشباع، وتبعاً لذلك فإن الحاجة إلى أولئك الأشخاص تتحول من كونهم مصدراً للإشباع إلى الحاجة إليهم كأشخاص حتى لو انتهت عملية الإشباع أساساً. فالطفل يحب أمه لأنه يحب الحليب فيتمسك بأمه لأنها مصدر طعامه، ولكنه في فترة لاحقة تصبح الحاجة للأم ذاتها دون الحليب. وقد تنطبق مثل هذه القاعدة على مختلف أنواع الحب أو موضوعاته التي يبدو أنها تحقق إشباعاً من نوع ما لحاجات أولية أو ثانوية.
بالمقابل تذهب نظرية أخرى إلى عد الحب ذاته حاجة أولية فطر عليها الإنسان فالحب مقوِّم أساسي من مقومات الطبيعة الإنسانية، إذ ليس ثمة كائن إنساني قادراً على العيش بعيداً عن حب الآخرين وعطفهم وتعاطفهم معه بدءاً من مرحلة الطفولة حتى مرحلة الشيخوخة. ولذلك لاتستغرب والحال هذه أسئلة الأطفال المستمرة لذويهم عمَّا إذا كانوا يحبونهم أم لا؟!.
وأظهرت الدراسات التي أجريت على أطفال حرموا من الحب الوالدي وعاشوا في بيوت التبني، وآخرين عاشوا في رعاية والديهم، الحاجة إلى الحب سواء نظر إليه كحاجة أولية أو ثانوية، ووجود فروقات واضحة بين المجموعتين في مجالات نموهم المختلفة.
للحب كما للكائن الحي أطوار ثلاثة: مولده وحياته وموته، ومولده لايعود إلى مجرد الحاجة الجنسية، فهذه الحاجة موجودة لدى الحيوان، بينما الحب يتجاوب مع الترقي النفسي للوجود البشري. وكل ما تفعله يقظة الغرائز الجنسية أنها تساعد على خلق الجو النفسي الملائم لمولد الحب، فالدلالة الحيوية للحب لا يمكن أن تكون التناسل، بل هي التحرر من العزلة النفسية، ومن ضغط القوى الأخلاقية والأنا الأعلى التي تقيم السدود في وجه عملية إشباع الغرائز، ولأن الحب يتم في الزمان فهو معرض للموت، فإن تحول الحب إلى كراهية فعل يسير لا يحتاج إلى كبير عناء، فالحب في دنيا البشر فضيلة سريعة أو قيمة خاطفة (مطلق نسبي)، ولئن كان الإنسان يشعر قبل الحب بأنه شيء وعند الحب بأنه كل شيء، إنه يشعر بعد الحب بأنه لاشيء. وهذا هو السبب في أن الحب يتذبذب دائماً بين قطبي الحياة والموت.
الحب بين السواء والشذوذ
يقوم الحب على تقبل الآخر بكل ما لديه، وهو بذلك محاولة لتحقيق الذات عبر الحب، ومحاولة من المحب لأن ينمو ويتحمل مسؤوليته تجاه الآخر، وبذلك يبدو الحب - بحسب ماسلو Maslow أولاً تقبُّلاً للذات ثم تقبُّلاً للآخر، ولا يعني التقبل هنا أن يتغاضى الواحد عن عيوب الآخر بل رؤيته كما هو في الواقع دون أي محاولة لوصفه بما ليس فيه أو تجاهل صفاته غير المألوفة وإنكارها.
ويختلف النظر إلى الحب، سوائه وشذوذه، باختلاف العصر والبيئة والعادات والدين والعرق والأخلاق والموروث، فالمجتمع يتغير، ومعه تتغير الثقافة والحاجات العاطفية، فالصحبة وحرية العلاقات السائدة بين الفتية والفتيات في المجتمعات الأوربية اليوم لا يمكن لمجتمع محافظ آخر أن يرضى عنها ويقبل بها.
الحب في القرآن والسنة
أشار القرآن الكريم مراراً إلى المحبة والود والعطف، واستخدم مصطلح الحب ذاته مرات عدة مع تباين موضوعه فيها، فكان الموضوع هو الخالق تارة )ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخذ مِن دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحبُّونَهم كَحُبِّ اللهِ والذِين آَمَنوا أَشدَّ حُبّاً لله( (البقرة 165)، والإنسان تارة أخرى، فثمة آيات كثيرة تؤكد حب الله للتوابين والمتطهرين والطائعين...، كما كان الأنبياء موضوعاً لهذا الحب )وأَلْقيتُ عَليكَ مَحَبةً مِنّي( (طه 39)، وخصّ الخالق أيضاً العلاقة بين الذكر والأنثى بآياته )وقَالَ نِسْوةٌ في المدِينَةِ امرَأة العَزِيز تُرَاودُ فَتَاها عَنْ نَفْسِه، قَد شَغَفَها حُبّاً، إنا لَنَراهَا في ضَلالِ مُبِين( (يوسف30)، كما كانت الدنيا ومتاعها موضوع الحب في آيات أخرى )فقال إنّي أَحبَبْتُ حُبَّ الخَيرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حتى تَوارَتْ بالحِجَابِ( (ص 32).
أمَّا في السنة فلا يبدو الأمر مختلفاً كثيراً، وإن كان هناك من الأحاديث ما يؤكد الحب بمعنى العشق أو الحب بين المرأة والرجل. يقول الرسول الكريمr: «حُبِّبَ إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجعلت قرَّة عيني في الصلاة» وفي حديث عن ابن عباس «من عشق وكتم وعفّ وصبر غفر الله له وأدخله الجنة» و«من عشق فعف فكتمه فمات فهو شهيد». كما استخدم كلمة حِبة حين قال: «إنها حبة أبيك».
الحب في التراث العربي
الحب لدى العرب أنواع ثلاثة: الحب الطبيعي الغريزي، والغريزي، والإلهي أو الروحي، وقد تناوله كتّاب من أمثال الجاحظ والتوحيدي والثعالبي وغيرهم في أجزاء من مؤلفاتهم فتحدثوا عن الحب في إطار العلاقة بين الرجل والمرأة أكثر من ارتباطه بأي شيء آخر، وفرق هؤلاء بين الحب وغيره من المصطلحات كالهوى والعشق والمحبة والشهوة آخذين بالحسبان ارتباط الحب بالفضيلة أو عدمها، فالجاحظ مثلاً يعد الحب أصل الهوى الذي يتفرع عنه العشق، ويعد عشق النساء من أكبر أسباب الشر. بالمقابل ميز التوحيدي بين المحبة التي تصدر عن النفس الفاضلة والشهوة التي ترتبط بالطبيعة، في حين يعطي الثعالبي الهوى المرتبة الأولى من مراتب الحب تليه العلاقة فالكلف فالعشق ثم اللوعة واللاعج.
وأما أولى المؤلفات المستقلة في دراسة الحب فقد كان «كتاب الزهرة» الذي ألفه محمد بن داود الأصفهاني المعروف بابن داود الذي عدّ الحب الشاكلة والموافقة والمجاذبة النفسية الروحية، فالحب عنده نوع من الحب الروحاني وهو سلوك عقلي تأملي روحي نفسي يهدي الإنسان للسمو بعاطفته إلى المستوى الروحي.
أما أبو الحسن الديلمي فقد ربط في كتابه «عطف الأُلف المألوف على اللام المعطوف» بين الحبيبين ورأى أن النفوس التي لم تتهيأ لقبول الحب البشري الطبيعي لا تستطيع الوصول إلى الحب الصوفي الإلهي، فالذين وصلوا إلى محبة الله هم القادرون على محبة الآخرين.
والحب لديه خمسة أنواع لخمسة أشياء، الحب الإلهي لأهل التوحيد، الحب العقلي لأهل المعرفة، الحب الروحي لخاصة الناس، الحب الطبيعي لعامة الناس، والحب البهيمي لرذال الناس.
والحب عند إخوان الصفا فضيلة، أو أمر موجود في العالم وفي طباع النفوس، وهو قائم مادامت الخليقة موجودة. وقد عدّ بعضهم العشق مرضاً نفسياً لما يتعرض له العاشق من سهر ونحول ولأعراض تشبه ما يعانيه المريض أساساً. والعشق لديهم وإن كان على أنواع إلا أنه اتحاد روحي أو فكري وربما غاية أهدافه هو المعشوق الأول وهو الله.
أمّا ابن حزم فقد تناول موضوع الحب بكتابه «طوق الحمامة في الألفة والأُلاف» من زاوية نفسية تحليلية متأثراً بأفلاطون، فذكر أن الحب اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة، إنه استحسان روحاني وامتزاج نفسي، وهو لا يقوم إلا بين اثنين: ذكر وأنثى متشابهين متوافقين. بسلوك غريزي إنساني يؤدي إلى الرضى النفسي».
كما ناقش الكثير من مفكري الإسلام موضوع الحب، ضمن الإطار العام للقرآن والسنة أمثال الغزالي، وابن سينا، ولسان الدين بن الخطيب، وابن قيم الجوزية.
الحب عند العرب المحدثين
ارتبط معظم الحديث عن ماهية الحب عند المفكرين العرب المحدثين بظاهرة الشعر الغزلي أو الغزل أو الحب العذري والنسيب أكثر من ارتباطه بالأدب. وقد تناول هؤلاء المفكرون الحب من زوايا مختلفة ارتبطت بثقافتهم وانفتاحهم على الثقافة الغربية في محاولة لتفسير بعض حالات الحب العذري المعروفة قديماً «أمثال جميل بثينة، وكثيّر عزة وغيرهم»، تفسيراً نفسياً وتحليلاً أدبياً. ومن ضمن هؤلاء طه حسين الذي يعد أول من أشار إلى ظاهرة العذرية في الشعر العربي القديم، وقد سماها الغزل العفيف إذ ربط بينه وبين الحب الأفلاطوني دون أن يذكر أن الفرق بينه وبين الأفلاطوني يتمثل في أنه لديه يقوم بين رجل وامرأة في حين أنه لدى أفلاطون قائم بين ذكرين يربطهما حب الفضيلة والجمال والمعرفة، وجعل للحب معنى متسامياً، بحسب جدله الصاعد الذي يبدأ بحب الشخص أو الشيء الجميل وينتهي بحب الجمال الإلهي الأسمى مروراً بحب الجمال في المعاني.
وعدَّ عباس محمود العقاد الهوى تعطيلاً للإرادة، ولاسيما الهوى الذي يسمى بالعشق أو الغرام، ورأى أن الطبيعة والدين يدعوان إلى العصمة بين العاشقين، وينكران التدافع إلى الشهوات.
ووجد زكي مبارك أن جوهر الحب هو «الاقتحام والاستئثار والامتلاك»، ورأى فيه عدوان «أرواح على أرواح»، و«استبداد قلوب بقلوب»، فنظر إلى الحب العذري على أنه صراع بين روحين يغالبان مطامع الأفئدة ومطالب الحواس. وهذا الصراع هو رياضة أخلاقية.
إيمان عز