شغف التونسيين بالسهرات الصوفية.. إيقاع وقشور أم تراث وجذور

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شغف التونسيين بالسهرات الصوفية.. إيقاع وقشور أم تراث وجذور

    شغف التونسيين بالسهرات الصوفية.. إيقاع وقشور أم تراث وجذور


    الموسيقى الصوفية الراقصة تفرّد تونسي يبدو للبعض تناقضا.
    الاثنين 2023/04/03


    لا تناقض في الفن

    هناك نوع من التصالح مع الماضي في تونس قد يبدو للبعض تناقضا، أو أمرا غير مفهوم، فتجد الشباب بلباسه الحديث وتمرده على التقاليد والأعراف، لكنه ينخرط في نوبة رقص واستمتاع إذا وضعت الأغاني الصوفية أو الأناشيد الدينية التونسية، ويحولها إلى رقص. ورغم أن التجربة مع هذه الأنماط الموسيقية تراجع مستواها إلا أنها مازالت ناجحة جماهيريا.

    السهرات الرمضانية في تونس تفتح شهية متعهدي الحفلات والصحافة المواكبة والمروجة لعروضهم في الإعلام إلى عبارة تتكرر عشرات المرات في اليوم الواحد وهي “تمتعوا بالسهرة الصوفية الفلانية على الأنغام الموسيقية الروحية بالقاعة الفلانية”.

    ويضيفون إلى هذه الإعلانات جملة من الكليشيهات الجاهزة على شاكلة “تمتعوا بحفل يصالح الجمهور مع عبق التراث الصوفي والإنشاد الديني الذي تزخر به بلادنا المعروفة بأوليائها الصالحين منذ مئات السنين”.
    إحياء الموروث


    تونس قبلة فناني الإنشاد الديني ذي الإيقاع الراقص خصوصا في رمضان الذي يعد مهرجان المدينة أبرز تظاهراته

    هكذا، ودون أن يتوقف المعلنون ولو لحظات، عند ما ينطقونه من مصطلحات على خلفية قرع الدفوف وتمايل السناجق وتصاعد الأبخرة التي يتمايل معها الجمهور ضمن ما يُعرف بـ”الحضرة” و”النوبة” و”الخرجة” و”التخميرة” وغيرها من المصطلحات الصوفية في عمق حقيقتها لدى أهلها، لكنها مجوفة عند الكثير من المشعوذين ومتعهدي الحفلات.

    وأغلب المنشدين والعازفين والراقصين يفتقرون بدورهم إلى ذلك الألق والحضور الذهني الذي اعتدنا مشاهدته صغارا في الزوايا والمقامات الصوفية، لكن “لا بأس”، يقول قائل؛ فإحياء هذا الموروث، ولو بصورة تجارية استعراضية، أفضل بكثير من تركه طي النسيان.

    ليس هناك من ينكر أن الثقافة الروحية لها جذور راسخة في تونس وبلاد المغرب عموما، حتى لا تكاد تجد قرية أو بلدة أو مدينة تخلو من مقام لأحد الأولياء أو القديسين، ولكل واحد من هؤلاء طريقة وموسم لإحياء ذكراه ضمن احتفاليات تمتد على مدار العام، وتزيد.

    يمشي هذا الموروث التقليدي حذو الحياة اليومية، يلتصق ويتشابك مع النشاطات البشرية والثقافية والتجارية أيما التصاق، ومنذ مئات السنين فعلا.

    ومن الباحثين من يؤكد على أن هذه الثقافة حافظت على الهوية الوطنية وحمتها من الذوبان والاندثار فترة الاستعمار وحملات الفرنسة والتجنيس.


    إحياء الموروث صار تجاريا استعراضيا


    جاءت دولة الاستقلال، ورأت الدولة البورقيبية ذات التوجه الحداثي، أن لا داعي للمضي قدما نحو ثقافة الكتاتيب والزوايا في عصر العلم وضرورة الالتحاق بركب الأمم المتحضرة، فبادرت إلى تحجيم و”تهذيب” هذه الظواهر ضمن فعاليات ثقافية على شكل مهرجانات وملتقيات تجمع الفروسية والعكاظيات الشعرية والأغاني الفلكلورية ببعض النشاطات التجارية وعرض الصناعات التقليدية.

    بدأت هذه الخطة تعطي ثمارها دون أن تقع عملية قطع أو بتر من شأنها أن تغضب أهالي البلد، خصوصا أولئك الذين لم يحصلوا على حصتهم الكافية من التعليم.

    وظل هذا التراث اللامادي قائما بالتوازي مع الثقافة الحديثة القادمة من الضفة الشمالية مع جيل جديد من التنويريين واليساريين الذين أخصبوا الآداب والفنون في السبعينات، والحق يقال.

    ثمة رافد آخر للمشهد الثقافي التونسي قادم من بلاد المشرق، وبالتحديد من مصر والعراق وسوريا، وصبغ هؤلاء الثقافة التونسية بنزعة عروبية، لكنها ذات منحى أقرب إلى العلمانية، كما أن الإسلاميين وقتئذ لم يكن لهم حضور ظاهر.

    وفي المقابل، اشتد حضور النزعة التونسية والافتخار بها دون تصادم مع التوجه البورقيبي الذي كان يفخر ويطرب لما يسمى بـ”الخصوصية التونسية” فشجع عليها، حتى صار بعضهم يدعو إلى الكتابة بالعامية التونسية، فيما يذكر بمثيلتها اللبنانية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

    استمرت الدعوة نحو “التونسة في الثقافة الوطنية”، حتى في مدارس تلاوة القرآن وتجويده، بخلاف المدارس المشرقية مستأنسين لإرث جامع الزيتونة وفقهائه التنويريين، بخلاف جامع الأزهر، وما كان يثار من خلاف ثقافي ومماحكات بين مصر وتونس.

    وما شجع التونسيين على هذا التوجه هو قول مناصر مشروع الحبيب بورقيبة آنذاك، المفكر المصري طه حسين، حول رأيه في تلاوة الشيخ التونسي الشهير علي البراق (1899 – 1981)، الذي يتزعم مدرسة بكاملها في التلاوة، “إن صوته يعيدنا إلى الزمن الأول لنزول القرآن وبدء الحضارة العربية”.

    كل هذا زاد افتخار التونسيين بتفردهم فبدؤوا يفكرون بقراءة تراثهم الديني والصوفي على طريقتهم.
    الإنشاد الراقص



    عروض صوفية إيقاعية راقصة


    استمرت هذه الخصوصية في التعامل مع التراث الديني والصوفي في الفنون والآداب والعروض الفرجوية، إلى أن جاءت سنة 1991 وأفلح الفنان المسرحي التونسي الفاضل الجزيري في تقديم العرض الأول للحضرة التي شغلت الدنيا وملأت الناس بالجدل والنقاش.

    وساهم العرض في إحداث المصالحة المطلوبة بين الجمهور العريض وتاريخه الفني والصوفي والمساهم في “بناء الشخصية التونسية المتأصلة في تربتها والمتفرعة بأغصانها للبحث نحو التواصل مع الآخر” كما يقول النقاد والمناصرون لتجربته المتفردة، آنذاك.

    كان عرضه الصوفي الراقص الأول يحمل عنوان “الحضرة” وحقق نجاحا جماهيريا لم يسبق له مثيل من خلال استدعائه لمختلف الطرق الصوفية التونسية في عرض حقق الإدهاش الكامل، وعرض في مدن ومهرجانات أوروبية عديدة.

    توالت النجاحات الجماهيرية ووقع استنساخ هذه التجربة في “دكاكين فنية” تتكاثر كالفطر، والغريب أنها استمرت ناجحة أينما حلت.

    التراث اللامادي لتونس بقي قائما بالتوازن مع الثقافة الحديثة القادمة من الشمال مع جيل جديد من التنويريين

    ومن وقتها، تميزت تونس بمثل هذه العروض الصوفية الإيقاعية الراقصة، وزاد عليها مخرجون كثر شتى ألوان التراث الصوفي التونسي بالتحديد، وذلك تزامنا مع إقبال جماهيري منقطع النظير، ولم يملها أبدا.

    وظلت تونس قبلة فناني الإنشاد الديني ذي الإيقاع الراقص، خصوصا في رمضان الذي يعد مهرجان المدينة أحد أهم تظاهراته، وأمسى يكبر عاما بعد عام، وصنع لنفسه جمهورا مترامي الأطراف، وشغوفا إلى حد الجنون.

    وتجدر الإشارة إلى أن هذه التجربة تبقى تفردا تونسيا بامتياز، لا لأن بقية الأقطار العربية تفتقر إلى هذا الموروث الصوفي، فمصر والمغرب يزخران بمثل هذه الثقافة الصوفية، لكن معادلة غريبة في تونس أدت إلى إنجاحها. لعلها ذلك التصالح الغريب بين الماضي والحاضر، إذ نشاهد شبانا وفتيات يرقصون بحماسة على هذه الأنغام، وبثياب حديثة، وكذلك من كل الفئات العمرية.

    خلاصة القول، إن هذه لم تعد ظاهرة حتى نقول إنها ربما تختفي بل هي في ازدياد حتى أصبحت طبيعة ثانية في سلوك الشخصية التونسية. ومازال علماء الاجتماع يحللونها، يحتارون، ويختلفون عليها كثيرا.

    ولا بد من التذكير بأن موسيقيين كثيرين من بلدان مثل لبنان وسوريا ومصر، في تجارب لمارسيل خليفة وعابد عازرية وبشار زرقان، تبنوا الغناء الصوفي لقصائد الحلاج والسهروردي وابن الفارض، لكنهم لم يوفقوا جماهيريا، وظلوا نخبويين، ولا يمكن لهم أن يهزوا حماس الجمهور التونسي مهما فعلوا.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    حكيم مرزوقي
    كاتب تونسي
يعمل...
X