شُعوبُ البَحرِ
تعرضت مناطق شرقي البحر المتوسط، ولاسيما سورية والساحل الفينيقي ووادي النيل، في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، لهجمات من قبائل مختلفة يعتقد أن غالبيتها كانت هندية أوربية Indo-European، قدمت من مناطق أرخبيل بحر إيجة والبلقان، وربما من جزيرة قبرص واليونان أيضاً، حسب المعطيات الأثرية الحديثة. ويبدو أن هذه القبائل أو ما سمي فيما بعد شعوب البحر: The Sea Peoples، لم يكونوا بمجملهم قراصنة يبتغون الاستيلاء على المناطق الخصبة، وإنما كان منهم أقوام مهاجرون، أُجبروا على ترك أراضيهم، تحت ضغط قبائل أخرى، وهذا ما حصل لقبائل الآخيين Achaeans الذين اضطروا إلى الرحيل عن أرضهم، نتيجة استيلاء الدوريين القادمين من البلقان عليها.وكان بين شعوب البحر قبائل وشعوب أصابها القحط، فهاجرت إلى مناطق شرقي المتوسط ولاسيما سورية ومصر.
لم تَفِدْ شعوب البحر إلى المنطقة دفعة واحدة، بل كانت هجماتهم على مراحل، وعلى امتداد ثلاثة قرون من الزمن، ومن تلك الشعوب الفريجيون Phrygians، والليسيون المعروفون باسم Ekwesh، والفلستيون (البلست) Peleset والتجيكر Tjekkerوالشاكلاش Shekelesh والشردانيون Sherdenواللوكيون Lukka وغيرهم.
وردت بعض أسماء قبائل شعوب البحر في وثائق فراعنة مصر، وملوك الدولة الحثية منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد، حيث كانت تصل أفواج منهم إلى مصر للعمل كمرتزقة في الجيش المصري كالشردانيين، أو في صفوف الدويلات السورية الموالية لمصر ضد الدولة الحثية مثل قبائل الدانونةDenyen والشاكلاش واللوكيين، وكانت قبائل منهم تنزل في منطقة الأناضول وتؤازر الدولة الحثية في حروبها ضد الامبراطورية المصرية، مثل البداسا Baddassa والدردانيDardani والماسا Massa والكرانيشا Kranishaوالإيرونيتا Eronita وغيرها من القبائل.
وصل القسم الأول من هذه القبائل من البلقان، وهو من الفريجيين والماسا، إلى سواحل آسيا الصغرى، واتحدوا مع قبائل الكازكاز Kazkaz، أعداء الحثيين، الذين كانوا يقطنون في المناطق الشمالية من آسيا الصغرى، ولاسيما السواحل الجنوبية من البحر الأسود وبحر مرمرة، وتحركوا نحو العاصمة الحثية حاتوشا[ر]، وعملوا على إحراقها وتدميرها، عام 1200ق.م تقريباً، رغم تحرك فرعون مصر «مرنبتاح» لمساعدتها، ورغم مؤازرة المدن الموالية لها كأغاريت. وبعد تدميرهم للدولة الحثية تابع الغزاة سيرهم فدمروا كركميش (جرابلس)، وجعلوا قاعدتهم في أمورو.
أما القسم الثاني من القبائل المغيرة، فقد اتجه بسفنه من كريت إلى قبرص فدمرها وأجبر حكامها على الانضمام إليه، ثم تابع مسيره إلى أوغاريت حيث دمرها، واتجه إلى أرواد فجعلها قاعدة له للهجوم على الساحل السوري كله.
بدأت هجمات شعوب البحر على مصر منذ عهد الفرعون «مرنبتاح» (1236-1223ق.م)، الذي واجه تحالفاً ضم شعوب البحر مع الليبيين، إلا أن «مرنبتاح» استطاع صدَّهم، وهَزَمَهم وقتل وأسر الكثير منهم.
تجددت هجمات شعوب البحر في عهد الفرعون رعمسيس الثالث[ر] (1198-1166ق.م)، حيث قاموا بعدة حملات على مصر، كان أولها في السنة الخامسة من حكمه، حين شنت شعوب البحر مع حلفائهم الليبيين هجوماً كبيراً على حدود الدلتا الغربية، وحاولوا الوصول إلى مدينة منف، فاستطاع رعمسيس صدهم، وهزمهم هزيمة منكرة، وأعادوا الكرة في السنة الثامنة من حكمه، ولكنه استطاع سحقهم، وتمكن من استئصال شأفتهم وإبعاد خطرهم بشكل نهائي عن مصر وغربي آسيا، وقد سجل تفصيلات انتصاراته على جدران معبده في مدينة هابو الواقعة على البر الغربي للعاصمة طيبة.
كانت آخر حملاتهم على مصر في السنة الحادية عشرة من حكم رعمسيسس الثالث، حيث قامت قبائل المشواش Meshweshالقاطنة في الصحراء، غربي أراضي ليبيا، بهجوم من جهة الدلتا مع حلفائهم الليبيين، واستطاع الحلفاء الاستيلاء على المنطقة الواقعة إلى الغرب من الدلتا، ووصلوا إلى فرع النيل الغربي، إلا أن رعمسيس صدَّهم وانتصر عليهم مرة أخرى.
كان لغزوات شعوب البحر نتائج مهمة ومؤثرة على مناطق المشرق العربي القديم، ومن أهمها القضاء على إحدى أعظم امبراطوريات ذلك العصر، وهي الدولة الحثية، ودمار بعض المدن الفينيقية التي كان لها دور مؤثر في المنطقة، مثل كركميش وصيدا وصور، وأغاريت التي اختفت من خارطة التاريخ، بينما نهضت مدينتا صيدا وصور من جديد. ويظهر من البقايا الأثرية أن بعض قبائل شعوب البحر قد استقر في موقع ابن هانئ التابعة لأغاريت على الساحل السوري. لقد استطاعت مصر صد الهجمات التي توجهت إلى أراضيها، لكنها خسرت أراضيها في سورية والساحل الفينيقي، واضطرت إلى التراجع والانكماش في وادي النيل.
استقرت بعض قبائل شعوب البحر في نواحي البحر المتوسط، فقبائل البلست، التي جاءت من كريت، أو قبرص حسب الدلائل الأثرية الحديثة، استقرت على ساحل فلسطين الجنوبي الممتد من دور إلى غزة، ثم انضم البلست إلى الكنعانيين والعموريين سكان المنطقة الأصليين وانصهروا فيهم وعبدوا إلههم (دجن)، ومع مرور الوقت أخذت المنطقة اسمهم وأصبحت تدعى فلسطين، وهم الذين أدخلوا معدن الحديد إلى المنطقة. أما الشردان فقد توجهوا إلى جزيرة سردينيا واستوطنوا فيها وأعطوها اسمهم، وكذلك الأمر بالنسبة لقبائل الشكلاش الذين استقروا في صقلية وسميت باسمهم، بينما ذهب الأتروسكيون Etruscans إلى شبه الجزيرة الإيطالية وأسسوا عدداً من دول المدن في القسم الشمالي الوسيط منها.
إبراهيم توكلنا
تعرضت مناطق شرقي البحر المتوسط، ولاسيما سورية والساحل الفينيقي ووادي النيل، في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، لهجمات من قبائل مختلفة يعتقد أن غالبيتها كانت هندية أوربية Indo-European، قدمت من مناطق أرخبيل بحر إيجة والبلقان، وربما من جزيرة قبرص واليونان أيضاً، حسب المعطيات الأثرية الحديثة. ويبدو أن هذه القبائل أو ما سمي فيما بعد شعوب البحر: The Sea Peoples، لم يكونوا بمجملهم قراصنة يبتغون الاستيلاء على المناطق الخصبة، وإنما كان منهم أقوام مهاجرون، أُجبروا على ترك أراضيهم، تحت ضغط قبائل أخرى، وهذا ما حصل لقبائل الآخيين Achaeans الذين اضطروا إلى الرحيل عن أرضهم، نتيجة استيلاء الدوريين القادمين من البلقان عليها.وكان بين شعوب البحر قبائل وشعوب أصابها القحط، فهاجرت إلى مناطق شرقي المتوسط ولاسيما سورية ومصر.
لم تَفِدْ شعوب البحر إلى المنطقة دفعة واحدة، بل كانت هجماتهم على مراحل، وعلى امتداد ثلاثة قرون من الزمن، ومن تلك الشعوب الفريجيون Phrygians، والليسيون المعروفون باسم Ekwesh، والفلستيون (البلست) Peleset والتجيكر Tjekkerوالشاكلاش Shekelesh والشردانيون Sherdenواللوكيون Lukka وغيرهم.
وردت بعض أسماء قبائل شعوب البحر في وثائق فراعنة مصر، وملوك الدولة الحثية منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد، حيث كانت تصل أفواج منهم إلى مصر للعمل كمرتزقة في الجيش المصري كالشردانيين، أو في صفوف الدويلات السورية الموالية لمصر ضد الدولة الحثية مثل قبائل الدانونةDenyen والشاكلاش واللوكيين، وكانت قبائل منهم تنزل في منطقة الأناضول وتؤازر الدولة الحثية في حروبها ضد الامبراطورية المصرية، مثل البداسا Baddassa والدردانيDardani والماسا Massa والكرانيشا Kranishaوالإيرونيتا Eronita وغيرها من القبائل.
وصل القسم الأول من هذه القبائل من البلقان، وهو من الفريجيين والماسا، إلى سواحل آسيا الصغرى، واتحدوا مع قبائل الكازكاز Kazkaz، أعداء الحثيين، الذين كانوا يقطنون في المناطق الشمالية من آسيا الصغرى، ولاسيما السواحل الجنوبية من البحر الأسود وبحر مرمرة، وتحركوا نحو العاصمة الحثية حاتوشا[ر]، وعملوا على إحراقها وتدميرها، عام 1200ق.م تقريباً، رغم تحرك فرعون مصر «مرنبتاح» لمساعدتها، ورغم مؤازرة المدن الموالية لها كأغاريت. وبعد تدميرهم للدولة الحثية تابع الغزاة سيرهم فدمروا كركميش (جرابلس)، وجعلوا قاعدتهم في أمورو.
أما القسم الثاني من القبائل المغيرة، فقد اتجه بسفنه من كريت إلى قبرص فدمرها وأجبر حكامها على الانضمام إليه، ثم تابع مسيره إلى أوغاريت حيث دمرها، واتجه إلى أرواد فجعلها قاعدة له للهجوم على الساحل السوري كله.
بدأت هجمات شعوب البحر على مصر منذ عهد الفرعون «مرنبتاح» (1236-1223ق.م)، الذي واجه تحالفاً ضم شعوب البحر مع الليبيين، إلا أن «مرنبتاح» استطاع صدَّهم، وهَزَمَهم وقتل وأسر الكثير منهم.
تجددت هجمات شعوب البحر في عهد الفرعون رعمسيس الثالث[ر] (1198-1166ق.م)، حيث قاموا بعدة حملات على مصر، كان أولها في السنة الخامسة من حكمه، حين شنت شعوب البحر مع حلفائهم الليبيين هجوماً كبيراً على حدود الدلتا الغربية، وحاولوا الوصول إلى مدينة منف، فاستطاع رعمسيس صدهم، وهزمهم هزيمة منكرة، وأعادوا الكرة في السنة الثامنة من حكمه، ولكنه استطاع سحقهم، وتمكن من استئصال شأفتهم وإبعاد خطرهم بشكل نهائي عن مصر وغربي آسيا، وقد سجل تفصيلات انتصاراته على جدران معبده في مدينة هابو الواقعة على البر الغربي للعاصمة طيبة.
كانت آخر حملاتهم على مصر في السنة الحادية عشرة من حكم رعمسيسس الثالث، حيث قامت قبائل المشواش Meshweshالقاطنة في الصحراء، غربي أراضي ليبيا، بهجوم من جهة الدلتا مع حلفائهم الليبيين، واستطاع الحلفاء الاستيلاء على المنطقة الواقعة إلى الغرب من الدلتا، ووصلوا إلى فرع النيل الغربي، إلا أن رعمسيس صدَّهم وانتصر عليهم مرة أخرى.
كان لغزوات شعوب البحر نتائج مهمة ومؤثرة على مناطق المشرق العربي القديم، ومن أهمها القضاء على إحدى أعظم امبراطوريات ذلك العصر، وهي الدولة الحثية، ودمار بعض المدن الفينيقية التي كان لها دور مؤثر في المنطقة، مثل كركميش وصيدا وصور، وأغاريت التي اختفت من خارطة التاريخ، بينما نهضت مدينتا صيدا وصور من جديد. ويظهر من البقايا الأثرية أن بعض قبائل شعوب البحر قد استقر في موقع ابن هانئ التابعة لأغاريت على الساحل السوري. لقد استطاعت مصر صد الهجمات التي توجهت إلى أراضيها، لكنها خسرت أراضيها في سورية والساحل الفينيقي، واضطرت إلى التراجع والانكماش في وادي النيل.
استقرت بعض قبائل شعوب البحر في نواحي البحر المتوسط، فقبائل البلست، التي جاءت من كريت، أو قبرص حسب الدلائل الأثرية الحديثة، استقرت على ساحل فلسطين الجنوبي الممتد من دور إلى غزة، ثم انضم البلست إلى الكنعانيين والعموريين سكان المنطقة الأصليين وانصهروا فيهم وعبدوا إلههم (دجن)، ومع مرور الوقت أخذت المنطقة اسمهم وأصبحت تدعى فلسطين، وهم الذين أدخلوا معدن الحديد إلى المنطقة. أما الشردان فقد توجهوا إلى جزيرة سردينيا واستوطنوا فيها وأعطوها اسمهم، وكذلك الأمر بالنسبة لقبائل الشكلاش الذين استقروا في صقلية وسميت باسمهم، بينما ذهب الأتروسكيون Etruscans إلى شبه الجزيرة الإيطالية وأسسوا عدداً من دول المدن في القسم الشمالي الوسيط منها.
إبراهيم توكلنا