جهنّم الأرض والبشر تواصل توسعها في لوحات السوري سبهان آدم
شخوص الفنان تصبح أكثر إنسانية في تعبيرها عن الواقع المشترك.
الجمعة 2023/02/17
انشرWhatsAppTwitterFacebook
كائنات دموية غريبة
لا يزال السوري سبهان آدم فنانا متمرّدا يرسم لذاته، يخاطبها بشخوصه التي تعبر عمّا يعانيه الكوكب من فساد وآلام. والفنان دائم الحضور في المعارض لكنه أكثر نشاطا على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك، ينقل من خلالها عالمه الغرائبي الذي يبدو أشبه بقصص خيالية مرعبة.
سبهان آدم اسم استفزازي في عالم الفن التشكيلي، لاسيما العربي والشرق أوسطي. وهو شكّل ولا يزال حالة مثيرة للجدل لعدة أسباب، أهمها صعوده السريع إلى الشهرة الفنية وعدم اكتراثه بأن يُنشئ نصا فنيا يلاقي استحسان أحد آخر غيره هو.
هو اليوم لا يزال كعادته شديد الغزارة في الإنتاج الفني وينشر على صفحته في فيسبوك أعمالا جديدة متتالية أكثر ما يميزها عن التي سبقتها عرضها لوجوه مسوخه المعهودة وقد اشتدت ووضحت فيها أكثر ملامحها الإنسانية مع تحولها إلى ما يشبه انفجارات دموية وبركانية لشرايين مُصابة بخلل ما.
معرض فني دائم هو ما يقدمه الفنان التشكيلي السوري سبهان آدم، المولود سنة 1972 في الحسكة الكائنة في شمال سوريا، إن كان على صفحته في فيسبوك أو في تتالي معارضه الفنية في العالم والتي يتزامن بعض منها مع بعضها الآخر.
شخوص الفنان سبهان آدم تشبهه وتشبه التناقض الحاضر كثيرا في كلامه. وتشبهنا أيضا نحن سكان كوكب يعمّ فيه الفساد
لا غرابة في هذا، بل تصديقا لما يحدث ومواكبة سريعة لما يحدث على أرض الواقع. ما يرسمه الفنان يشكل يوما بعد يوم أرشفة للمهازل البشرية الدموية التي تشتد عنفا وفسادا كلما مر الوقت.
إذا كان من الممكن تبسيط فكرة كيف يتحول الغرائبي الصادم في عين المُتلقي إلى واقعي كابوسي، هزلي وعادي في آن واحد، فإن ما أنجزه الفنان سبهان آدم حتى اليوم هو أفضل مثال على ذلك.
منذ فترة تفوق العشر سنوات ذهبت لأول مرة إلى معرض للفنان السوري سبهان آدم. كان ذلك في بيروت. كانت الصدمة التي شعرت بها أمام أعماله قوية جدا، إذ وجدت نفسي أمام عالم من المسوخ المجرمة والمُتلقية لفعل إجرام مجهول المصدر في آن واحد. وجدت أن شخوصه تشبه الحشرات والحيوانات المفترسة على السواء. تتقدم متسللة بخفة بهلوانية وبأجساد متهدجة حينا وطرية حينا آخر لتتسمر، غالبا في وسط اللوحة، ناظرة إلينا كصراصير عملاقة داهمها المطر أو رصدتها عيوننا فلم يرق لها ذلك البتّة. هذا إذا لم أذكر الشعور بالاشمئزاز أمام هيئات شبه إنسانية لا تمت إلى الإنسانية بشيء وتريد أن تعبث بمصائرنا تحت جنح الظلام.
يومها بدأت أقرأ عن سبهان آدم كشخص وكفنان، وكيف أنه من الفنانين الذين بدأوا وكرّسوا تيارا للتشويه وللفظاعات شبه السريالية حيث تقلّص وتضخّم الجماجم واهتراء الجلد البشري وابتلاؤه بالبثور الملتهبة والتوّرم الذي يوحي بالقيح الكامن كحالة عادية.
أمام فظاعة العالم الذي واظب على رسمه الفنان ذكر في إحدى المقابلات ما يشبه تصريحا ينطبق على مجمل أعماله الفنية، إذ قال “إن كائناتي لا تُرى من حيث أنا، بل من حيث الآخر، فالكائنات التي أرسمها ربما تسبب للآخر المتعة، أما أنا فأتألم كلما شاهدتُها. كائناتي في الرسم ولدتْ واستغرقت سنوات طويلة حتى اكتملت، هي اليوم أشبه بالتركيب الضوئي. كائنات كانت مقطّعة الأوصال، ومشوّهة خلقيا، وهذا التشويه هو ما أعتبره أقرب إلى الجمال الأفلاطوني، الجمال الذي تمت إعادة تركيب اللحم والعظم له، وإنشاء كائن خاص له احتياجاته الخاصة”.
تعبير عن الواقع الإنساني بأشكال مختلفة
وتابع “عندما أرسم لا أفكر بالآخر كيف يرى. كل ما أعرفه أنني اخترعت كائناً جديداً له عيون متعددة، وشعر مسبل أو مجعّد، له شارب القبضاي، هذا الكائن أعيد بناءه من جديد في كل مرة أجلس فيها إلى الرسم، سواء في شَعره، أو عَظمِ جمجمته أو لحمه، أو حتى شكل رأسه. باختصار هو كتلة متورّمة”.
لا أخفي أن سبهان آدم ذكرني هو وفنه، يوم حضرت إلى معرض من معارضه لأول مرة، بأجواء القصص الخيالية المرعبة حيث يسكن قصر مُسيج في وسط غابة داكنة، وحش مُفترس ومزاجيّ يتربص بالعابرين ليجرهم إلى مختبره العلمي حيث يقوم بتحويلهم إلى وحوش زاحفة دونما اكتراث بصراخهم.
أما اليوم، وأقصد باليوم هذه السنوات الأخيرة، فعندما أرى لوحات الفنان لا أستغرب. بل أجد نفسي أنظر في عين الواقع البحت وأبطاله. واقع انتشر فيه القتل والنفاق والفساد بشكل من المستحيل منع تعاظمه. وأصبحت شخوص الفنان سبهان آدم “إنسانية” بالمعنى المعاصر ولا تعبر فقط عن ذاتها كأفراد، بل تعبر عن حالة عامة وجوّ عام يشكل إنكاره نوعا من أنواع الهذيان.
شياطين خرجت من فوهات براكين
قيل سابقا عن شخوص الفنان (لأن هذا جلّ ما رسمه) إنها تشبه بعضها وهو يكررها دوما. غير أن المُتابع الحقيقي لأعماله يجد أنها دائما تتجدد من ضمن فلكها الخاص. كل مجموعة من أعماله تشدد على خاصية ما: العته أو البلادة الشعورية والجسدية والإجرام والتلذذ بتعذيب الذات والإجهاز على الآخر، أو التحول إلى ما يشبه حشرات نمت من التعفن والرطوبة أو شياطين خرجت من فوهات براكين تذكرنا بلوحات الفنان الشهير بروغل أو مهرجين ماكرين أو صعاليك خرجت من خلف أبواب موصدة أو شخوص تعرضت إلى تحطم في هياكلها لتصبح أقرب إلى الزواحف منها إلى البشر.
ونشير هنا إلى أن الفنان بعد حادث سير تعرض له منذ سنوات عديدة وكاد أن يودي بحياته، حدث تغيير كبير في وجدانه دفعه إلى أن يقول في إحدى المقابلات “فجعت بعد الحادث بأشخاص كثر من حولي وتلقيت طعنات كثيرة في الظهر. لكني عدت لأكون جثة تمشي برائحة الربيع ولا أمتلك الآن حقيقة سوى شفافيتي”.
الفنان سبهان آدم اليوم في لوحاته الجديدة التي نشرها مؤخرا على صفحته في فيسبوك يستمر في تطوير شخوصه من ضمن ذات المنطق الكابوسي. هو الآن في أعماله يرسم شخوصا قد طرأ عليها تبدل، فهي ذات ملامح إنسانية أكثر من قبل ولها أفواه مفتوحة تتنفس منها وجلد مهشم يسمح للدماء أن تخرج من الشرايين كانفجارات بركانية.
شخوص الفنان سبهان آدم تشبهه وتشبه التناقض الحاضر كثيرا في كلامه. وتشبهنا أيضا نحن سكان كوكب يعم فيه الفساد، وتشبه المنطق العام الذي يحكم كوكب الأرض بأسره وربما إلى أن تحين الساعة.
منطق كابوسي في التصوير
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية
شخوص الفنان تصبح أكثر إنسانية في تعبيرها عن الواقع المشترك.
الجمعة 2023/02/17
انشرWhatsAppTwitterFacebook
كائنات دموية غريبة
لا يزال السوري سبهان آدم فنانا متمرّدا يرسم لذاته، يخاطبها بشخوصه التي تعبر عمّا يعانيه الكوكب من فساد وآلام. والفنان دائم الحضور في المعارض لكنه أكثر نشاطا على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك، ينقل من خلالها عالمه الغرائبي الذي يبدو أشبه بقصص خيالية مرعبة.
سبهان آدم اسم استفزازي في عالم الفن التشكيلي، لاسيما العربي والشرق أوسطي. وهو شكّل ولا يزال حالة مثيرة للجدل لعدة أسباب، أهمها صعوده السريع إلى الشهرة الفنية وعدم اكتراثه بأن يُنشئ نصا فنيا يلاقي استحسان أحد آخر غيره هو.
هو اليوم لا يزال كعادته شديد الغزارة في الإنتاج الفني وينشر على صفحته في فيسبوك أعمالا جديدة متتالية أكثر ما يميزها عن التي سبقتها عرضها لوجوه مسوخه المعهودة وقد اشتدت ووضحت فيها أكثر ملامحها الإنسانية مع تحولها إلى ما يشبه انفجارات دموية وبركانية لشرايين مُصابة بخلل ما.
معرض فني دائم هو ما يقدمه الفنان التشكيلي السوري سبهان آدم، المولود سنة 1972 في الحسكة الكائنة في شمال سوريا، إن كان على صفحته في فيسبوك أو في تتالي معارضه الفنية في العالم والتي يتزامن بعض منها مع بعضها الآخر.
شخوص الفنان سبهان آدم تشبهه وتشبه التناقض الحاضر كثيرا في كلامه. وتشبهنا أيضا نحن سكان كوكب يعمّ فيه الفساد
لا غرابة في هذا، بل تصديقا لما يحدث ومواكبة سريعة لما يحدث على أرض الواقع. ما يرسمه الفنان يشكل يوما بعد يوم أرشفة للمهازل البشرية الدموية التي تشتد عنفا وفسادا كلما مر الوقت.
إذا كان من الممكن تبسيط فكرة كيف يتحول الغرائبي الصادم في عين المُتلقي إلى واقعي كابوسي، هزلي وعادي في آن واحد، فإن ما أنجزه الفنان سبهان آدم حتى اليوم هو أفضل مثال على ذلك.
منذ فترة تفوق العشر سنوات ذهبت لأول مرة إلى معرض للفنان السوري سبهان آدم. كان ذلك في بيروت. كانت الصدمة التي شعرت بها أمام أعماله قوية جدا، إذ وجدت نفسي أمام عالم من المسوخ المجرمة والمُتلقية لفعل إجرام مجهول المصدر في آن واحد. وجدت أن شخوصه تشبه الحشرات والحيوانات المفترسة على السواء. تتقدم متسللة بخفة بهلوانية وبأجساد متهدجة حينا وطرية حينا آخر لتتسمر، غالبا في وسط اللوحة، ناظرة إلينا كصراصير عملاقة داهمها المطر أو رصدتها عيوننا فلم يرق لها ذلك البتّة. هذا إذا لم أذكر الشعور بالاشمئزاز أمام هيئات شبه إنسانية لا تمت إلى الإنسانية بشيء وتريد أن تعبث بمصائرنا تحت جنح الظلام.
يومها بدأت أقرأ عن سبهان آدم كشخص وكفنان، وكيف أنه من الفنانين الذين بدأوا وكرّسوا تيارا للتشويه وللفظاعات شبه السريالية حيث تقلّص وتضخّم الجماجم واهتراء الجلد البشري وابتلاؤه بالبثور الملتهبة والتوّرم الذي يوحي بالقيح الكامن كحالة عادية.
أمام فظاعة العالم الذي واظب على رسمه الفنان ذكر في إحدى المقابلات ما يشبه تصريحا ينطبق على مجمل أعماله الفنية، إذ قال “إن كائناتي لا تُرى من حيث أنا، بل من حيث الآخر، فالكائنات التي أرسمها ربما تسبب للآخر المتعة، أما أنا فأتألم كلما شاهدتُها. كائناتي في الرسم ولدتْ واستغرقت سنوات طويلة حتى اكتملت، هي اليوم أشبه بالتركيب الضوئي. كائنات كانت مقطّعة الأوصال، ومشوّهة خلقيا، وهذا التشويه هو ما أعتبره أقرب إلى الجمال الأفلاطوني، الجمال الذي تمت إعادة تركيب اللحم والعظم له، وإنشاء كائن خاص له احتياجاته الخاصة”.
تعبير عن الواقع الإنساني بأشكال مختلفة
وتابع “عندما أرسم لا أفكر بالآخر كيف يرى. كل ما أعرفه أنني اخترعت كائناً جديداً له عيون متعددة، وشعر مسبل أو مجعّد، له شارب القبضاي، هذا الكائن أعيد بناءه من جديد في كل مرة أجلس فيها إلى الرسم، سواء في شَعره، أو عَظمِ جمجمته أو لحمه، أو حتى شكل رأسه. باختصار هو كتلة متورّمة”.
لا أخفي أن سبهان آدم ذكرني هو وفنه، يوم حضرت إلى معرض من معارضه لأول مرة، بأجواء القصص الخيالية المرعبة حيث يسكن قصر مُسيج في وسط غابة داكنة، وحش مُفترس ومزاجيّ يتربص بالعابرين ليجرهم إلى مختبره العلمي حيث يقوم بتحويلهم إلى وحوش زاحفة دونما اكتراث بصراخهم.
أما اليوم، وأقصد باليوم هذه السنوات الأخيرة، فعندما أرى لوحات الفنان لا أستغرب. بل أجد نفسي أنظر في عين الواقع البحت وأبطاله. واقع انتشر فيه القتل والنفاق والفساد بشكل من المستحيل منع تعاظمه. وأصبحت شخوص الفنان سبهان آدم “إنسانية” بالمعنى المعاصر ولا تعبر فقط عن ذاتها كأفراد، بل تعبر عن حالة عامة وجوّ عام يشكل إنكاره نوعا من أنواع الهذيان.
شياطين خرجت من فوهات براكين
قيل سابقا عن شخوص الفنان (لأن هذا جلّ ما رسمه) إنها تشبه بعضها وهو يكررها دوما. غير أن المُتابع الحقيقي لأعماله يجد أنها دائما تتجدد من ضمن فلكها الخاص. كل مجموعة من أعماله تشدد على خاصية ما: العته أو البلادة الشعورية والجسدية والإجرام والتلذذ بتعذيب الذات والإجهاز على الآخر، أو التحول إلى ما يشبه حشرات نمت من التعفن والرطوبة أو شياطين خرجت من فوهات براكين تذكرنا بلوحات الفنان الشهير بروغل أو مهرجين ماكرين أو صعاليك خرجت من خلف أبواب موصدة أو شخوص تعرضت إلى تحطم في هياكلها لتصبح أقرب إلى الزواحف منها إلى البشر.
ونشير هنا إلى أن الفنان بعد حادث سير تعرض له منذ سنوات عديدة وكاد أن يودي بحياته، حدث تغيير كبير في وجدانه دفعه إلى أن يقول في إحدى المقابلات “فجعت بعد الحادث بأشخاص كثر من حولي وتلقيت طعنات كثيرة في الظهر. لكني عدت لأكون جثة تمشي برائحة الربيع ولا أمتلك الآن حقيقة سوى شفافيتي”.
الفنان سبهان آدم اليوم في لوحاته الجديدة التي نشرها مؤخرا على صفحته في فيسبوك يستمر في تطوير شخوصه من ضمن ذات المنطق الكابوسي. هو الآن في أعماله يرسم شخوصا قد طرأ عليها تبدل، فهي ذات ملامح إنسانية أكثر من قبل ولها أفواه مفتوحة تتنفس منها وجلد مهشم يسمح للدماء أن تخرج من الشرايين كانفجارات بركانية.
شخوص الفنان سبهان آدم تشبهه وتشبه التناقض الحاضر كثيرا في كلامه. وتشبهنا أيضا نحن سكان كوكب يعم فيه الفساد، وتشبه المنطق العام الذي يحكم كوكب الأرض بأسره وربما إلى أن تحين الساعة.
منطق كابوسي في التصوير
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية