فيفا عيد تستحضر أحوال الكبريت لتصور آلام اللبنانيين النفسية
"غبار هادئ" يقتحم الأماكن ويكشف أسرار البشر.
الأربعاء 2023/02/15
انشرWhatsAppTwitterFacebook
غبار لوني يقتحم أعماق النفس
ترى الفنانة التشكيلية فيفا عيد أن الغبار يمكن أن يكون أكثر تعبيرا عن المأساة اللبنانية المستمرة على المستوى الفني، وعن صراع اللبناني بين الحنين إلى ماضٍ جميل والأمل في مستقبل أفضل وسجنه داخل واقع مؤلم يُسبب له آلاما نفسية حادة بعضها ذاتي وبعضها الآخر جماعي، لكنها تظل آلاما متحكمة في كل حركاته وسكناته.
قدمت مؤخرا صالة “إيكزود” اللبنانية بالتعاون مع “ل.بي.قوي” معرضا للفنانة التشكيلية اللبنانية فيفا عيد أطلقت عليه عنوان “غبار هادئ” وضم مجموعة من الأعمال المشغولة بمادة الأكريليك، وجاءت بمختلف الأحجام.
جرح عميق
تتساءل الفنانة في بداية تقديمها لمعرضها “يقتحم الغبار الأماكن، يتسلل إليها، يحتل مكانه بنعومة وهدأة دون استئذان. الغبار صديق أم محتل؟ أهو هنا ليحمينا من ماض أو ذكريات؟ أم هو هنا ليلهنا عن ماض أردناه مستقبلا؟ أم هو لامبالاة وممحاة للزمن؟ أهو تربيت على كتف الأماكن المهجورة منعا للوحدة؟ أم هو هناك ليخفي المعالم كاتما أسرارا وأسرارا؟ أهو يدرك أن المكان المهجور فقدان الحياة لأن الحياة في مكان آخر؟ أم أن الغيار حياة للصمت الآتي من عمق الرحيل؟ أم هو دعوة لنرويه لتكون منه حياة؟”.
لم تأت لوحات اللبنانية عيد هذه خارج مسلسل تعبيرها عن الألم اللبناني بشكل عام. ويذكر أن أعمالها لاقت استحسانا كبيرا عندما عرضتها في مدينة نابولي الإيطالية.
وأوردت الصحف التي غطت المعرض الفني الذي أقيم على هامش ندوة تضامنية كبيرة مع لبنان أن “الجمهور تأثر كثيرا بمشاهدته اللوحات التعبيرية التي تحكي مأساة الشعب اللبناني، بدءا من حرب العام 1975 حتى انفجار بيروت عام 2020، وتجسد ذلك من خلال لوحات عكست الثواني القليلة لانفجارات غيرت حياة اللبناني وحولتها إلى جرح عميق”. أما الفنانة عيد فقد أشارت إلى لوحاتها بكلمات من اليسير جدا أن تكون مُلازمة أيضا للوحاتها الجديدة في المعرض الذي نظمته لها صالة “إكزود” إذ قالت “تعبر اللوحات عن الجرح العميق النفسي الذي يتركه كل دمار على مختلف الأجيال. أن تكون مواطنا لبنانيا يجب أن تكون لديك القدرة على التحمل، أن
تتحمل نتائج كارثية نفسية ما بعد كل انفجار”.
معرض الفنانة اللبنانية المعنون “غبار هادئ” الذي نحن بصدد قراءته ليس إلا تعبيرا إضافيا عن “القدرة على تحمل نتائج كارثية نفسية ما بعد كل انفجار”. والهشاشة التي تتحدث عنها الفنانة ترجمتها عبر مجموعة لوحات تنضح برماد وغبار يغشى خلفيات اللوحات كما يقوم هو بتشكيل الهيئات البشرية الغامضة لاسيما في اللوحات الكبيرة. وربما كان من الأصوب لو أطلقت الفنانة على معرضها هذا عنوان “هدوء الغبار” لأن الهدوء المُلتبس هو السيد في التحركات والتصرفات والجولات البشرية شبه الشبحية في المعرض بغض النظر إن كانت شخوصها منحوتة في الرماد والغبار ومنهما على حدّ السواء.
مساحة درامية
صمت يروي مخاوف جماعية
ليس الغبار في لوحات عيد موتا ولا هو انعدام للحركة، بل هو هدوء تفاعليّ يشي بتبلور خطة الدفاع التي طورها اللبناني في مواجهة الأزمات. وعندما نقول أزمات لا نقصد البتة تلك التي طالته وحده، بل تلك التي طالت أهل المنطقة العربية وهو دوما الأشد تأثرا بها من بين الدول.
في لوحاتها أجساد شخوص نحيلة انفصلت إلى جزئين. كل جزء يتقدم لوحده نحونا وكأن لملاقاتنا أو لدعوتنا أن ننسجم معه في حلقات شبه دائرية مفتوحة على فراغ مُشبّع بذبذبات من غبار ورماد. شبه حلقات تأخذنا إلى رقص شعائري ليست فيه أي ذبيحة إلا الشخوص ذاتها وهي ترقص في خفة هادئة هي الثبات وهي الحركة في عنق زجاجة القلق المتواصل.
في المعرض أيضا لوحات صغيرة الأحجام مقابل اللوحات الضخمة. لوحات هي لوجوه شخوص برزت فيها ملامحها خلافا لتلك الضبابية التي رسمتها الفنانة في اللوحات الكبيرة. وجوه أثقل الرماد والغبار جفونها، وأخرى بدت وكأن الغبار ذرّ في عيونها.
شخوص متألمة لحال اللبنانيين
ويمكن اعتبار هذه اللوحات الصغيرة المنصوبة على طاولة، عارية إلا منها، عملا تجهيزيا لأنه يحيلنا إلى منازلنا التي نضع فيها على الطاولات صورا للعائلة أفرادا وجماعة. ولأن ملامح الوجوه حزينة مشغولة بمنطق رماد حيّ حمل هذا “التجهيز” مسحة درامية ما: إنها صور عن وجوه غادرت هذا العالم أو تحولت إلى رماد أو غبار وهي لم تزل حيّة. حبذا لو وضعت هذه الطاولة في زاوية من زوايا الصالة لكان تأثيرها كتجهيز فني أشد وطأة.
وفي حين يحضر الغبار في لوحاتها الصغيرة كمادة وكثقل واضح ومعروف طبيعته ويكاد أن يُلمس باليد، فإنه في لوحاتها الكبيرة له أبعاد أخرى. لوحاتها هذه تحكي لنا عن هذا الرماد الحيّ الذي تجسده الفنانة شعوريا أو لا شعوريا. الشخوص النحيلة التي اكتسيت ألوانا تميل إلى الذهبي والأصفر والأحمر الكامد حينا وإلى الأزرق والبنفسجي والأسود المتفحم حينا آخر وذلك حتى في خلفيات اللوحات يتحدث عن أحوال عود الكبريت وأحواله. فهو يضيء ذاته -كما يحاول كل لبناني أن يستنفذ وقوده الخاص كي يبقى باقيا غير ميت- ويتلوى دون أن يهوي ويتفحم دون أن يتفتت قطعا ظاهرة على أرض اللوحات بفعل قوة الجاذبية، بل يبقى منتصبا كعود الكبريت. أعواد كبريت تتفتت في لوحات أخرى بخجل وهدوء لتنتشر في الفراغ فيشبعه ليمنع انحلاله.
هكذا يجيء القسم الأخير من تقديم عيد لمعرضها محاولة لفهم التصدع النفسي الذي يعيشه اللبناني إذ تقول “الغبار في أعمالي هذه، إشارة إلى التخلي الإرادي أو القسري. أحيانا تفرض علينا الحياة التخلي عن أمر أو شيء ظننا أنه لنا وقد نغضب. وفي لحظة سمو وارتقاء نتخلى إراديا عن كل مادي وأرضي سرقا يوما ما من ذاتنا. نتركه للغبار الهادئ”.
قد لا نكون من محبي هذا النوع من الفن أو قد لا نستسيغ البرودة الهائلة التي ترشح من لوحات الفنانة اللبنانية والتي فضلت أن تسميها الفنانة “هدوء” وهو فن في حقيقته جليديا في تعبيره وأحواله حتى في عز وجود ألوان كالأحمر الكامد والأصفر المتوهج ومسحات من البرتقالي الدافئ، لكنه فن بكل تأكيد يعبر عن حالة هي ما بين اللامبالاة والبلادة وتوصيف لواقع اللبناني الحاضر، الخاص كما العام، وهو على شفير موته أو خلاصه.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي