كتبوا عنه .. بسـام المـلا مخرج تلفزيوني سوري
عدنان بوظو ذكرى الأيام المشرقة
كنت مخرجاً شاباً في بداية عملي الاحتراف التلفزيوني ، طامحاً للتعبير عن ذاتي ، وعن سعيي لامتلاك مفاتيح وأسرار المهنة بجدارة .. وكان نجماً لامعاً في سماء الإعلام الرياضي .. إن لم يكن النجم الأوحد .
لم أكن أعرف حينها سر إيمانه بي .. ولم أكن أعرف حقاً كيف كان يراني .. ومن أية زاوية كان يطلع على آفاق طموحي ... لكنني بعد مضي كل تلك السنوات ، وبعد أن ذهب عدنان بوظو إلى دار الحق ، أدرك أكثر من أي وقت مضى ، أنه كان مفتاحاً ذهبيا ، شرع أمامي الأبواب الموصدة ، وذلل الصعاب ، وأنـار عـثمـات الـطـريـق فـقـد كان رحمه الـلـه مـن مـعـدن خاص ، يشع بالأمل والصفاء فيمنح كل من حوله الفرص التي يستحقونها ، أو ربما يدفعهم لكي يحتلوا تلك الفرص ... كان رجلاً من ذهب بالمعنى الحقيقي للكلمة .
بداية تعاوني معه كانت في ثمانينيات القرن العشرين حين اختارني لأخرج برنامجاً رياضياً جديداً كان ينوي تقديمه « الثلاثاء الرياضي » .. كان الاختيار رهاناً من عملاق إعلامي وكان الخوف من ألا أكون بحجم ثقته بي ، يتملكني ويدفعني في الوقت نفسه لأقدم كل ما تعلمته والتقطته خلال مسيرتي في العمل البرامجي أو الدرامي ، وكانت روحه الأبوية لا تبخل بالتشجيع وإسداء النصح ، وتوزيع الثناء تفيض في كل مراحل إنجاز البرنامج ، فتبث فيه روحاً متوثبة ، قوامها الإيمان بأهمية العمل كشرف للإنسان ، وبقية الإخلاص في العمل كمبدأ يرقى بكل مجتهد إلى آفاق النجاح ، ونجح « الثلاثاء الرياضي » بفضل حضوره ، وسعة قلبه ، وحرفيته الأخاذة التي كانت تأسر مشاهديه ، فتجعلهم يستمرون كل ثلاثاء لكي يأخذهم هذا العملاق إلى نشوة المتعة الرياضية بكل أشكالها ...
لم يكن عدنان بوظو يهلل للهدف الجميل فقط ، كان يعلمنا معنى اللعب النظيف ، ونبل الروح الرياضية في تقبل الخسارة ، وسمو النصر حين يلتزم بالهدف الأسمى بلوغ النجاح دون التلذذ بخسارة الطرف الآخر .
لكنه وهو يعلمنا كل هذا كمشاهدين ومتذوقين ، كان يلتفت إلى الفريق العامل معه في البرنامج بحب ، فيرسي تقاليد الزمالة المهنية متجاوزاً صراع الأجيال ، ولعنة الظهور والاستئثار وحده بالأضواء .. ولازلت أذكر كيف كان يتحاور معي الهواء أثناء تقديم فقرات البرنامج ليجعل من هذا الحوار التلقائي والعفوي ، وسيلة من وسائل إشراكي في تقديم البرنامج وتكريس شخصية المخرج على الشاشة دون أن يكون بحاجة لذلك ، سوى حاجته النبيلة لإشعارك أنك شريكه في النجاح والجهد والتعب !.
ولم تمض سنوات الثمانينيات إلا وكنت على موعد آخر مع النجاح ، ومع فرصة ذهبية أخرى منحها لي أخي الأكبر عدنان بوظو كما صرت أنظر إليه فقد كانت سورية على موعد مع دورة ألعاب المتوسط عام ١٩٨٧ وكانت الأنظار مشدودة إلى الوطن ، وهو ينظم أكبر وأهم تظاهرة دولية رياضية في تاريخه ، وجاء صوته حاداً مدافعاً متحمساً داخل اللجنة المنظمة التي كان هو أحد أعضائها : بسام الملا خير من ينفذ الفيلم التلفزيوني حول استعداداتنا للدورة وحول مدينة الأسد الرياضية في اللاذقية التي ستحتضن فعالياتها .
كان خيار الاستعانة بفريق أجنبي هو الذي يسيطر على أذهان القائمين خوفاً من الفشل وكان خيـار عـدنـان بـوظـو هـو الإيمان بالطاقات الوطنية وإعطاؤها الفرص ، وتحميلها المسؤولية لكي تنطلق ، وانطلقنا وكانت المشكلة الأكبر أن المدينة الرياضية لم الجميع ينتظر على نار القلق ، وأن السواعد التي تعمل ليل نهار لكي ترفع رأس الوطن تسابق الزمن ليل نهار ، لكن لغة الإعلام لا تعرف كل هذا فهي تريد الصورة التي تبشر بما تحقق ، وهي تريد المادة التي تعلن عن الإنجازات وقد صارت حقيقة على أرض الواقع دون أي اعتبارات أخرى ، ولم أجد خياراً أمام كل هذه التحديات سوى التخفي بعباءة الليل ، صورت الفيلم ليلاً وغمرت المدينة الرياضية بالإضاءة ، وطلبت طلاء بعض المواقع ثم قررت التصوير جوا ، ففي السماء تبدو الإنجازات بحجمها الكلي ، بصورتها الشاملة لا بتفاصيلها الجزئية بنواياها الوطنية المخلصة دون الارتهان لبعض الإرباكات الجزئية أو المرحلية ، صورت الفيلم وتحدثت إلى عدنان بوظوع الساعة الثانية من بعد منتصف الليل وطلبت منه أن يكون في الساعة السادسة صباحاً في التلفزيون لكي يسجل لي التعليق ثم انطلقت إلى دمشق والشعور بالمسؤولية التي أولاني إياها يملؤني ، ويحرك مخيلتي ، ويشحنني بطاقة لا تنفدا .
جاءني في السادسة صباحاً وكان السؤال عن الفيلم ينطلق من كل إيماءة في عينيه ووجهه ، طلب مني التعليق الذي سيقرؤه ، فقلت له ثلاث كلمات فقط : لكن أرجوك شاهد الفيلم قبل أن تسجلها . وانهمرت الدموع من عينيه وهو يشاهد فيلماً مدته خمس دقائق ، يروي بالصورة مسيرة تعب وإنجاز وطموح وتحد ، وفاضت نبرات صوته بأعمق مشاعر الفرح والظفر والتعب والرجاء ، وهو يقول معلقاً بالكلمات الثلاث « وانتهينا بعون الله » وهذه المرة انهمرت الدموع من عيني وأنا أسمع وأرى إحساسه الأخاذ يهلل لإنجاز الوطن .
لم يكن عدنان بوظو من الذين يسرقون نجاحات الآخرين ، أو يعتمون عليها ، اتصل فور انتهائه بأعضاء اللجنة التنظيمية وطلب منهم الاجتماع في مدينة الفيحاء الرياضية الساعة الثامنة صباحاً ، لكي يشاهدوا الفيلم الذي أراده أن يظهر بطاقات أبناء الوطن ، وبعد مشاهدة الفيلم ، اقترح
على اللجنة المنظمة أن تكتفي بإنجاز رموز الألعاب والفواصل التلفزيونية الأخرى ، وعلى أن أكون مخرجاً في حفل الافتتاح . لاقى اقتراحه صدى لدى اللجنة المنظمة ، لكنه خلق إرباكاً لدى زملائي من المخرجين المخضرمين العاملين في التلفزيون ، والذين كنت أبدو أمامهم زميلاً مبتدئاً ، وأصر عدنان بوظو على ترشيحه ، وشاركت في إخراج حفل الافتتاح تلفزيونياً ، ثم انسحبت لتكليفي بالإشراف على مهرجان بصری ، حيث كانت السيدة فيروز ستغني على مدرجه الأثري في ذلك العام ، لكن عدنان بوظو لحق بي وطلب مني أن أعود وأن أعمل حتى تحت إمرة مخرجين آخرين قائلاً : الوطن يحتاجنا جميعاً هنا يا بسام .
كان الوطن يسكن جوارح عدنان بوظو ويفيض من أحاسيسه وتهدجات صوته في الحزن والفرح ، في الربح والخسارة .. تلك حقيقة ربما يلمسها ملايين السوريين الذين سمعوا عدنان بوظو وهو يزف بشرى الفوز في كثير من المباريات التي كان المنتخب السوري طرفاً فيها على مر سنوات طوال من عمله في التعليق الرياضي أو وهو يحاول أن يبرر بعض الخسارات المؤلمة بعبارته الشهيرة « هذه حدودنا وهذه إمكانياتنا » ، لكن صدقوني لن تلمسوا مدى دفء حب الوطن وعمق الانتماء إليه لدي هذا الرجل ، إن لم تتعرفوا عليه عن قرب ، أو تحتكوا به وهو يعمل بدأب وتفان وإخلاص .
لقد ظل عدنان بوظو بالنسبة لي هو الأخ الكبير ، وهو الأب الذي لا أشك أنه يريد لمن هو في مقام ابنه ، سوى الخير والنجاح ، ولم تنقطع صلتي به رغم تباعد الأيام والاهتمامات ، وحتى بعد أن هجرت العمل في برامج التلفزيون الرياضية وهذا أمر أعترف له بالفضل فيه ، فقد كان ودوداً كريماً حين ضمني إلى دائرة أصدقائه المقربين الذين تتجاوز صداقته معهـم حـدود الـعـمـل المهـنـي الآني .. وحين أصيب عـدنـان بـوظـو بمرض السرطان ، وذهبت لأزوره في أيامه الأخيرة في مشفى الشامي بدمشق ، كانت روحه القوية المتوثبة ، المشبعة بالإيمان بالحياة تشع حتى وهو على بعد خطوات من الموت .
سألته عن الألم فرد ساخراً : « صغيرة » تلك الكلمة الشجاعة الصبورة التي كان يستخدمها في حياته دائماً ، لتذليل الصعاب ، وللتقليل من وطأة نوائب الحياة ومقاومة الإحساس بالهزيمة والضعف ، وسرعان ما شعرت أنا الذي جئت معتدأ بصحتي وعافيتي ، أن هذا الرجل العظيم الذي يواجه بجسده النحيل أشرس هجوم لمرض لم يعرف له دواء ، هو أقوى مني وأكثر شجاعة وإيماناً من كثير من القابعين على تخوم هذه الحياة حتى وهو يخط السطور الأخيرة في قصة الرحيل .
واليوم يبقى عدنان بوظو الأستاذ والمعلم أكبر من كل الألقاب التي كنت أفكر أن أسبق بها اسمه وأنا أخط هذه الكلمات ، وتبقى روحه المحبة المتسامحة الدافئة عنواناً من عناوين زمن جميل وأثير إلى قلبي وقلوب كل السوريين الذين عاصروه وتربوا على سماع صوته وهو يعلق في المباريات المحلية والعربية والدولية ، فيأخذهم إلى قلب الملعب ويجعلهم يتنفسون مع اللاعبين ، ويتذوقون مهاراتهم في الدفاع والهجوم ، ويؤمنون بقيمة الإخلاص لروح الفريق الجماعية ثم يرقى بهم إلى آفاق اللعب النظيف والتعليق الرياضي النزيه البعيد عن أمراض التعصب والقريب من أفراح الوطن ولاعبيه وأبنائه دوماً .
إنه باختصار علم لا ينسى من أعلام هذا الوطن ... وهو رمز نبيل من رموز النجاح الإعلامي ... والنزاهة المهنية .. رمز نسعى لنستضيء به كلما أوغل بنا الدرب بعيداً .
عدنان بوظو ذكرى الأيام المشرقة
كنت مخرجاً شاباً في بداية عملي الاحتراف التلفزيوني ، طامحاً للتعبير عن ذاتي ، وعن سعيي لامتلاك مفاتيح وأسرار المهنة بجدارة .. وكان نجماً لامعاً في سماء الإعلام الرياضي .. إن لم يكن النجم الأوحد .
لم أكن أعرف حينها سر إيمانه بي .. ولم أكن أعرف حقاً كيف كان يراني .. ومن أية زاوية كان يطلع على آفاق طموحي ... لكنني بعد مضي كل تلك السنوات ، وبعد أن ذهب عدنان بوظو إلى دار الحق ، أدرك أكثر من أي وقت مضى ، أنه كان مفتاحاً ذهبيا ، شرع أمامي الأبواب الموصدة ، وذلل الصعاب ، وأنـار عـثمـات الـطـريـق فـقـد كان رحمه الـلـه مـن مـعـدن خاص ، يشع بالأمل والصفاء فيمنح كل من حوله الفرص التي يستحقونها ، أو ربما يدفعهم لكي يحتلوا تلك الفرص ... كان رجلاً من ذهب بالمعنى الحقيقي للكلمة .
بداية تعاوني معه كانت في ثمانينيات القرن العشرين حين اختارني لأخرج برنامجاً رياضياً جديداً كان ينوي تقديمه « الثلاثاء الرياضي » .. كان الاختيار رهاناً من عملاق إعلامي وكان الخوف من ألا أكون بحجم ثقته بي ، يتملكني ويدفعني في الوقت نفسه لأقدم كل ما تعلمته والتقطته خلال مسيرتي في العمل البرامجي أو الدرامي ، وكانت روحه الأبوية لا تبخل بالتشجيع وإسداء النصح ، وتوزيع الثناء تفيض في كل مراحل إنجاز البرنامج ، فتبث فيه روحاً متوثبة ، قوامها الإيمان بأهمية العمل كشرف للإنسان ، وبقية الإخلاص في العمل كمبدأ يرقى بكل مجتهد إلى آفاق النجاح ، ونجح « الثلاثاء الرياضي » بفضل حضوره ، وسعة قلبه ، وحرفيته الأخاذة التي كانت تأسر مشاهديه ، فتجعلهم يستمرون كل ثلاثاء لكي يأخذهم هذا العملاق إلى نشوة المتعة الرياضية بكل أشكالها ...
لم يكن عدنان بوظو يهلل للهدف الجميل فقط ، كان يعلمنا معنى اللعب النظيف ، ونبل الروح الرياضية في تقبل الخسارة ، وسمو النصر حين يلتزم بالهدف الأسمى بلوغ النجاح دون التلذذ بخسارة الطرف الآخر .
لكنه وهو يعلمنا كل هذا كمشاهدين ومتذوقين ، كان يلتفت إلى الفريق العامل معه في البرنامج بحب ، فيرسي تقاليد الزمالة المهنية متجاوزاً صراع الأجيال ، ولعنة الظهور والاستئثار وحده بالأضواء .. ولازلت أذكر كيف كان يتحاور معي الهواء أثناء تقديم فقرات البرنامج ليجعل من هذا الحوار التلقائي والعفوي ، وسيلة من وسائل إشراكي في تقديم البرنامج وتكريس شخصية المخرج على الشاشة دون أن يكون بحاجة لذلك ، سوى حاجته النبيلة لإشعارك أنك شريكه في النجاح والجهد والتعب !.
ولم تمض سنوات الثمانينيات إلا وكنت على موعد آخر مع النجاح ، ومع فرصة ذهبية أخرى منحها لي أخي الأكبر عدنان بوظو كما صرت أنظر إليه فقد كانت سورية على موعد مع دورة ألعاب المتوسط عام ١٩٨٧ وكانت الأنظار مشدودة إلى الوطن ، وهو ينظم أكبر وأهم تظاهرة دولية رياضية في تاريخه ، وجاء صوته حاداً مدافعاً متحمساً داخل اللجنة المنظمة التي كان هو أحد أعضائها : بسام الملا خير من ينفذ الفيلم التلفزيوني حول استعداداتنا للدورة وحول مدينة الأسد الرياضية في اللاذقية التي ستحتضن فعالياتها .
كان خيار الاستعانة بفريق أجنبي هو الذي يسيطر على أذهان القائمين خوفاً من الفشل وكان خيـار عـدنـان بـوظـو هـو الإيمان بالطاقات الوطنية وإعطاؤها الفرص ، وتحميلها المسؤولية لكي تنطلق ، وانطلقنا وكانت المشكلة الأكبر أن المدينة الرياضية لم الجميع ينتظر على نار القلق ، وأن السواعد التي تعمل ليل نهار لكي ترفع رأس الوطن تسابق الزمن ليل نهار ، لكن لغة الإعلام لا تعرف كل هذا فهي تريد الصورة التي تبشر بما تحقق ، وهي تريد المادة التي تعلن عن الإنجازات وقد صارت حقيقة على أرض الواقع دون أي اعتبارات أخرى ، ولم أجد خياراً أمام كل هذه التحديات سوى التخفي بعباءة الليل ، صورت الفيلم ليلاً وغمرت المدينة الرياضية بالإضاءة ، وطلبت طلاء بعض المواقع ثم قررت التصوير جوا ، ففي السماء تبدو الإنجازات بحجمها الكلي ، بصورتها الشاملة لا بتفاصيلها الجزئية بنواياها الوطنية المخلصة دون الارتهان لبعض الإرباكات الجزئية أو المرحلية ، صورت الفيلم وتحدثت إلى عدنان بوظوع الساعة الثانية من بعد منتصف الليل وطلبت منه أن يكون في الساعة السادسة صباحاً في التلفزيون لكي يسجل لي التعليق ثم انطلقت إلى دمشق والشعور بالمسؤولية التي أولاني إياها يملؤني ، ويحرك مخيلتي ، ويشحنني بطاقة لا تنفدا .
جاءني في السادسة صباحاً وكان السؤال عن الفيلم ينطلق من كل إيماءة في عينيه ووجهه ، طلب مني التعليق الذي سيقرؤه ، فقلت له ثلاث كلمات فقط : لكن أرجوك شاهد الفيلم قبل أن تسجلها . وانهمرت الدموع من عينيه وهو يشاهد فيلماً مدته خمس دقائق ، يروي بالصورة مسيرة تعب وإنجاز وطموح وتحد ، وفاضت نبرات صوته بأعمق مشاعر الفرح والظفر والتعب والرجاء ، وهو يقول معلقاً بالكلمات الثلاث « وانتهينا بعون الله » وهذه المرة انهمرت الدموع من عيني وأنا أسمع وأرى إحساسه الأخاذ يهلل لإنجاز الوطن .
لم يكن عدنان بوظو من الذين يسرقون نجاحات الآخرين ، أو يعتمون عليها ، اتصل فور انتهائه بأعضاء اللجنة التنظيمية وطلب منهم الاجتماع في مدينة الفيحاء الرياضية الساعة الثامنة صباحاً ، لكي يشاهدوا الفيلم الذي أراده أن يظهر بطاقات أبناء الوطن ، وبعد مشاهدة الفيلم ، اقترح
على اللجنة المنظمة أن تكتفي بإنجاز رموز الألعاب والفواصل التلفزيونية الأخرى ، وعلى أن أكون مخرجاً في حفل الافتتاح . لاقى اقتراحه صدى لدى اللجنة المنظمة ، لكنه خلق إرباكاً لدى زملائي من المخرجين المخضرمين العاملين في التلفزيون ، والذين كنت أبدو أمامهم زميلاً مبتدئاً ، وأصر عدنان بوظو على ترشيحه ، وشاركت في إخراج حفل الافتتاح تلفزيونياً ، ثم انسحبت لتكليفي بالإشراف على مهرجان بصری ، حيث كانت السيدة فيروز ستغني على مدرجه الأثري في ذلك العام ، لكن عدنان بوظو لحق بي وطلب مني أن أعود وأن أعمل حتى تحت إمرة مخرجين آخرين قائلاً : الوطن يحتاجنا جميعاً هنا يا بسام .
كان الوطن يسكن جوارح عدنان بوظو ويفيض من أحاسيسه وتهدجات صوته في الحزن والفرح ، في الربح والخسارة .. تلك حقيقة ربما يلمسها ملايين السوريين الذين سمعوا عدنان بوظو وهو يزف بشرى الفوز في كثير من المباريات التي كان المنتخب السوري طرفاً فيها على مر سنوات طوال من عمله في التعليق الرياضي أو وهو يحاول أن يبرر بعض الخسارات المؤلمة بعبارته الشهيرة « هذه حدودنا وهذه إمكانياتنا » ، لكن صدقوني لن تلمسوا مدى دفء حب الوطن وعمق الانتماء إليه لدي هذا الرجل ، إن لم تتعرفوا عليه عن قرب ، أو تحتكوا به وهو يعمل بدأب وتفان وإخلاص .
لقد ظل عدنان بوظو بالنسبة لي هو الأخ الكبير ، وهو الأب الذي لا أشك أنه يريد لمن هو في مقام ابنه ، سوى الخير والنجاح ، ولم تنقطع صلتي به رغم تباعد الأيام والاهتمامات ، وحتى بعد أن هجرت العمل في برامج التلفزيون الرياضية وهذا أمر أعترف له بالفضل فيه ، فقد كان ودوداً كريماً حين ضمني إلى دائرة أصدقائه المقربين الذين تتجاوز صداقته معهـم حـدود الـعـمـل المهـنـي الآني .. وحين أصيب عـدنـان بـوظـو بمرض السرطان ، وذهبت لأزوره في أيامه الأخيرة في مشفى الشامي بدمشق ، كانت روحه القوية المتوثبة ، المشبعة بالإيمان بالحياة تشع حتى وهو على بعد خطوات من الموت .
سألته عن الألم فرد ساخراً : « صغيرة » تلك الكلمة الشجاعة الصبورة التي كان يستخدمها في حياته دائماً ، لتذليل الصعاب ، وللتقليل من وطأة نوائب الحياة ومقاومة الإحساس بالهزيمة والضعف ، وسرعان ما شعرت أنا الذي جئت معتدأ بصحتي وعافيتي ، أن هذا الرجل العظيم الذي يواجه بجسده النحيل أشرس هجوم لمرض لم يعرف له دواء ، هو أقوى مني وأكثر شجاعة وإيماناً من كثير من القابعين على تخوم هذه الحياة حتى وهو يخط السطور الأخيرة في قصة الرحيل .
واليوم يبقى عدنان بوظو الأستاذ والمعلم أكبر من كل الألقاب التي كنت أفكر أن أسبق بها اسمه وأنا أخط هذه الكلمات ، وتبقى روحه المحبة المتسامحة الدافئة عنواناً من عناوين زمن جميل وأثير إلى قلبي وقلوب كل السوريين الذين عاصروه وتربوا على سماع صوته وهو يعلق في المباريات المحلية والعربية والدولية ، فيأخذهم إلى قلب الملعب ويجعلهم يتنفسون مع اللاعبين ، ويتذوقون مهاراتهم في الدفاع والهجوم ، ويؤمنون بقيمة الإخلاص لروح الفريق الجماعية ثم يرقى بهم إلى آفاق اللعب النظيف والتعليق الرياضي النزيه البعيد عن أمراض التعصب والقريب من أفراح الوطن ولاعبيه وأبنائه دوماً .
إنه باختصار علم لا ينسى من أعلام هذا الوطن ... وهو رمز نبيل من رموز النجاح الإعلامي ... والنزاهة المهنية .. رمز نسعى لنستضيء به كلما أوغل بنا الدرب بعيداً .
تعليق