حدس
Intuition - Intuition
الحدس
الحدس intuition لغة، هو الظن والتخمين والتوهم والنظر الخفي، أما اصطلاحاً فهو شكل خاص من أشكال النشاط المعرفي، أو المقدرة على فهم الحقيقة مباشرة دون استدلال منطقي تمهيدي. حيث يُدرك به ما هو معقول وما هو وراء العقل meta-reason، أي ما هو منطقي وما هو غير منطقي. ويُطلق الحدس على عملية إطلاع النفس إطلاعاً مباشراً على ما يمثله لها الحس الظاهر أو الحس الباطن من صور حسية أو نفسية، أو على كشف الذهن عن بعض الحقائق بوحي مفاجئ لا على سبيل القياس ولاعلى سبيل الاستقراء أو الاستنتاج، ولكن على سبيل المشاهدة التي ينبلج فيها الحق انبلاجاً. ويمكن الحديث عن حدس تجريبي وحدس عقلي وحدس فلسفي وحدس صوفي.
وتندرج تحت مصطلح الحدس في الفلسفة الشرقية، كل أنواع الصدق المتباينة، سواء النزعة البراهمانية أو البوذية أو الكونفوشيوسية أو البوذية الجديدة، وقد اهتمت الفلسفة الصينية بالتأمل والتربية الروحية والفهم الصامت وإعادة تركيب الأفكار وترتيبها ثم التقوى devotion، وعَدَّ فلاسفتهم عمليات العقل مثل الإدراك العام أو الحس المشترك أو الاستدلال المنطقي، الأسس الثابتة التي يُبنى عليها الحدس، سواء أكانت ظاهرة أم باطنة. وبرز في هذا المجال الفيلسوف الصيني «ين هوي» الذي قدم بحثاً في الحدس مستنداً إلى المبادئ الآتية: مبدأ إنكار الذات - مبدأ تركيز العقل - مبدأ الفهم الشامل.
كما وصف الفيلسوف «كار صن شانج» الحدس بأنه عملية معرفة خالية من الاستدلال المنطقي أو التجريب، وينسب «كار صن شانج» إلى الحدس أنواعاً كثيرة من الصدق، مثل الرياضيات والفن والأخلاق.
وبهذا اتخذت الحدسية في الفلسفة الشرقية، اتجاهاً مستقلاً في المعرفة، تغطي مجالاً أوسع ومدى أرحب من العقل.
أما عن الحدس في الفلسفة العربية الوسيطة، فقد قال عنه ابن سينا: «حركة إلى إصابة الحدّ الأوسط، إذا وضع المطلوب، أو إصابة الحد الأكبر إذا أُصيب الأوسط، وبالجملة سرعة الانتقال من معلوم إلى مجهول».
ويُعرّف «التهانوي» الحدس بأنه «تمثّل المبادئ المترتبة في النفس دفعةً من غير قصد واختيار، سواء أكان ذلك بعد الطلب أم لا، فيحصل المطلوب». والمقصود بالحركة وسرعة الانتقال، تمثّل المعنى في النفس دفعة واحدة في وقت واحد، وكأنه وحي مفاجئ أو وميض برق.
أما الحدس عند بعض الإشراقيين، فهو ارتقاء النفس الإنسانية إلى المبادئ العالية حتى تصبح مرآة مجلوة تحاذي جانب العقل، فتمتلئ من النور الإلهي أو نور الأنوار الذي يغشاها، وذلك من دون أن تنحلّ فيه انحلالاً تاماً، وهذا الامتلاء من النور الإلهي هو الذي يسمونه كشفاً روحياً أو إلهاماً.
ويتصف الحدس بأنه مباشر وفردي ومجازي ونوعي. أما عن طبيعته فقد اختلفت آراء الفلاسفة حولها، فالحدس عند ديكارت، هو الاطلاع العقلي المباشر على الحقائق البديهية، «والتصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده». والأمور التي يدركها العقل بالحدس عند ديكارت، ثلاثة أنواع، هي:
1- الطبائع البسيطة، كالامتداد والحركة والشكل والزمان.
2- الحقائق الأولية التي لا تقبل الشك، مثل أنا أفكر إذن أنا موجود (أو ما يعبر عنه باللفظ اللاتيني كوجيتو).
3- المبادئ العقلية التي تربط الحقائق بعضها ببعض، مثل أن الشيئين المساويين لشيء ثالث متساويان، ويسمي ديكارت هذا الحدس نوراً طبيعياً أو غريزة عقلية، ويعتقد ديكارت أن الشكل الاستنباطي للبرهان يعتمد على البديهيات التي تُفهم بطريقة حدسية بحتة من دون برهان، وإن الحدس بالعلاقة مع المنهج الاستنباطي، يصلح معياراً كلياً للصدق الكامل.
وعند «ليبتنز» يبنى معنى الحدس على أصول ديكارتية، سواء أكان حقائق العقل أو حقائق الواقع، فالحدس هو الاطلاع المباشر على معنى حاضر في الذهن، من حيث هو ذو حقيقة جزئية مفردة، وهذا هو المعنى الذي ينادي به «كَنت» في كتابه «نقد العقل المحض»، كما نجده عند «هاملتون» و«ديوي»، ويشترط الحدس عند هؤلاء، أن تكون الحقيقة الجزئية المفردة، إما مثالية، كما في الحدس العقلي الذي يجمع بين تصور الشيء ووجود الشيء، وإما مستفادة من الحساسية على وجه قبلي، كإدراك الزمان والمكان، وإما أن تكون بعدية، كما في الحدس التجريبي.
أما الحدس عند «هنري برغسون» فهو نوع من العرفان، يشبه عرفان الغريزة، إنه التعاطف العقلي الذي ينقلنا إلى باطن الشيء ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة، التي لايمكن التعبير عنها، لأن الحدس والعقل يعبران، عنده، عن اتجاهين متضادين في العمل الشعوري، إذ يسير الحدس في اتجاه الحياة نفسه، أما العقل فيسير في الاتجاه المضاد. ويؤكد برغسون أن الحدس لا يتفق مع روح العلم، فالعلم يصف العقل بأنه النواة المضيئة، إلا أن الحدس أفضل من العقل. ويقر برغسون في النهاية أن الحدس يتحول إلى غريزة، والغريزة عبارة عن سديم مبهم، فالعقل يعمل في مجال المادة غير الحية، والغريزة تعمل في مجال الحياة الرحب ومعها ينقسم الحدس إلى حدس حسي وحدس غير حسي.
أما الحدس عند «هنري بوانكاريه» فهو الحكم السريع المؤكد، أو التنبؤ الغريزي بالوقائع والعلاقات المجردة، وهذا الحدس أو هذا الشعور بالنظام الرياضي هو الذي يكشف لنا عن العلاقات الخفية.
كما يحتل الحدس في فلسفة «اسبينوزا» مكاناً هاماً بوصفه نوعاً ثالثاً من المعرفة، بل يعده أكثر أنواع المعرفة فائدة وأهمية، وبه يُدرك جوهر الأشياء، فللحدس عنده طبيعة عقلية، والعقل يجد في الحدس أعلى صوره وأكملها.
ويعد الحدس عموماً في الفلسفة الحديثة، مقدرة غامضة على المعرفة لايمكن التوفيق بينها وبين المنطق والممارسة. إذ يحاول «شلنغ» في كتابه «الفلسفة والدين» تقديم نسق فكري مختلف عن أنساق الفكر المعروفة، فيقدم الحدس بطريقة غامضة شبه دينية، يقول عن الطبيعة هي المطلق ذاته الذي إذا نظر إليه على أنه مثالي، فإنه يكون حقيقة مباشرة، إلا أنه لا يمكن معرفته من خلال التفسير، بل من خلال الحدس.
والحدس عند «شوبنهور» هو المعرفة الحاصلة في الذهن دفعة واحدة من غير نظر أو استدلال عقلي، ويصدق هذا المعنى على تمثل الأشياء وتمثل علاقاتها، كتمثل خواص الأعداد والأشكال الهندسية من جهة ما هي مدركة إدراكاً مباشراً، وأكمل صورة للحدس عنده الحدس الجمالي، الذي ينسى فيه الإنسان نفسه في لحظة معينة من الزمن، فلا يدرك إلا حقيقة الشيء الذي يدركه، وهو يرى أن الإنسان يشترك مع الحيوان في المعرفة الحدسية، بينما يعد العقل ملكة إنسانية مختلفة للتصورات، وبهذا يخلط شوبنهور بين المعرفة الحدسية والمعرفة الغريزية.
أما «باسكال» فقد أنكر أن يكون للحدس طبيعة عقلية، لأن العقل يقف في مقابل القلب مصدرين من مصادر المعرفة، فيكون الحدس عملية تكميلية لسائر العمليات العقلية الأخرى.
كما يرفض «الماديون الجدليون» النظر إلى الحدس مرحلة خاصة في المعرفة، ويرفضون عدّ الحدس مقدرة معرفية غامضة خارقة للطبيعة، فالحدس يقوم على التفكير المنطقي والممارسة، ويدرك الحقيقة إدراكاً فجائياً، ونتائجه لا تحتاج لأي معيار خاص لقيمة الصدق، فهي طبيعية واضحة بذاتها.
الحدسية intuitionism
الحدسية هي مذهب يعطي الأولوية للحدس في عملية تكوين المعرفة، ومنها من يرى أن المعرفة تستند إلى الحدس العقلي، وأخرى تقرر أن إدراك الحقائق المادية هو إدراك حدسي مباشر وليس إدراكاً نظرياً، كما عند هاملتون.
وتتنوع النزعات الحدسية تبعاً لنوع الحدس المدرِك، فهناك حدسية أخلاقية وحدسية رياضية وحدسية فلسفية.
الحدسية الأخلاقية ethical
هي اتجاه في علم الأخلاق الحديث، أشهر دعاته: «جورج مور» و«تشارلي برود» و«دافيد روس» و«ألفرد يونغ»، ممن يعتقدون أن الخير والواجب الأخلاقي مفهومان فريدان تماماً، وأنه لا يمكن معرفتهما بأي وساطة ولا استنباطهما من معرفتنا بالإنسان أو المجتمع أو الطبيعة، وإنما يمكن تحديدهما بحدس خاص.
الحدسية الرياضية mathematical
الحدسية الرياضية مدرسة فلسفية مثالية، نشأت في عشرينات القرن العشرين، وترتبط بكل من «بروورد ديل» و«هايتنغ» وغيرهما، ولها محاولات ترتبط بالمبادئ النظرية للرياضيات. ويرى أصحاب هذه النزعة أن البرهان الرياضي ليس مقنعاً بمنطقه الدقيق، وإنما بالوضوح الحدسي لكل من روابطه. وهذا هو السبب في أنه حتى إمكانية تطبيق قواعد المنطق لابد في النهاية من الحكم عليه بوساطة الحدس.
الحدسية الفلسفية
اتجاه يرتبط بصورة عامة بالتصوف، وأبرز دعاته ومروجي أفكاره كل من برغسون ولوسكي.
وتختلف الحدسية الفلسفية عن الحدسية الرياضية إذ لا تعارض بين الحدس والمنطق، كما أن الآراء الفلسفية للمدرسة الحدسية الرياضية لم تنل اعترافاً واسعاً في الأوساط الفلسفية، ولم يُنظر إلى أفكارها بوصفها أفكاراً علمية، ولكن نقد الحسيين لمفهومي البرهان والتعريف أدى دوراً هاماً في تطوير المنطق البنائي.
عبد الحميد الصالح
Intuition - Intuition
الحدس
الحدس intuition لغة، هو الظن والتخمين والتوهم والنظر الخفي، أما اصطلاحاً فهو شكل خاص من أشكال النشاط المعرفي، أو المقدرة على فهم الحقيقة مباشرة دون استدلال منطقي تمهيدي. حيث يُدرك به ما هو معقول وما هو وراء العقل meta-reason، أي ما هو منطقي وما هو غير منطقي. ويُطلق الحدس على عملية إطلاع النفس إطلاعاً مباشراً على ما يمثله لها الحس الظاهر أو الحس الباطن من صور حسية أو نفسية، أو على كشف الذهن عن بعض الحقائق بوحي مفاجئ لا على سبيل القياس ولاعلى سبيل الاستقراء أو الاستنتاج، ولكن على سبيل المشاهدة التي ينبلج فيها الحق انبلاجاً. ويمكن الحديث عن حدس تجريبي وحدس عقلي وحدس فلسفي وحدس صوفي.
وتندرج تحت مصطلح الحدس في الفلسفة الشرقية، كل أنواع الصدق المتباينة، سواء النزعة البراهمانية أو البوذية أو الكونفوشيوسية أو البوذية الجديدة، وقد اهتمت الفلسفة الصينية بالتأمل والتربية الروحية والفهم الصامت وإعادة تركيب الأفكار وترتيبها ثم التقوى devotion، وعَدَّ فلاسفتهم عمليات العقل مثل الإدراك العام أو الحس المشترك أو الاستدلال المنطقي، الأسس الثابتة التي يُبنى عليها الحدس، سواء أكانت ظاهرة أم باطنة. وبرز في هذا المجال الفيلسوف الصيني «ين هوي» الذي قدم بحثاً في الحدس مستنداً إلى المبادئ الآتية: مبدأ إنكار الذات - مبدأ تركيز العقل - مبدأ الفهم الشامل.
كما وصف الفيلسوف «كار صن شانج» الحدس بأنه عملية معرفة خالية من الاستدلال المنطقي أو التجريب، وينسب «كار صن شانج» إلى الحدس أنواعاً كثيرة من الصدق، مثل الرياضيات والفن والأخلاق.
وبهذا اتخذت الحدسية في الفلسفة الشرقية، اتجاهاً مستقلاً في المعرفة، تغطي مجالاً أوسع ومدى أرحب من العقل.
أما عن الحدس في الفلسفة العربية الوسيطة، فقد قال عنه ابن سينا: «حركة إلى إصابة الحدّ الأوسط، إذا وضع المطلوب، أو إصابة الحد الأكبر إذا أُصيب الأوسط، وبالجملة سرعة الانتقال من معلوم إلى مجهول».
ويُعرّف «التهانوي» الحدس بأنه «تمثّل المبادئ المترتبة في النفس دفعةً من غير قصد واختيار، سواء أكان ذلك بعد الطلب أم لا، فيحصل المطلوب». والمقصود بالحركة وسرعة الانتقال، تمثّل المعنى في النفس دفعة واحدة في وقت واحد، وكأنه وحي مفاجئ أو وميض برق.
أما الحدس عند بعض الإشراقيين، فهو ارتقاء النفس الإنسانية إلى المبادئ العالية حتى تصبح مرآة مجلوة تحاذي جانب العقل، فتمتلئ من النور الإلهي أو نور الأنوار الذي يغشاها، وذلك من دون أن تنحلّ فيه انحلالاً تاماً، وهذا الامتلاء من النور الإلهي هو الذي يسمونه كشفاً روحياً أو إلهاماً.
ويتصف الحدس بأنه مباشر وفردي ومجازي ونوعي. أما عن طبيعته فقد اختلفت آراء الفلاسفة حولها، فالحدس عند ديكارت، هو الاطلاع العقلي المباشر على الحقائق البديهية، «والتصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده». والأمور التي يدركها العقل بالحدس عند ديكارت، ثلاثة أنواع، هي:
1- الطبائع البسيطة، كالامتداد والحركة والشكل والزمان.
2- الحقائق الأولية التي لا تقبل الشك، مثل أنا أفكر إذن أنا موجود (أو ما يعبر عنه باللفظ اللاتيني كوجيتو).
3- المبادئ العقلية التي تربط الحقائق بعضها ببعض، مثل أن الشيئين المساويين لشيء ثالث متساويان، ويسمي ديكارت هذا الحدس نوراً طبيعياً أو غريزة عقلية، ويعتقد ديكارت أن الشكل الاستنباطي للبرهان يعتمد على البديهيات التي تُفهم بطريقة حدسية بحتة من دون برهان، وإن الحدس بالعلاقة مع المنهج الاستنباطي، يصلح معياراً كلياً للصدق الكامل.
وعند «ليبتنز» يبنى معنى الحدس على أصول ديكارتية، سواء أكان حقائق العقل أو حقائق الواقع، فالحدس هو الاطلاع المباشر على معنى حاضر في الذهن، من حيث هو ذو حقيقة جزئية مفردة، وهذا هو المعنى الذي ينادي به «كَنت» في كتابه «نقد العقل المحض»، كما نجده عند «هاملتون» و«ديوي»، ويشترط الحدس عند هؤلاء، أن تكون الحقيقة الجزئية المفردة، إما مثالية، كما في الحدس العقلي الذي يجمع بين تصور الشيء ووجود الشيء، وإما مستفادة من الحساسية على وجه قبلي، كإدراك الزمان والمكان، وإما أن تكون بعدية، كما في الحدس التجريبي.
أما الحدس عند «هنري برغسون» فهو نوع من العرفان، يشبه عرفان الغريزة، إنه التعاطف العقلي الذي ينقلنا إلى باطن الشيء ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة، التي لايمكن التعبير عنها، لأن الحدس والعقل يعبران، عنده، عن اتجاهين متضادين في العمل الشعوري، إذ يسير الحدس في اتجاه الحياة نفسه، أما العقل فيسير في الاتجاه المضاد. ويؤكد برغسون أن الحدس لا يتفق مع روح العلم، فالعلم يصف العقل بأنه النواة المضيئة، إلا أن الحدس أفضل من العقل. ويقر برغسون في النهاية أن الحدس يتحول إلى غريزة، والغريزة عبارة عن سديم مبهم، فالعقل يعمل في مجال المادة غير الحية، والغريزة تعمل في مجال الحياة الرحب ومعها ينقسم الحدس إلى حدس حسي وحدس غير حسي.
أما الحدس عند «هنري بوانكاريه» فهو الحكم السريع المؤكد، أو التنبؤ الغريزي بالوقائع والعلاقات المجردة، وهذا الحدس أو هذا الشعور بالنظام الرياضي هو الذي يكشف لنا عن العلاقات الخفية.
كما يحتل الحدس في فلسفة «اسبينوزا» مكاناً هاماً بوصفه نوعاً ثالثاً من المعرفة، بل يعده أكثر أنواع المعرفة فائدة وأهمية، وبه يُدرك جوهر الأشياء، فللحدس عنده طبيعة عقلية، والعقل يجد في الحدس أعلى صوره وأكملها.
ويعد الحدس عموماً في الفلسفة الحديثة، مقدرة غامضة على المعرفة لايمكن التوفيق بينها وبين المنطق والممارسة. إذ يحاول «شلنغ» في كتابه «الفلسفة والدين» تقديم نسق فكري مختلف عن أنساق الفكر المعروفة، فيقدم الحدس بطريقة غامضة شبه دينية، يقول عن الطبيعة هي المطلق ذاته الذي إذا نظر إليه على أنه مثالي، فإنه يكون حقيقة مباشرة، إلا أنه لا يمكن معرفته من خلال التفسير، بل من خلال الحدس.
والحدس عند «شوبنهور» هو المعرفة الحاصلة في الذهن دفعة واحدة من غير نظر أو استدلال عقلي، ويصدق هذا المعنى على تمثل الأشياء وتمثل علاقاتها، كتمثل خواص الأعداد والأشكال الهندسية من جهة ما هي مدركة إدراكاً مباشراً، وأكمل صورة للحدس عنده الحدس الجمالي، الذي ينسى فيه الإنسان نفسه في لحظة معينة من الزمن، فلا يدرك إلا حقيقة الشيء الذي يدركه، وهو يرى أن الإنسان يشترك مع الحيوان في المعرفة الحدسية، بينما يعد العقل ملكة إنسانية مختلفة للتصورات، وبهذا يخلط شوبنهور بين المعرفة الحدسية والمعرفة الغريزية.
أما «باسكال» فقد أنكر أن يكون للحدس طبيعة عقلية، لأن العقل يقف في مقابل القلب مصدرين من مصادر المعرفة، فيكون الحدس عملية تكميلية لسائر العمليات العقلية الأخرى.
كما يرفض «الماديون الجدليون» النظر إلى الحدس مرحلة خاصة في المعرفة، ويرفضون عدّ الحدس مقدرة معرفية غامضة خارقة للطبيعة، فالحدس يقوم على التفكير المنطقي والممارسة، ويدرك الحقيقة إدراكاً فجائياً، ونتائجه لا تحتاج لأي معيار خاص لقيمة الصدق، فهي طبيعية واضحة بذاتها.
الحدسية intuitionism
الحدسية هي مذهب يعطي الأولوية للحدس في عملية تكوين المعرفة، ومنها من يرى أن المعرفة تستند إلى الحدس العقلي، وأخرى تقرر أن إدراك الحقائق المادية هو إدراك حدسي مباشر وليس إدراكاً نظرياً، كما عند هاملتون.
وتتنوع النزعات الحدسية تبعاً لنوع الحدس المدرِك، فهناك حدسية أخلاقية وحدسية رياضية وحدسية فلسفية.
الحدسية الأخلاقية ethical
هي اتجاه في علم الأخلاق الحديث، أشهر دعاته: «جورج مور» و«تشارلي برود» و«دافيد روس» و«ألفرد يونغ»، ممن يعتقدون أن الخير والواجب الأخلاقي مفهومان فريدان تماماً، وأنه لا يمكن معرفتهما بأي وساطة ولا استنباطهما من معرفتنا بالإنسان أو المجتمع أو الطبيعة، وإنما يمكن تحديدهما بحدس خاص.
الحدسية الرياضية mathematical
الحدسية الرياضية مدرسة فلسفية مثالية، نشأت في عشرينات القرن العشرين، وترتبط بكل من «بروورد ديل» و«هايتنغ» وغيرهما، ولها محاولات ترتبط بالمبادئ النظرية للرياضيات. ويرى أصحاب هذه النزعة أن البرهان الرياضي ليس مقنعاً بمنطقه الدقيق، وإنما بالوضوح الحدسي لكل من روابطه. وهذا هو السبب في أنه حتى إمكانية تطبيق قواعد المنطق لابد في النهاية من الحكم عليه بوساطة الحدس.
الحدسية الفلسفية
اتجاه يرتبط بصورة عامة بالتصوف، وأبرز دعاته ومروجي أفكاره كل من برغسون ولوسكي.
وتختلف الحدسية الفلسفية عن الحدسية الرياضية إذ لا تعارض بين الحدس والمنطق، كما أن الآراء الفلسفية للمدرسة الحدسية الرياضية لم تنل اعترافاً واسعاً في الأوساط الفلسفية، ولم يُنظر إلى أفكارها بوصفها أفكاراً علمية، ولكن نقد الحسيين لمفهومي البرهان والتعريف أدى دوراً هاماً في تطوير المنطق البنائي.
عبد الحميد الصالح