حفظ صحه (تاريخ)
Hygiene (history) - Hygiène (histoire)
حفظ الصحة (تاريخ -)
حفظ الصحة أو التصحح hygiene شعبة من شعب الطب تدرس الوسائل التي تستبقي الإنسان بصحة جيدة بإبعاده عن الإصابة بمرض. وقد اتسع مفهوم حفظ الصحة في العقود الأخيرة حتى أصبح يشمل مجموع العوامل الفردية والاجتماعية والوطنية والدولية التي تتيح للمرء الوصول إلى توازن عضوي ونفسي وأخلاقي. وقد اتبعت الشعوب كلها، سواء أكانت ابتدائية أم متطورة قواعد صحية معينة، ولكن هناك فروقاً واضحة بين تعاليم حفظ الصحة التي كانت تتبع في الماضي وبين ما يتبع اليوم؛ ولقد خضعت هذه الفروق لتبدلات سايرت المكتشفات العلمية والبيولوجية، وارتبط تطورها ارتباطاً وثيقاً بتغير بنية المجتمع ذاته، كما أن العقائد الدينية والآراء الفلسفية والتطورات السياسية أسهمت في نشوء بعض قواعد حفظ الصحة الحالي.
كانت بلاد الإغريق على وعي تام بالمشكلات التي يطرحها حفظ الشكل الظاهر لجسم الإنسان، ففي أساطيرهم أطلقوا على إحدى إلاهاتهم التي تمثل الصحة اسم هيجي Hygie وقرنوا اسمها باسم أبيها إله الطب أسكليبيوس Asclepios الذي يهب الشفاء. وقد وضع أبقراط[ر] بعض الأسس لحفظ الصحة، كانت ثمرة ملاحظاته وتجاربه الخاصة اتصلت كلها بصحة الفرد وحده. لكن الصحة العامة التي تعنى بالمجتمع كله لم تتضح معالم خطواتها الأولى إلا في عهد الرومان الذين جروا المياه إلى المدن وميزوا في توزيع أقنيتها بين النظيفة وغير النظيفة. وبعد انهيار الامبراطورية الرومانية سرعان ما تراجعت هذه الوسائل والمفاهيم الصحية حتى جاء العرب المسلمون، فأحيوا ما قام به الإغريق والرومان وأضافوا إليه الكثير. ويعد علماء العرب الطليعة التي وضعت أسس علم الصحة الحديث بنظرتهم إلى أن الإنسان هو جزء من المجتمع. ومن الذين أسهموا في هذا المضمار حنين ابن إسحاق[ر] الذي عاش في عصر المأمون وألف كتباً منها كتاب «تدبير الأصحاء» وكتاب «قوى الأغذية»؛ ومنهم أبو بكر محمد الرازي[ر] الذي خصص جزءاً من مؤلفاته لدراسة حفظ الصحة وتعريف الوبائيات. فهو أول من ميّز بين الجدري والحصبة وذكر ذلك في مؤلفه الجدري والحصبة، كما أنه أول من أكد دور الغذاء في الصحة في كتابه «منافع الأغذية ودفع مضارها»، ومما قاله فيه: إن استطاع الحكيم أن يعالج بالأغذية دون الأدوية فقد وافق السعادة. وكان الرازي يتمتع بحدس علمي شديد حتى كأنه استشف وجود أحياء ضارة لا ترى بالعين المجردة؛ فقد طُلب منه اختيار أفضل مكان في بغداد لبناء بيمارستان (مستشفى) فوضع قطع لحم في أماكن متفرقة ومتباعدة من المدينة، وراح يتردد عليها ليفحصها فأشار بإشادة البناء في آخر مكان تَلفت به قطعة اللحم. كما كتب ابن سينا[ر] أيضاً بالصحة العامة، وأشار إلى ما يعرف اليوم بالطب الوقائي وتحدث عن المعالجة بالماء وأشعة الشمس وغذاء الأطفال والشيوخ في رسالته «في دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية»؛ واتضحت في ذاك العهد بعض المعارف التي تتصل بالصحة العقلية، ونقلت هذه كلها من العربية إلى اللغة اللاتينية وانتشرت في السواحل الشمالية للبحر المتوسط وعدت فيها مرجعاً.
وفي القرن السادس عشر نشر الإيطالي ج. فراكاستورو G.Fracastoro كتاباً بعنوان: «العدوى والأمراض المعدية»، وفيه يتحدث وللمرة الأولى عن العدوى بأجسام حية وبأنها العامل المسبب للأمراض الخمجية سواء أكانت الطاعون أم الإفرنجي أم السل، وهي أكثر الأمراض المنتقلة في زمانه انتشاراً. وميّز بين العدوى المباشرة وغير المباشرة التي تحدث عن بعد. كما أن الإيطالي بر. رامازيني Ramazzini شرح في كتابه «أمراض الحرفيين» الذي نشره عام 1713 مفهوم المرض المهني وحاول إيجاد علاقة بين الآفة والوسط الذي يعيش فيه العامل، ووضع الأسس الأولى للوقاية من هذه الأمراض المهنية. وفي هذا العصر بالذات فتح جنـر Jenner ت(1749-1823) الطبيب البريطاني عصر اللقاحات باكتشافه سنة 1796 لقاح الجدري. وكان هذا الخمج الفيروسي يقتل في مدينة لندن واحداً من كل ثلاثة عشر من ساكنيها، حتى إن عدد الوفيات كان يفوق فيها عدد الولادات. وفي عام 1794 بدأ تعليم الصحة العامة في كليات الطب وعُدت في فرنسا مقرراً درسياً مستقلاً، ثم أخذت بهذا المبدأ بعد عام بريطانيا وتلتها إيطاليا. وانبرى العاملون في حفظ الصحة العامة لدراسة الأمراض المهنية وشروط حياة العمال في إنكلترا، فصدر أول تشريع عام 1802 لحماية صحة العمال الأطفال الذين كانوا يستخدمون بكثرة في تلك البلاد. وقد نشر أدوين شادويك E.Chadwick الإنكليزي في عام 1842 إحصائية صحية ذكر فيها أن نصف أطفال الطبقة العاملة يموتون قبل الخامسة من عمرهم وأن متوسط العمر في المدن الصناعية في بلاده هو 36 عاماً للطبقة العليا، و22 للوسطى، و16 للعمال. وفي أواخر 1840 وضع الطبيب البريطاني ج. سنو J.Snow نظريته في العدوى التي قال فيها: إن الإسهالات الناجمة عن الهيضة (الكوليرا) يتم انتقالها عن طريق شرب الماء الملوث ببراز المصابين بهذا الخمج. وكان وباء الهيضة يفتك بسكان لندن فأنشئت في عام 1848 أول وزارة للصحة في العالم. وبدأ الأطباء يرون أن حفظ صحة الفرد لا تنفصل عن صحة المجتمع، وأنه لمكافحة الأوبئة لابد من تطبيق المبادئ الصحية في المدن والقرى على حد سواء وعلى الأفراد جميعهم؛ وهكذا جرى توزيع الماء الشروب في المدن وانتشرت حماية مصادر المياه وتهوية المساكن. وكانت لندن أول مدينة طبقت ذلك ثم تبعتها برلين ومونيخ وبعدهما نيويورك وباريس. وقد شهد القرن التاسع عشر أعمال باستور[ر] التي بين فيها العلاقة بين الجراثيم والمرض واكتشف لقاحاً ضد الكلب، ثم أدخل الجراح البريطاني جوزيف ليستر Lister ت(1827-1912) تطهير الأدوات الجراحية بالماء ثم بالفنيك. وفي عام 1880 وضع الألماني كوخ الأسس العلمية لتعريف المرض الخمجي وطرق انتقاله. وفي عام 1892 وضعت أول اتفاقية صحية تخضع البواخر الني تعبر قناة السويس للرقابة بغية مقاومة وباء الهيضة. وكان السل مرضاً مستوطناً في المدن الكبرى في ذاك القرن حتى أسموه أحياناً الطاعون الأبيض لشدة انتشاره، مما دفع لإنشاء أول مصح للسل في العالم في ألمانيا عام 1895. وكان التيفوس والحمى التيفية من الأمراض الشديدة الانتشار لكن تقدم المعارف الصحية ومكافحة الأمراض الخمجية خفضت كثيراً من نسب الوفيات بها. فالوفيات الناجمة عن الحمى التيفية في عام 1911 كانت أقل منها بعشر مرات عما كانت عليه عام 1871.
وفي هذا العصر تتجه القواعد الصحية للوقاية الاجتماعية فهي تدرس أسباب الأمراض والوفيات لكل فئة من فئات المجتمع؛ لكن المستوى الصحي للأفراد يختلف اختلافاً بيناً من بلد لآخر وفي البلد الواحد أيضاً، إذ ما زال في البلاد النامية على درجة كبيرة من القصور. إن أكثر من نصف سكان العالم اليوم لا يحصلون على حاجاتهم الغذائية، ولا يقيمون في مساكن صحية؛ فهناك ما يزيد على 800 مليون إنسان يعانون جوعاً مزمناً. وقد تبين أن أقل من ثلث سكان العالم يتمتع بخيرات الكرة الأرضية في حين أن الثلثين الباقيين محرومان منها. إن نحو 97 في المائة من مجموع وفيات الأطفال تحدث في البلاد النامية، وتبلغ هذه النسبة 100 في الألف وفي بعضها أكثر من 200 في الألف، ويعد سوء التغذية المسؤول الأكبر عن تلك الوفيات. ولا يعود تدني المستوى الصحي في البلاد النامية إلى الجوع فحسب بل إن الأمراض الطفيلية ما زالت تفتك في كثير من سكانها ولاسيما في المناطق الريفية. فهناك نحو 200 مليون شخص مصاب بداء البلهارزيات، وأكثر من 300 مليون بداء الخيطيات filaria. وتشير تقديرات أجريت عام 1975 إلى أن 541 مليون شخص كانوا معرضين لخطر الإصابة بالبرداء (الملاريا). ومع هذا فإن الوضع الصحي في البلاد الصناعية يواجه مشكلات صحية من نوع آخر تنجم عن الحضارة وتطورها المستمر، وقد حلت هذه مكان المشكلات التقليدية الناجمة عن الجهل والجوع والفقر والأمراض الخمجية. لقد زادت في البلاد الصناعية الأمراض التي يسببها الإسراف في الراحة وتناول الأغذية كالبدانة وغيرها وأدت إلى زيادة نسب الوفيات وإن كان بعض أسبابها ما زال مجهولاً. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية تم الاعتراف في النرويج بأن تدهور الصحة لاينشأ عن نقص التغذي فحسب بل عن الإفراط به أيضاً، وقد ازدادت نسبة الوفيات بالأمراض القلبية الوعائية والأورام الخبيثة. وفي البلاد الصناعية تتزايد أيضاً الإصابات بالأمراض النفسية ولاسيما فيما يتصل منها بالعصابات neurosis والذهانات psychosis، وقد ظهرت مشكلات جديدة تعود إلى الإرهاق والكرب stress وانتشار المخدرات واستعمال المهدئات. ويؤلف التلوث الذي يصيب الهواء والماء والتربة والطعام، نتيجة فضلات الاحتراق أو استعمال المواد الكيماوية المشعة مشكلة في معظم البلاد الصناعية. فهناك علاقة سيئة تحدث أحياناً بين حفظ الصحة والتلوث الذي هو بلا جدال ثمرة الحضارة؛ فبعض المواد التي ترفع المستوى الصحي كالمنظفات التركيبية والمبيدات الحشرية تلوث الأنهار والبحار وتقضي على حيواناتها، كما تلوث التربة وتؤثر في المحاصيل الزراعية. يضاف إلى هذه المشكلات الصحية انتشار بعض الأخماج الفيروسية في البلاد الصناعية والنامية على حد سواء كفيروس HIV عامل عوز المناعة المكتسب (الإيدز). لقد تم استفراد هذا الفيروس وتحديد أوصافه وتعرف طرق انتقاله، ومع هذا ليس هناك حتى اليوم أي علاج نوعي أو لقاح متوافرين له. فقد قدر عدد المصابين بهذا الفيروس في نهاية عام 2002 في العالم بنحو 42 مليون نسمة منهم 38.6 مليون كهل، و3.2 مليون طفل تقل أعمارهم عن 15عاماً، كما قدر أن نحو 9 بالمائة من الكهول الذين تراوح أعمارهم بين 15 إلى 49 عاماً من سكان الصحراء الإفريقية مخموجين بهذا الفيروس وأن نحو 40.000 نسمة جدد يصابون به كل عام في الولايات المتحدة.
ويمكن القول إنه على الرغم من تقدم العلوم البيولوجية والطبية ووجود وسائل وتقنيات كثيرة في متناول المتخصصين، فإن الشعوب لم تحظَ حتى اليوم بحالة صحية فضلى بدنية كانت أم عقلية أو اجتماعية. لقد برهنت التطبيقات العلمية على أنه لا يمكن تخطي حالة البؤس الصحي في البلاد النامية إلا إذا قضي على الجوع، كما أنه لابد من التصدي لما ينجم عن الحضارة والتصنيع من خلل في التوازن الحيوي وزيادة سكانية، وكل منهما يطرح مشكلات صحية كثيرة.
عدنان تكريتي
Hygiene (history) - Hygiène (histoire)
حفظ الصحة (تاريخ -)
حفظ الصحة أو التصحح hygiene شعبة من شعب الطب تدرس الوسائل التي تستبقي الإنسان بصحة جيدة بإبعاده عن الإصابة بمرض. وقد اتسع مفهوم حفظ الصحة في العقود الأخيرة حتى أصبح يشمل مجموع العوامل الفردية والاجتماعية والوطنية والدولية التي تتيح للمرء الوصول إلى توازن عضوي ونفسي وأخلاقي. وقد اتبعت الشعوب كلها، سواء أكانت ابتدائية أم متطورة قواعد صحية معينة، ولكن هناك فروقاً واضحة بين تعاليم حفظ الصحة التي كانت تتبع في الماضي وبين ما يتبع اليوم؛ ولقد خضعت هذه الفروق لتبدلات سايرت المكتشفات العلمية والبيولوجية، وارتبط تطورها ارتباطاً وثيقاً بتغير بنية المجتمع ذاته، كما أن العقائد الدينية والآراء الفلسفية والتطورات السياسية أسهمت في نشوء بعض قواعد حفظ الصحة الحالي.
كانت بلاد الإغريق على وعي تام بالمشكلات التي يطرحها حفظ الشكل الظاهر لجسم الإنسان، ففي أساطيرهم أطلقوا على إحدى إلاهاتهم التي تمثل الصحة اسم هيجي Hygie وقرنوا اسمها باسم أبيها إله الطب أسكليبيوس Asclepios الذي يهب الشفاء. وقد وضع أبقراط[ر] بعض الأسس لحفظ الصحة، كانت ثمرة ملاحظاته وتجاربه الخاصة اتصلت كلها بصحة الفرد وحده. لكن الصحة العامة التي تعنى بالمجتمع كله لم تتضح معالم خطواتها الأولى إلا في عهد الرومان الذين جروا المياه إلى المدن وميزوا في توزيع أقنيتها بين النظيفة وغير النظيفة. وبعد انهيار الامبراطورية الرومانية سرعان ما تراجعت هذه الوسائل والمفاهيم الصحية حتى جاء العرب المسلمون، فأحيوا ما قام به الإغريق والرومان وأضافوا إليه الكثير. ويعد علماء العرب الطليعة التي وضعت أسس علم الصحة الحديث بنظرتهم إلى أن الإنسان هو جزء من المجتمع. ومن الذين أسهموا في هذا المضمار حنين ابن إسحاق[ر] الذي عاش في عصر المأمون وألف كتباً منها كتاب «تدبير الأصحاء» وكتاب «قوى الأغذية»؛ ومنهم أبو بكر محمد الرازي[ر] الذي خصص جزءاً من مؤلفاته لدراسة حفظ الصحة وتعريف الوبائيات. فهو أول من ميّز بين الجدري والحصبة وذكر ذلك في مؤلفه الجدري والحصبة، كما أنه أول من أكد دور الغذاء في الصحة في كتابه «منافع الأغذية ودفع مضارها»، ومما قاله فيه: إن استطاع الحكيم أن يعالج بالأغذية دون الأدوية فقد وافق السعادة. وكان الرازي يتمتع بحدس علمي شديد حتى كأنه استشف وجود أحياء ضارة لا ترى بالعين المجردة؛ فقد طُلب منه اختيار أفضل مكان في بغداد لبناء بيمارستان (مستشفى) فوضع قطع لحم في أماكن متفرقة ومتباعدة من المدينة، وراح يتردد عليها ليفحصها فأشار بإشادة البناء في آخر مكان تَلفت به قطعة اللحم. كما كتب ابن سينا[ر] أيضاً بالصحة العامة، وأشار إلى ما يعرف اليوم بالطب الوقائي وتحدث عن المعالجة بالماء وأشعة الشمس وغذاء الأطفال والشيوخ في رسالته «في دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية»؛ واتضحت في ذاك العهد بعض المعارف التي تتصل بالصحة العقلية، ونقلت هذه كلها من العربية إلى اللغة اللاتينية وانتشرت في السواحل الشمالية للبحر المتوسط وعدت فيها مرجعاً.
وفي القرن السادس عشر نشر الإيطالي ج. فراكاستورو G.Fracastoro كتاباً بعنوان: «العدوى والأمراض المعدية»، وفيه يتحدث وللمرة الأولى عن العدوى بأجسام حية وبأنها العامل المسبب للأمراض الخمجية سواء أكانت الطاعون أم الإفرنجي أم السل، وهي أكثر الأمراض المنتقلة في زمانه انتشاراً. وميّز بين العدوى المباشرة وغير المباشرة التي تحدث عن بعد. كما أن الإيطالي بر. رامازيني Ramazzini شرح في كتابه «أمراض الحرفيين» الذي نشره عام 1713 مفهوم المرض المهني وحاول إيجاد علاقة بين الآفة والوسط الذي يعيش فيه العامل، ووضع الأسس الأولى للوقاية من هذه الأمراض المهنية. وفي هذا العصر بالذات فتح جنـر Jenner ت(1749-1823) الطبيب البريطاني عصر اللقاحات باكتشافه سنة 1796 لقاح الجدري. وكان هذا الخمج الفيروسي يقتل في مدينة لندن واحداً من كل ثلاثة عشر من ساكنيها، حتى إن عدد الوفيات كان يفوق فيها عدد الولادات. وفي عام 1794 بدأ تعليم الصحة العامة في كليات الطب وعُدت في فرنسا مقرراً درسياً مستقلاً، ثم أخذت بهذا المبدأ بعد عام بريطانيا وتلتها إيطاليا. وانبرى العاملون في حفظ الصحة العامة لدراسة الأمراض المهنية وشروط حياة العمال في إنكلترا، فصدر أول تشريع عام 1802 لحماية صحة العمال الأطفال الذين كانوا يستخدمون بكثرة في تلك البلاد. وقد نشر أدوين شادويك E.Chadwick الإنكليزي في عام 1842 إحصائية صحية ذكر فيها أن نصف أطفال الطبقة العاملة يموتون قبل الخامسة من عمرهم وأن متوسط العمر في المدن الصناعية في بلاده هو 36 عاماً للطبقة العليا، و22 للوسطى، و16 للعمال. وفي أواخر 1840 وضع الطبيب البريطاني ج. سنو J.Snow نظريته في العدوى التي قال فيها: إن الإسهالات الناجمة عن الهيضة (الكوليرا) يتم انتقالها عن طريق شرب الماء الملوث ببراز المصابين بهذا الخمج. وكان وباء الهيضة يفتك بسكان لندن فأنشئت في عام 1848 أول وزارة للصحة في العالم. وبدأ الأطباء يرون أن حفظ صحة الفرد لا تنفصل عن صحة المجتمع، وأنه لمكافحة الأوبئة لابد من تطبيق المبادئ الصحية في المدن والقرى على حد سواء وعلى الأفراد جميعهم؛ وهكذا جرى توزيع الماء الشروب في المدن وانتشرت حماية مصادر المياه وتهوية المساكن. وكانت لندن أول مدينة طبقت ذلك ثم تبعتها برلين ومونيخ وبعدهما نيويورك وباريس. وقد شهد القرن التاسع عشر أعمال باستور[ر] التي بين فيها العلاقة بين الجراثيم والمرض واكتشف لقاحاً ضد الكلب، ثم أدخل الجراح البريطاني جوزيف ليستر Lister ت(1827-1912) تطهير الأدوات الجراحية بالماء ثم بالفنيك. وفي عام 1880 وضع الألماني كوخ الأسس العلمية لتعريف المرض الخمجي وطرق انتقاله. وفي عام 1892 وضعت أول اتفاقية صحية تخضع البواخر الني تعبر قناة السويس للرقابة بغية مقاومة وباء الهيضة. وكان السل مرضاً مستوطناً في المدن الكبرى في ذاك القرن حتى أسموه أحياناً الطاعون الأبيض لشدة انتشاره، مما دفع لإنشاء أول مصح للسل في العالم في ألمانيا عام 1895. وكان التيفوس والحمى التيفية من الأمراض الشديدة الانتشار لكن تقدم المعارف الصحية ومكافحة الأمراض الخمجية خفضت كثيراً من نسب الوفيات بها. فالوفيات الناجمة عن الحمى التيفية في عام 1911 كانت أقل منها بعشر مرات عما كانت عليه عام 1871.
وفي هذا العصر تتجه القواعد الصحية للوقاية الاجتماعية فهي تدرس أسباب الأمراض والوفيات لكل فئة من فئات المجتمع؛ لكن المستوى الصحي للأفراد يختلف اختلافاً بيناً من بلد لآخر وفي البلد الواحد أيضاً، إذ ما زال في البلاد النامية على درجة كبيرة من القصور. إن أكثر من نصف سكان العالم اليوم لا يحصلون على حاجاتهم الغذائية، ولا يقيمون في مساكن صحية؛ فهناك ما يزيد على 800 مليون إنسان يعانون جوعاً مزمناً. وقد تبين أن أقل من ثلث سكان العالم يتمتع بخيرات الكرة الأرضية في حين أن الثلثين الباقيين محرومان منها. إن نحو 97 في المائة من مجموع وفيات الأطفال تحدث في البلاد النامية، وتبلغ هذه النسبة 100 في الألف وفي بعضها أكثر من 200 في الألف، ويعد سوء التغذية المسؤول الأكبر عن تلك الوفيات. ولا يعود تدني المستوى الصحي في البلاد النامية إلى الجوع فحسب بل إن الأمراض الطفيلية ما زالت تفتك في كثير من سكانها ولاسيما في المناطق الريفية. فهناك نحو 200 مليون شخص مصاب بداء البلهارزيات، وأكثر من 300 مليون بداء الخيطيات filaria. وتشير تقديرات أجريت عام 1975 إلى أن 541 مليون شخص كانوا معرضين لخطر الإصابة بالبرداء (الملاريا). ومع هذا فإن الوضع الصحي في البلاد الصناعية يواجه مشكلات صحية من نوع آخر تنجم عن الحضارة وتطورها المستمر، وقد حلت هذه مكان المشكلات التقليدية الناجمة عن الجهل والجوع والفقر والأمراض الخمجية. لقد زادت في البلاد الصناعية الأمراض التي يسببها الإسراف في الراحة وتناول الأغذية كالبدانة وغيرها وأدت إلى زيادة نسب الوفيات وإن كان بعض أسبابها ما زال مجهولاً. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية تم الاعتراف في النرويج بأن تدهور الصحة لاينشأ عن نقص التغذي فحسب بل عن الإفراط به أيضاً، وقد ازدادت نسبة الوفيات بالأمراض القلبية الوعائية والأورام الخبيثة. وفي البلاد الصناعية تتزايد أيضاً الإصابات بالأمراض النفسية ولاسيما فيما يتصل منها بالعصابات neurosis والذهانات psychosis، وقد ظهرت مشكلات جديدة تعود إلى الإرهاق والكرب stress وانتشار المخدرات واستعمال المهدئات. ويؤلف التلوث الذي يصيب الهواء والماء والتربة والطعام، نتيجة فضلات الاحتراق أو استعمال المواد الكيماوية المشعة مشكلة في معظم البلاد الصناعية. فهناك علاقة سيئة تحدث أحياناً بين حفظ الصحة والتلوث الذي هو بلا جدال ثمرة الحضارة؛ فبعض المواد التي ترفع المستوى الصحي كالمنظفات التركيبية والمبيدات الحشرية تلوث الأنهار والبحار وتقضي على حيواناتها، كما تلوث التربة وتؤثر في المحاصيل الزراعية. يضاف إلى هذه المشكلات الصحية انتشار بعض الأخماج الفيروسية في البلاد الصناعية والنامية على حد سواء كفيروس HIV عامل عوز المناعة المكتسب (الإيدز). لقد تم استفراد هذا الفيروس وتحديد أوصافه وتعرف طرق انتقاله، ومع هذا ليس هناك حتى اليوم أي علاج نوعي أو لقاح متوافرين له. فقد قدر عدد المصابين بهذا الفيروس في نهاية عام 2002 في العالم بنحو 42 مليون نسمة منهم 38.6 مليون كهل، و3.2 مليون طفل تقل أعمارهم عن 15عاماً، كما قدر أن نحو 9 بالمائة من الكهول الذين تراوح أعمارهم بين 15 إلى 49 عاماً من سكان الصحراء الإفريقية مخموجين بهذا الفيروس وأن نحو 40.000 نسمة جدد يصابون به كل عام في الولايات المتحدة.
ويمكن القول إنه على الرغم من تقدم العلوم البيولوجية والطبية ووجود وسائل وتقنيات كثيرة في متناول المتخصصين، فإن الشعوب لم تحظَ حتى اليوم بحالة صحية فضلى بدنية كانت أم عقلية أو اجتماعية. لقد برهنت التطبيقات العلمية على أنه لا يمكن تخطي حالة البؤس الصحي في البلاد النامية إلا إذا قضي على الجوع، كما أنه لابد من التصدي لما ينجم عن الحضارة والتصنيع من خلل في التوازن الحيوي وزيادة سكانية، وكل منهما يطرح مشكلات صحية كثيرة.
عدنان تكريتي