عدنان بوظو في البداية
لؤي عدنان بوظو
الفرق بين الموت والحياة هو أن الموت يسلب الجسد والروح من الحياة لكن هذا الـفـرق ليس قاعدة تشمل جميع البشر ، بل هناك استثناءات عديدة ومـن هـذه الاستثناءات عجز الموت عن سلب روح أبي من الحياة بعد أن نجح في سلب جسده ، فما زال قلم عميد الصحافة الرياضية عدنان بوظو يتربع عرش الكلمة الناقدة المصلحة الواقعية بلا منازع ، وما زال صوت زعيم التعليق الرياضي يعشش في قلوب الملايين من عشاق الرياضة في سورية والوطن العربي حتى غدا صوته وتعليقه مدرسة ينهل منها المعلقون وزاداً يزداد منه المشجعون والمستمعون ، فكانت المباريات التي لا يسمع فيها صوته جامدة جمود الصور ، فقد استطاع يرحمه الله أن يجعل من الرياضة حياة ببثه الروح في نفوس وأفواه المشاهدين قبل اللاعبين أثناء المباريات فحول بذلك الرياضة لهم واهتمام كل رياضي أو غير رياضي يسعى إلى التشويق والإثارة .
لقد ارتبط اسم والدي يرحمه الله بالفوز والخسارة وهذا ما كنت ألمسه من خلال تصرفات عشاق الرياضة فإن فاز المنتخب هتفت الجماهير بحياة المنتخب وحياة عدنان بوظو ، وإن خسر المنتخب حملت الجماهير أسباب الخسارة إلى المنتخب وعدنان بوظو ، وخير شاهد على كلامي هذا تلك الحادثة الطريفة التي حدثت مع والدي أثناء حضوري معه المباراة المؤهلة لمونديال المكسيك 1986 بين سورية والعراق ملعب العباسيين بدمشق والتي انتهت ذهاباً بالتعادل السلبي ، فبعد انتهاء المباراة خرجت مع والدي وصعدت سيارته وإذا بالجماهير تحمل السيارة فأصبحت تسير فوق الأيدي لا على عجلاتها تحت دوي الحناجر الهاتفة « عالمكسيك يا سورية عالمكسيك وعالمكسيك يا بوظو عالمكسيك ، فعلق والدي مازحاً : « تعادلنا فحملونا مع السيارة ماذا كانوا سيفعلون لو فزنا ؟! » ولا يسعني هنا إلا أن أقول لروح أبي : لقد حمل محبوك سيارتك مرة وساروا خلفها بالآلاف والفرحة تغمر قلوبهم ولتعلم يا أبي أن جسدك الطاهر حمل مرة أخرى حين وفاتك وسار خلفه الآلاف من محبيك ، لكن الحزن كان يدمي قلوبهم والدمع يملأ عيونهم على فراقك ، فكيف حال قلوب وعيون ابنك الذي يسطر هذه الكلمات من ذكريات جميلة جمعته معك ، وها أنا أعود بالذكريات قليلاً إلى تلك المباراة التي ذكرتها سابقاً بين منتخبي سورية والعراق بكرة القدم حين قال والدي عدنان بوظو وأنا جالس إلى جواره في غرفة التعليق وأمام قرابة الخمسين ألف متفرج احتشدوا في ملعب العباسيين بدمشق وملايين المشاهدين عبر التلفاز « صفقوا للأشقاء العراقيين كما تصـفـقـوا للمنتخب السوري ، وكأنه أراد بذلك إزالـة الـرهـبـة مـن قـلـوب اللاعبين والمشجعين العراقيين لتكون المباراة نزيهة دون ضغط وتهويل وقاطعاً الطريق على المدسوسين الجاهزين لإثارة الشغب وتوتير الأجواء ، ولا يخفى على أحد ما كان تلك الفترة من مقاطعة سياسية بين بلدي المنتخبين الشقيقين سورية والعراق .
- وبعد خروج منتخب سورية بكرة القدم من تصفيات كأس العالم المؤهلة لمونديال المكسيك 86 بعد خسارته أمام منتخب العراق في مدينة الطائف السعودية بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد وهو قاب قوسين أو أدنى من التأهل لأول مرة في تاريخه إلى كأس العالم ، قال والدي عملاق الإعلام العربي بكل جرأة « استحق المنتخب العراقي الفوز وكان الأفضل في الملعب مزيلاً بهذا التعليق التشنجات والعصبيات بين الأشقاء العرب كما
عبر أستاذ الكلمة الرياضية عن تلك الخسارة بواقعية كبيرة عندما كتب في جريدة الاتحاد بالعنوان العريض « الطائف حدودنا » وكم كانت محاولاته كثيرة لإزالة تلك الحساسيات الناتجة عن جهل وتخلف مع الأسف لبعض الرياضيين والمشجعين حتى داخل الوطن ، فقد استضاف في برنامجه الشهير محطات رياضية نجمي كرة السلة السورية أنور عبد الحي من نادي الوحدة ومحمد أبو سعدى من نادي الاتحاد وأيضاً إداري نادي الوحدة أحمد قوطرش ومدرب نادي الاتحاد باسل حموي ، كل ذلك لمناشدة جماهير الفريقين بالالتزام والتمسك بأصول التشجيع الحضاري البعيد عن التشنج والحساسية ، فتصبح الرياضة بذلك عامل توحيد لا تفريق بين أبناء الوطن الواحد لتجتمع في قلب الراحل عنا جسداً ، الخالد فينا روحاً ، الحكمة وعشق الرياضة في آن معاً وعشقه الرياضة تعدى التعليق إلى الصحافة فمنذ الاستقلال لم تعرف سورية صحفاً رياضية إلا حينما قرر الراحل العظيم تأسيس صحيفة رياضية متخصصة كأول جريدة رياضية رسمية ، وأول صحيفة أصدرها جريدة الملاعب الرياضية ثم جريدة الموقف الرياضي فجريدة الاتحاد الشهيرة التي كان يتسابق عشاق الرياضة لشرائها فتنفد من المكتبات مساء يوم الإصدار وأجمل ما في تلك الجريدة زاويته الشهيرة في الصميم ، حيث عالجت الأخطاء وقومت الاعوجاج في صميم الرياضة السورية وتحلت تلك الزاوية بحياد قلمها وموضوعية كلماتها ليصبح دور الراحل وصوته وقلمه أساسياً في نهضة الكرة السورية بشكل خاص والرياضة السورية بشكل عام ، فالفوز لا يردع الرياضي والناقد والموضوعي عن مزاولة عمله في تحديد الأخطاء والسعي لتجاوزها بكل حرص ونبل ، وهذا ما حصل حين فاز المنتخب السوري على شقيقه اليمني في تصفيات كأس العالم ١٩٩٠ فقد كتب عدنان بوظو في جريدة الاتحاد بالعنوان العريض « بلا روح وأداء فزنا ي صنعاء ، وكما الفوز لا يردع كلمته الحرة من الخروج صادقة لتعالج الأداء السيئ ، أيضاً الخسارة لا تردع كلمته الحرة من الخروج صادقة لتثني على الأداء الجيد وخير دليل على ذلك ما كتبه في جريدة الاتحاد بالعنوان العريض « بأحرف من ذهب وقعنا على كأس العرب » رغم خسارتنا المباراة النهائية لكأس العرب في عمان ٨٨ أمام المنتخب العراقي بركلات الجزاء الترجيحية مثنياً بذلك على أداء المنتخب السوري لكرة القدم .
- إن الاستثناء لا يتكرر وإن خلود الأشخاص في عقولنا وقلوبنا يكمن في دورها وعطاءاتها وأعمالها التي لم ولن ينساها الوطن وأبناؤه المخلصون .
- لا أبالغ إن قلت إن الرجل الاستثنائي كان يعمل على مدار ٢٤ ساعة دون كلل أو ملل للمساهمة في إنجاح دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط باللاذقية ٨٧ ، وهذا ما لمسته عند مرافقتي له طيلة أيام الدورة ، حيث تغلب علي التعب دون عمل متسائلاً في نفسي ألا يتعب أبي ؟! فبفضله ثالت تلك الدورة تغطية إعلامية رائعة ، فحققت بذلك نجاحاً منقطع النظير
لتغدو دورة يستضيفها العرب جميعاً وليست حكراً على سورية بفضل الدعوات التي وجهها إلى المعلقين والنقاد العرب أمثال المرحوم نجيب خطاب من تونس وعادل شريف من مصر وناصيف مجدلاني من لبنان ، كما أنه أول من أدخل أسلوب الربط التلفزيوني والإذاعي في سورية ، حيث قام بالربط بين استوديوهات دمشق وحمص وحلب وحماة بالإضافة إلى اللاذقية لنقل أحداث الدورة إلى الجماهير التي لم يتسن لها التنقل بين تلك المدن ، وأذكر أيضاً مناشداته المتكررة أصحاب القرار في سورية لاستصدار قرار بتأجيل المدارس لإنجاح الدورة جماهيرياً ، وبالفعل استجاب رئيس مجلس الوزراء لنداء والدي « يرحمه الله ، فأصدر قراراً يتضمن تأجيل العام الدراسي لما بعد الدورة ، مفسحاً بذلك المجال أمام عشاق الرياضة لمتابعة أحداث الدورة .
- لم يكن عدنان بوظو مكتشفاً المواهب الرياضية فقط من لاعبين وإعلاميين تتلمذوا على يديه وهم معروفون بل تعدى ذلك إلى مجالات واكتشافات أخرى ، فصاحب الصوت الشجي والقوي يملك أيضاً أذنا ذواقة في الفن وهذا ما اكتشفته أنا عندما كنت مع والدي بنادي حلب في سهرة حلبية يحييها الفنان نور مهنا ، فبعد انتهاء السهرة طلب والدي من صديقه الإعلامي الكبير مهران يوسف تقديم نور مهنا إلى الناس على شاشة التلفزيون السوري ليطل نور مهنا في برنامج جوائز شهادات الاستثمار للمرة الأولى .. وعلى ذكر التجربة الأولى ربما الكثير من الناس لا يعلمون أن المخرج الكبير بسام الملا كان أول عمل إخراجي له « الثلاثاء الرياضي ، الذي يقدمه عدنان بوظو .
- بعد أن سردت غيضاً من فيض عن لاعب نادي بردى المتميز « شيخ الأندية السورية ، والحكم الدولي باعتراف الخبراء أنه أول من أدخل قانون ( Advantage ) إلى التحكيم السوري والناقد والمعلق الرياضي الذي نال وسام الاستحقاق الرياضي كأفضل معلق عربي لكرة القدم لعام ١٩٨٨ ، سأروي القليل عن عدنان بوظو الإنسان الطيب القلب المتواضع الدائم الابتسام ، كانت محبة الناس أكلته المفضلة ، وإخلاصه لهم
شرابه المنعش ولتشهد روحي أمام باريها على ما كان يردده والدي دائماً « سعادتي من سعادة الناس ، فالهاتف لا ينقطع عن الرئين وباب بيتنا عن القرع من المحبين وطالبي العون الذين تستقبل طلباتهم بابتسامة الأمل ، شعار وجه والدي الذي كان يعاملنا في البيت معاملة الصديق لصديقه وكانت الرياضة وخاصة كرة القدم وجبتنا الأساسية ي الفطور والغداء والعشاء حتى تحولت الرياضة إلى ضرة أمي الوحيدة فعشقه للرياضة لم يقصيه عن زوجته وأولاده إنما أقصاه الموت المبكر عن تسعة وخمسين عاماً لنفقد برحيله صديقاً محباً وأباً صادقاً ، وما استطاع مرضه العضال ردعه عن تأدية واجباته الاجتماعية ووفائه للناس فقد انتصر على مرضه بإيمانه بالله وبقدره ، وأذكر هنا حين سافر إلى حلب لإلقاء كلمة وفاء في حفل تأبين صديق عمره الراحل وائل عقاد متحاملاً على مرضه وآلامه ، وأيضاً لم يستطع ذلك المرض العضال أن يسلب من وجهه الابتسامة ومن روحه النكتة فتحدى الداء الذي ليس له دواء بابتسامة وكبرياء واستمر بالمثابرة على أعماله المجهدة ولن أنسى ما يقوله للموظفين في جريدة الاتحاد عندما تتشابك الأمور معهم ونتعقد « شوالشغلة كيميا ، لقد اجتمعت المرونة في عمله مع الدقة ، حيث لا يحظى مقال لأحد الصحفيين بتوقيعه حين كان رئيس تحرير جريدة الاتحاد إلا بعد شطب أو إضافة أو تعديل وعندما سألت والدي عن سبب الدقة المتناهية كان يجيبني « إن جمهور أنديتنا حساس جدا لأية كلمة مني خاصة ومن زملائي بالصحيفة عامة » ولا يفهم من كلامي هذا أن والدي كان يمارس وظيفته كرئيس لجريدة الاتحاد بـنـوع مـن الـتسـلـط بل كانت زاويته « في الصـمـيـم » تخضع لملاحظاتي كقارئ وإلى ملاحظات جميع الصحفيين بكل تواضع قبل أن تنشر في جريدة الاتحاد ، حتى إنه لا يعلق على مباريات كرة السلة إلا بعد الاستعانة بمتخصصين كالدكتور فيصل الفحام أو الدكتور فريد مكرنبة وذلك باعتباره متخصصاً بالتعليق على مباريات كرة القدم فقط ، فلا يتصنع الذكاء والخبرة في كل شيء ولا يتعدى على اختصاص غيره أو يهادن الخطأ أياً كان مصدره ، فبصفحة كاملة في جريدة الاتحاد انتقد أسلوب المنتخب السوري وهو على بعد خطوة واحدة من التأهل إلى مونديال كأس العالم في المكسيك ١٩٨٦ بعد تعادله سلباً أمام منتخب العراق في دمشق وانتقد أيضاً مدربه أواديس واتحاد كرة القدم على الرغم من رئاسة شقيقه فاروق بوظو الاتحاد آنذاك .
- علم والدي أن الداء الذي ألم به لا دواء له سوى الإيمان بالله والرضا بحكمه ومزاولة حياته وأعماله بصورة طبيعية اعتيادية ، وأذكر هنا تلك الأيام التي كنت أرافقه فيها صباحاً إلى التلفزيون ليقدم فقرته الرياضية « على أثير إذاعة دمشق » بعد ذلك ندخل مكتبه في التلفزيون لإعداد برنامج « محطات رياضية ، وبرنامج « الرياضة حياة » لنعود مساء إلى جريدة الاتحاد ولطالما كان يملي علي زاويته « في الصميم » وأكتب ما يمليه علي بكل فرح وسرور وهو مستلق على سرير في المشفى الفرنسي والسيروم موصول بيده والأدوية تحيط بسريره فأهرع لإيصالها إلى جريدة الاتحاد لتنشر صباح السبت .
- مـن مـن عشـاق الـريـاضـة ينسى كـلـمـات عـدنـان بـوظـو « كرة الـقـدم الـهـم والاهتمام » « نلعب كما يلعبون هم أبطال أمريكا ونحن أبطال آسيا » « ظلمتنا يا حكم الله أكبر يـا جـورج » « حضـروا مـنـاديـلـكـم » « البرازيـل فـريـق السـحـرة » « الماكينة الألمانية » ..
- يكفيك فخراً يا أبي أن عشاقك وعشاق الرياضة قد صرحوا لي ولغيري بأسى وحزن « بعد عدنان بوظو أصبحنا نشاهد المباريات صورة بلا صوت » « عشقنا الرياضة من خلال عدنان بوظو » .
- لن يكون هذا الكتاب يا أبي تعريفاً بك لأنك غني عن التعريف ، أو سرداً لتاريخك الرياضي العريق لأن تاريخك لا يسرده ألف كتاب .
- بل وفاء منا لك في زمن قل فيه الأوفياء .
- وتكريماً لك في زمن قل فيه الكرماء .
لؤي عدنان بوظو
الفرق بين الموت والحياة هو أن الموت يسلب الجسد والروح من الحياة لكن هذا الـفـرق ليس قاعدة تشمل جميع البشر ، بل هناك استثناءات عديدة ومـن هـذه الاستثناءات عجز الموت عن سلب روح أبي من الحياة بعد أن نجح في سلب جسده ، فما زال قلم عميد الصحافة الرياضية عدنان بوظو يتربع عرش الكلمة الناقدة المصلحة الواقعية بلا منازع ، وما زال صوت زعيم التعليق الرياضي يعشش في قلوب الملايين من عشاق الرياضة في سورية والوطن العربي حتى غدا صوته وتعليقه مدرسة ينهل منها المعلقون وزاداً يزداد منه المشجعون والمستمعون ، فكانت المباريات التي لا يسمع فيها صوته جامدة جمود الصور ، فقد استطاع يرحمه الله أن يجعل من الرياضة حياة ببثه الروح في نفوس وأفواه المشاهدين قبل اللاعبين أثناء المباريات فحول بذلك الرياضة لهم واهتمام كل رياضي أو غير رياضي يسعى إلى التشويق والإثارة .
لقد ارتبط اسم والدي يرحمه الله بالفوز والخسارة وهذا ما كنت ألمسه من خلال تصرفات عشاق الرياضة فإن فاز المنتخب هتفت الجماهير بحياة المنتخب وحياة عدنان بوظو ، وإن خسر المنتخب حملت الجماهير أسباب الخسارة إلى المنتخب وعدنان بوظو ، وخير شاهد على كلامي هذا تلك الحادثة الطريفة التي حدثت مع والدي أثناء حضوري معه المباراة المؤهلة لمونديال المكسيك 1986 بين سورية والعراق ملعب العباسيين بدمشق والتي انتهت ذهاباً بالتعادل السلبي ، فبعد انتهاء المباراة خرجت مع والدي وصعدت سيارته وإذا بالجماهير تحمل السيارة فأصبحت تسير فوق الأيدي لا على عجلاتها تحت دوي الحناجر الهاتفة « عالمكسيك يا سورية عالمكسيك وعالمكسيك يا بوظو عالمكسيك ، فعلق والدي مازحاً : « تعادلنا فحملونا مع السيارة ماذا كانوا سيفعلون لو فزنا ؟! » ولا يسعني هنا إلا أن أقول لروح أبي : لقد حمل محبوك سيارتك مرة وساروا خلفها بالآلاف والفرحة تغمر قلوبهم ولتعلم يا أبي أن جسدك الطاهر حمل مرة أخرى حين وفاتك وسار خلفه الآلاف من محبيك ، لكن الحزن كان يدمي قلوبهم والدمع يملأ عيونهم على فراقك ، فكيف حال قلوب وعيون ابنك الذي يسطر هذه الكلمات من ذكريات جميلة جمعته معك ، وها أنا أعود بالذكريات قليلاً إلى تلك المباراة التي ذكرتها سابقاً بين منتخبي سورية والعراق بكرة القدم حين قال والدي عدنان بوظو وأنا جالس إلى جواره في غرفة التعليق وأمام قرابة الخمسين ألف متفرج احتشدوا في ملعب العباسيين بدمشق وملايين المشاهدين عبر التلفاز « صفقوا للأشقاء العراقيين كما تصـفـقـوا للمنتخب السوري ، وكأنه أراد بذلك إزالـة الـرهـبـة مـن قـلـوب اللاعبين والمشجعين العراقيين لتكون المباراة نزيهة دون ضغط وتهويل وقاطعاً الطريق على المدسوسين الجاهزين لإثارة الشغب وتوتير الأجواء ، ولا يخفى على أحد ما كان تلك الفترة من مقاطعة سياسية بين بلدي المنتخبين الشقيقين سورية والعراق .
- وبعد خروج منتخب سورية بكرة القدم من تصفيات كأس العالم المؤهلة لمونديال المكسيك 86 بعد خسارته أمام منتخب العراق في مدينة الطائف السعودية بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد وهو قاب قوسين أو أدنى من التأهل لأول مرة في تاريخه إلى كأس العالم ، قال والدي عملاق الإعلام العربي بكل جرأة « استحق المنتخب العراقي الفوز وكان الأفضل في الملعب مزيلاً بهذا التعليق التشنجات والعصبيات بين الأشقاء العرب كما
عبر أستاذ الكلمة الرياضية عن تلك الخسارة بواقعية كبيرة عندما كتب في جريدة الاتحاد بالعنوان العريض « الطائف حدودنا » وكم كانت محاولاته كثيرة لإزالة تلك الحساسيات الناتجة عن جهل وتخلف مع الأسف لبعض الرياضيين والمشجعين حتى داخل الوطن ، فقد استضاف في برنامجه الشهير محطات رياضية نجمي كرة السلة السورية أنور عبد الحي من نادي الوحدة ومحمد أبو سعدى من نادي الاتحاد وأيضاً إداري نادي الوحدة أحمد قوطرش ومدرب نادي الاتحاد باسل حموي ، كل ذلك لمناشدة جماهير الفريقين بالالتزام والتمسك بأصول التشجيع الحضاري البعيد عن التشنج والحساسية ، فتصبح الرياضة بذلك عامل توحيد لا تفريق بين أبناء الوطن الواحد لتجتمع في قلب الراحل عنا جسداً ، الخالد فينا روحاً ، الحكمة وعشق الرياضة في آن معاً وعشقه الرياضة تعدى التعليق إلى الصحافة فمنذ الاستقلال لم تعرف سورية صحفاً رياضية إلا حينما قرر الراحل العظيم تأسيس صحيفة رياضية متخصصة كأول جريدة رياضية رسمية ، وأول صحيفة أصدرها جريدة الملاعب الرياضية ثم جريدة الموقف الرياضي فجريدة الاتحاد الشهيرة التي كان يتسابق عشاق الرياضة لشرائها فتنفد من المكتبات مساء يوم الإصدار وأجمل ما في تلك الجريدة زاويته الشهيرة في الصميم ، حيث عالجت الأخطاء وقومت الاعوجاج في صميم الرياضة السورية وتحلت تلك الزاوية بحياد قلمها وموضوعية كلماتها ليصبح دور الراحل وصوته وقلمه أساسياً في نهضة الكرة السورية بشكل خاص والرياضة السورية بشكل عام ، فالفوز لا يردع الرياضي والناقد والموضوعي عن مزاولة عمله في تحديد الأخطاء والسعي لتجاوزها بكل حرص ونبل ، وهذا ما حصل حين فاز المنتخب السوري على شقيقه اليمني في تصفيات كأس العالم ١٩٩٠ فقد كتب عدنان بوظو في جريدة الاتحاد بالعنوان العريض « بلا روح وأداء فزنا ي صنعاء ، وكما الفوز لا يردع كلمته الحرة من الخروج صادقة لتعالج الأداء السيئ ، أيضاً الخسارة لا تردع كلمته الحرة من الخروج صادقة لتثني على الأداء الجيد وخير دليل على ذلك ما كتبه في جريدة الاتحاد بالعنوان العريض « بأحرف من ذهب وقعنا على كأس العرب » رغم خسارتنا المباراة النهائية لكأس العرب في عمان ٨٨ أمام المنتخب العراقي بركلات الجزاء الترجيحية مثنياً بذلك على أداء المنتخب السوري لكرة القدم .
- إن الاستثناء لا يتكرر وإن خلود الأشخاص في عقولنا وقلوبنا يكمن في دورها وعطاءاتها وأعمالها التي لم ولن ينساها الوطن وأبناؤه المخلصون .
- لا أبالغ إن قلت إن الرجل الاستثنائي كان يعمل على مدار ٢٤ ساعة دون كلل أو ملل للمساهمة في إنجاح دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط باللاذقية ٨٧ ، وهذا ما لمسته عند مرافقتي له طيلة أيام الدورة ، حيث تغلب علي التعب دون عمل متسائلاً في نفسي ألا يتعب أبي ؟! فبفضله ثالت تلك الدورة تغطية إعلامية رائعة ، فحققت بذلك نجاحاً منقطع النظير
لتغدو دورة يستضيفها العرب جميعاً وليست حكراً على سورية بفضل الدعوات التي وجهها إلى المعلقين والنقاد العرب أمثال المرحوم نجيب خطاب من تونس وعادل شريف من مصر وناصيف مجدلاني من لبنان ، كما أنه أول من أدخل أسلوب الربط التلفزيوني والإذاعي في سورية ، حيث قام بالربط بين استوديوهات دمشق وحمص وحلب وحماة بالإضافة إلى اللاذقية لنقل أحداث الدورة إلى الجماهير التي لم يتسن لها التنقل بين تلك المدن ، وأذكر أيضاً مناشداته المتكررة أصحاب القرار في سورية لاستصدار قرار بتأجيل المدارس لإنجاح الدورة جماهيرياً ، وبالفعل استجاب رئيس مجلس الوزراء لنداء والدي « يرحمه الله ، فأصدر قراراً يتضمن تأجيل العام الدراسي لما بعد الدورة ، مفسحاً بذلك المجال أمام عشاق الرياضة لمتابعة أحداث الدورة .
- لم يكن عدنان بوظو مكتشفاً المواهب الرياضية فقط من لاعبين وإعلاميين تتلمذوا على يديه وهم معروفون بل تعدى ذلك إلى مجالات واكتشافات أخرى ، فصاحب الصوت الشجي والقوي يملك أيضاً أذنا ذواقة في الفن وهذا ما اكتشفته أنا عندما كنت مع والدي بنادي حلب في سهرة حلبية يحييها الفنان نور مهنا ، فبعد انتهاء السهرة طلب والدي من صديقه الإعلامي الكبير مهران يوسف تقديم نور مهنا إلى الناس على شاشة التلفزيون السوري ليطل نور مهنا في برنامج جوائز شهادات الاستثمار للمرة الأولى .. وعلى ذكر التجربة الأولى ربما الكثير من الناس لا يعلمون أن المخرج الكبير بسام الملا كان أول عمل إخراجي له « الثلاثاء الرياضي ، الذي يقدمه عدنان بوظو .
- بعد أن سردت غيضاً من فيض عن لاعب نادي بردى المتميز « شيخ الأندية السورية ، والحكم الدولي باعتراف الخبراء أنه أول من أدخل قانون ( Advantage ) إلى التحكيم السوري والناقد والمعلق الرياضي الذي نال وسام الاستحقاق الرياضي كأفضل معلق عربي لكرة القدم لعام ١٩٨٨ ، سأروي القليل عن عدنان بوظو الإنسان الطيب القلب المتواضع الدائم الابتسام ، كانت محبة الناس أكلته المفضلة ، وإخلاصه لهم
شرابه المنعش ولتشهد روحي أمام باريها على ما كان يردده والدي دائماً « سعادتي من سعادة الناس ، فالهاتف لا ينقطع عن الرئين وباب بيتنا عن القرع من المحبين وطالبي العون الذين تستقبل طلباتهم بابتسامة الأمل ، شعار وجه والدي الذي كان يعاملنا في البيت معاملة الصديق لصديقه وكانت الرياضة وخاصة كرة القدم وجبتنا الأساسية ي الفطور والغداء والعشاء حتى تحولت الرياضة إلى ضرة أمي الوحيدة فعشقه للرياضة لم يقصيه عن زوجته وأولاده إنما أقصاه الموت المبكر عن تسعة وخمسين عاماً لنفقد برحيله صديقاً محباً وأباً صادقاً ، وما استطاع مرضه العضال ردعه عن تأدية واجباته الاجتماعية ووفائه للناس فقد انتصر على مرضه بإيمانه بالله وبقدره ، وأذكر هنا حين سافر إلى حلب لإلقاء كلمة وفاء في حفل تأبين صديق عمره الراحل وائل عقاد متحاملاً على مرضه وآلامه ، وأيضاً لم يستطع ذلك المرض العضال أن يسلب من وجهه الابتسامة ومن روحه النكتة فتحدى الداء الذي ليس له دواء بابتسامة وكبرياء واستمر بالمثابرة على أعماله المجهدة ولن أنسى ما يقوله للموظفين في جريدة الاتحاد عندما تتشابك الأمور معهم ونتعقد « شوالشغلة كيميا ، لقد اجتمعت المرونة في عمله مع الدقة ، حيث لا يحظى مقال لأحد الصحفيين بتوقيعه حين كان رئيس تحرير جريدة الاتحاد إلا بعد شطب أو إضافة أو تعديل وعندما سألت والدي عن سبب الدقة المتناهية كان يجيبني « إن جمهور أنديتنا حساس جدا لأية كلمة مني خاصة ومن زملائي بالصحيفة عامة » ولا يفهم من كلامي هذا أن والدي كان يمارس وظيفته كرئيس لجريدة الاتحاد بـنـوع مـن الـتسـلـط بل كانت زاويته « في الصـمـيـم » تخضع لملاحظاتي كقارئ وإلى ملاحظات جميع الصحفيين بكل تواضع قبل أن تنشر في جريدة الاتحاد ، حتى إنه لا يعلق على مباريات كرة السلة إلا بعد الاستعانة بمتخصصين كالدكتور فيصل الفحام أو الدكتور فريد مكرنبة وذلك باعتباره متخصصاً بالتعليق على مباريات كرة القدم فقط ، فلا يتصنع الذكاء والخبرة في كل شيء ولا يتعدى على اختصاص غيره أو يهادن الخطأ أياً كان مصدره ، فبصفحة كاملة في جريدة الاتحاد انتقد أسلوب المنتخب السوري وهو على بعد خطوة واحدة من التأهل إلى مونديال كأس العالم في المكسيك ١٩٨٦ بعد تعادله سلباً أمام منتخب العراق في دمشق وانتقد أيضاً مدربه أواديس واتحاد كرة القدم على الرغم من رئاسة شقيقه فاروق بوظو الاتحاد آنذاك .
- علم والدي أن الداء الذي ألم به لا دواء له سوى الإيمان بالله والرضا بحكمه ومزاولة حياته وأعماله بصورة طبيعية اعتيادية ، وأذكر هنا تلك الأيام التي كنت أرافقه فيها صباحاً إلى التلفزيون ليقدم فقرته الرياضية « على أثير إذاعة دمشق » بعد ذلك ندخل مكتبه في التلفزيون لإعداد برنامج « محطات رياضية ، وبرنامج « الرياضة حياة » لنعود مساء إلى جريدة الاتحاد ولطالما كان يملي علي زاويته « في الصميم » وأكتب ما يمليه علي بكل فرح وسرور وهو مستلق على سرير في المشفى الفرنسي والسيروم موصول بيده والأدوية تحيط بسريره فأهرع لإيصالها إلى جريدة الاتحاد لتنشر صباح السبت .
- مـن مـن عشـاق الـريـاضـة ينسى كـلـمـات عـدنـان بـوظـو « كرة الـقـدم الـهـم والاهتمام » « نلعب كما يلعبون هم أبطال أمريكا ونحن أبطال آسيا » « ظلمتنا يا حكم الله أكبر يـا جـورج » « حضـروا مـنـاديـلـكـم » « البرازيـل فـريـق السـحـرة » « الماكينة الألمانية » ..
- يكفيك فخراً يا أبي أن عشاقك وعشاق الرياضة قد صرحوا لي ولغيري بأسى وحزن « بعد عدنان بوظو أصبحنا نشاهد المباريات صورة بلا صوت » « عشقنا الرياضة من خلال عدنان بوظو » .
- لن يكون هذا الكتاب يا أبي تعريفاً بك لأنك غني عن التعريف ، أو سرداً لتاريخك الرياضي العريق لأن تاريخك لا يسرده ألف كتاب .
- بل وفاء منا لك في زمن قل فيه الأوفياء .
- وتكريماً لك في زمن قل فيه الكرماء .
تعليق