مفاهيم جديدة من منظور نيوتروسوفي
الفلسفة النيتروسوفية هي نمط معرفي وعلمي وفلسفي جديد، له خصوصيته وفاعليته وخصائصه، وهي تعني الفكر المحايد، و"النيوتروسوفيا" كلمة مؤلفة من مقطعين "نيترو" بمعنى محايد و"سوفيا" بمعنى حكمة، ومن ثم أصبح معنى الكلمة معرفة الفكر المحايد، وهو فرع جديد للفلسفة التي تدرس أصل وطبيعة ومجال الحياد، بالإضافة إلى تفاعلاتهم بالأطياف التصورية المختلفة.
النيوتروسوفية نظرية وضعها باحث الفلسفة الأمريكي وعالم الرياضيات "فلورنتين سمارنداكه"، انطلقت هذه النظرية من اعتبار أن كل فكرة تحمل برهان صدقها كما تحمل برهان كذبها في الوقت نفسه، أي إن كل فكرة تحتمل التأويل، فالاحتمالات مفتوحة وليس ثمة وجود ليقين مطلق في الأحكام، وخاصة المنطقية منها، وهذا يجعل للحياد مكانة وقيمة، ويؤسس له وجوداً في واقع ليس فيه أي فرصة لليقين.
تحدث الدكتور صلاح غثمان في كتابه "الفلسفة العربية من منظور نيوتروسوفي" الذي كتبه بالشراكة مع الدكتور سمارنداكه عن مجموعة من سمات النيتروسوفي نذكر منها: أن النيوتروسوفي تقترح قضايا ومبادئ فلسفية جديدة، كما تعمل على تأويل غير القابل للتأويل، وتناقش مفهوم اللاتحديد الذي يكتنف عالمنا المعاصر، كما تقيس مدى استقرار الأنساق غير المستقرة، وتسعى لنشر السلام بين الأفكار المتعارضة وإلى إيقاد نار الحرب بين الأفكار التي تعيش في سلام، كما تنظر من زوايا مختلفة في التصورات والأنساق القديمة، حيث توضح أن أية فكرة صادقة في نسق إسنادي معين يمكن أن تكون كاذبة في نسق آخر، والعكس بالعكس، وتقيس مدى استقرار الأنساق غير المستقرة، ومدى عدم استقرار الأنساق المستقرة.
كما أن الكتاب يوضح لنا الفرع الجديد من الفلسفة وهي "النيوتروسوفيا" ومفاهيمها الأساسية "الاشتقاق اللفظي وتعريفه وسماته ومناهجها وصياغتها ومبدأها وقوانينها ورؤيتها التاريخية ومقارناتها"، كما يتكلم الكتاب عن الفكر العربي الإسلامي ومصادره ومقوماته وفلسفة فلاسفة الإسلام ونماذجها من الفكر العربي، فمن خلاله إذا بحثنا عن نظرة عامة للنيوتروسوفيا وحاولنا إيجاد مفهوم موجز وواضح لها، فإننا يمكننا اعتبارها فلسفة شاملة شارحة للفلسفة ذاتها؛ فهي التي تدرس وتشرح وتوضح الفلسفة بأكملها، والهدف من هذه الفلسفة خلال هذه الدراسة يتمثل في توضيح حقيقة العلاقة الجدلية بين الأفكار وقابلية تلك الأفكار للصدق أو الكذب أو الحيادية.
فالفلسفة التي يقترحها هذا الكتاب هي تلك النظرية التي قدمها الفيلسوف والمفكر الأمريكي فلورنتين سمارنداكه عام 1995، حيث قدمها الدكتور سمارنداكه والدكتور صلاح عثمان بأسلوب جديد، ومن هذه النظرية ينبثق المنطق النيوتروسوفي كتعميم لأنساق المنطق المعاصر متعدد القيم، لا سيما المنطق الحدسي الغائم. ورغم حداثة النظرية والنسق، وتعدد مجالات تطبيقهما في الفكر الغربي المعاصر، وبصفة خاصة مجالات العلم التقني، إلا أن ثمة استخدامات أخرى لهما لدى مفكري العرب والإسلام إبان مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية، وهو ما يكشف عنه الكتاب من خلال دراسة منطقية عن أصالة وخصوبة الفكر العربي، فضلاً عن تحرره وتسامحه وجمعه بين الرأي والرأي الآخر، فقد أراد سمارنداكه الاستفادة من هذا المنطق وطريقة التفكير تلك وتوظيفها في ميدان المجتمع والحياة. فاذا كانت تلك الطريقة قد أثبتت نجاحها وجدواها في مجال الرياضيات والعلوم والفلسفة، فما أحوجنا لتطبيقها على المجتمع والواقع الذي نعيشه، وأن نكتسب صفات وخصائص ذلك التفكير، لأنه يؤمن بالآخر والمختلف، وهو يحرر الذات من عقدها ومن فزعها من الآخر، الذي لا ينسجم وما تصبو اليه الذات من تطابق وتوافق. وبالتالي قد يكون هذا المختلف وفق التفكير النيتروسوفي، شريكاً أو عضواً أو رقماً أو عنصراً في تكوين معادلة ما، أو قضية أو مسألة ما، من مسائل الحياة أو المجتمع او العالم الذي يجمعنا بمختلف تنوعاتنا واختلافاتنا وتوجهاتنا.
أما بالنسبة إلى محاولة الدكتور صلاح عثمان فقد حاول تطبيق النيوتروسوفي على الفكر العربي الإسلامي، من خلال تحليل الإشكاليات التي يهتم فيها، وبحث دلالة المصطلحين "حضارة عربية وحضارة إسلامية" وتحديد الفرق بينهما، مع بيان إمكانية وجود استيعاب للاختلاف العقلي في مجالي علم أصول الفقه وعلم الكلام. وهناك الكثير من القوانين التي تطرحها النظرية النيوتروسوفية، وهذه القوانين قابلة للتطبيق في الحياة الاجتماعية وفي العلوم المختلفة كعلم النفس والاقتصاد وغيرها. إن حياتنا المعاصرة تفرض كل يوم علينا قوانين جديدة تنفي اليقين الذي عاش الإنسان ضمنه آلاف السنين، لا بل تصل إلى حدود أعمق من ذلك، فالحياد لا يعني السلبية، إنه موقف بحد ذاته، وأحياناً لا يكفي أن ندرس إمكانية تحقق فكرة ما، وإنما علينا أن نبحث عن شروط استحالتها، لربما نستطيع وقتها تجاوز هذه الشروط لخلق الإمكانية مجددًا، فالحياة مركب من مادة ونقيضها وحياد، ويبقى ذلك في حيز التوقع وتبني التعددية حتى نجد نظرية جديدة تغير ما سبق وتعطينا نظرة أشمل عن الشك واليقين في الفلسفة والحياة.
----
الكتاب: الفلسفة العربية من منظور نيوتروسوفي
الكاتب: د. فلورنتين سمارانداكه، د. صلاح عثمان
الناشر: منشأة المعارف بالإسكندرية، 2007
- نجوى محمود
- 29 آذار 2023
الفلسفة النيتروسوفية هي نمط معرفي وعلمي وفلسفي جديد، له خصوصيته وفاعليته وخصائصه، وهي تعني الفكر المحايد، و"النيوتروسوفيا" كلمة مؤلفة من مقطعين "نيترو" بمعنى محايد و"سوفيا" بمعنى حكمة، ومن ثم أصبح معنى الكلمة معرفة الفكر المحايد، وهو فرع جديد للفلسفة التي تدرس أصل وطبيعة ومجال الحياد، بالإضافة إلى تفاعلاتهم بالأطياف التصورية المختلفة.
النيوتروسوفية نظرية وضعها باحث الفلسفة الأمريكي وعالم الرياضيات "فلورنتين سمارنداكه"، انطلقت هذه النظرية من اعتبار أن كل فكرة تحمل برهان صدقها كما تحمل برهان كذبها في الوقت نفسه، أي إن كل فكرة تحتمل التأويل، فالاحتمالات مفتوحة وليس ثمة وجود ليقين مطلق في الأحكام، وخاصة المنطقية منها، وهذا يجعل للحياد مكانة وقيمة، ويؤسس له وجوداً في واقع ليس فيه أي فرصة لليقين.
تحدث الدكتور صلاح غثمان في كتابه "الفلسفة العربية من منظور نيوتروسوفي" الذي كتبه بالشراكة مع الدكتور سمارنداكه عن مجموعة من سمات النيتروسوفي نذكر منها: أن النيوتروسوفي تقترح قضايا ومبادئ فلسفية جديدة، كما تعمل على تأويل غير القابل للتأويل، وتناقش مفهوم اللاتحديد الذي يكتنف عالمنا المعاصر، كما تقيس مدى استقرار الأنساق غير المستقرة، وتسعى لنشر السلام بين الأفكار المتعارضة وإلى إيقاد نار الحرب بين الأفكار التي تعيش في سلام، كما تنظر من زوايا مختلفة في التصورات والأنساق القديمة، حيث توضح أن أية فكرة صادقة في نسق إسنادي معين يمكن أن تكون كاذبة في نسق آخر، والعكس بالعكس، وتقيس مدى استقرار الأنساق غير المستقرة، ومدى عدم استقرار الأنساق المستقرة.
كما أن الكتاب يوضح لنا الفرع الجديد من الفلسفة وهي "النيوتروسوفيا" ومفاهيمها الأساسية "الاشتقاق اللفظي وتعريفه وسماته ومناهجها وصياغتها ومبدأها وقوانينها ورؤيتها التاريخية ومقارناتها"، كما يتكلم الكتاب عن الفكر العربي الإسلامي ومصادره ومقوماته وفلسفة فلاسفة الإسلام ونماذجها من الفكر العربي، فمن خلاله إذا بحثنا عن نظرة عامة للنيوتروسوفيا وحاولنا إيجاد مفهوم موجز وواضح لها، فإننا يمكننا اعتبارها فلسفة شاملة شارحة للفلسفة ذاتها؛ فهي التي تدرس وتشرح وتوضح الفلسفة بأكملها، والهدف من هذه الفلسفة خلال هذه الدراسة يتمثل في توضيح حقيقة العلاقة الجدلية بين الأفكار وقابلية تلك الأفكار للصدق أو الكذب أو الحيادية.
فالفلسفة التي يقترحها هذا الكتاب هي تلك النظرية التي قدمها الفيلسوف والمفكر الأمريكي فلورنتين سمارنداكه عام 1995، حيث قدمها الدكتور سمارنداكه والدكتور صلاح عثمان بأسلوب جديد، ومن هذه النظرية ينبثق المنطق النيوتروسوفي كتعميم لأنساق المنطق المعاصر متعدد القيم، لا سيما المنطق الحدسي الغائم. ورغم حداثة النظرية والنسق، وتعدد مجالات تطبيقهما في الفكر الغربي المعاصر، وبصفة خاصة مجالات العلم التقني، إلا أن ثمة استخدامات أخرى لهما لدى مفكري العرب والإسلام إبان مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية، وهو ما يكشف عنه الكتاب من خلال دراسة منطقية عن أصالة وخصوبة الفكر العربي، فضلاً عن تحرره وتسامحه وجمعه بين الرأي والرأي الآخر، فقد أراد سمارنداكه الاستفادة من هذا المنطق وطريقة التفكير تلك وتوظيفها في ميدان المجتمع والحياة. فاذا كانت تلك الطريقة قد أثبتت نجاحها وجدواها في مجال الرياضيات والعلوم والفلسفة، فما أحوجنا لتطبيقها على المجتمع والواقع الذي نعيشه، وأن نكتسب صفات وخصائص ذلك التفكير، لأنه يؤمن بالآخر والمختلف، وهو يحرر الذات من عقدها ومن فزعها من الآخر، الذي لا ينسجم وما تصبو اليه الذات من تطابق وتوافق. وبالتالي قد يكون هذا المختلف وفق التفكير النيتروسوفي، شريكاً أو عضواً أو رقماً أو عنصراً في تكوين معادلة ما، أو قضية أو مسألة ما، من مسائل الحياة أو المجتمع او العالم الذي يجمعنا بمختلف تنوعاتنا واختلافاتنا وتوجهاتنا.
أما بالنسبة إلى محاولة الدكتور صلاح عثمان فقد حاول تطبيق النيوتروسوفي على الفكر العربي الإسلامي، من خلال تحليل الإشكاليات التي يهتم فيها، وبحث دلالة المصطلحين "حضارة عربية وحضارة إسلامية" وتحديد الفرق بينهما، مع بيان إمكانية وجود استيعاب للاختلاف العقلي في مجالي علم أصول الفقه وعلم الكلام. وهناك الكثير من القوانين التي تطرحها النظرية النيوتروسوفية، وهذه القوانين قابلة للتطبيق في الحياة الاجتماعية وفي العلوم المختلفة كعلم النفس والاقتصاد وغيرها. إن حياتنا المعاصرة تفرض كل يوم علينا قوانين جديدة تنفي اليقين الذي عاش الإنسان ضمنه آلاف السنين، لا بل تصل إلى حدود أعمق من ذلك، فالحياد لا يعني السلبية، إنه موقف بحد ذاته، وأحياناً لا يكفي أن ندرس إمكانية تحقق فكرة ما، وإنما علينا أن نبحث عن شروط استحالتها، لربما نستطيع وقتها تجاوز هذه الشروط لخلق الإمكانية مجددًا، فالحياة مركب من مادة ونقيضها وحياد، ويبقى ذلك في حيز التوقع وتبني التعددية حتى نجد نظرية جديدة تغير ما سبق وتعطينا نظرة أشمل عن الشك واليقين في الفلسفة والحياة.
----
الكتاب: الفلسفة العربية من منظور نيوتروسوفي
الكاتب: د. فلورنتين سمارانداكه، د. صلاح عثمان
الناشر: منشأة المعارف بالإسكندرية، 2007