جامي فو أو المألوف المنسي: التوأم الشرير للديجا فو

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جامي فو أو المألوف المنسي: التوأم الشرير للديجا فو

    هل سبق لك أن كنت تتحدث مع أحد أصدقائك لكن للحظة بدا لك وجهه غريبًا بعض الشيء؟ أو كنت تخطو داخل إحدى الغرف التي ألفت الدخول إليها، وفجأةً راودك إحساس غريب أنك تراها لأول مرة؟ أو مثلًا صادفت كلمة تكاد تجزم أنّ فيها شيئًا غير مألوف مع أنك تعرف معناها؟ لا تقلق إن أجبت بنعم على الأسئلة السابقة، فهذا ما يُعرَف بظاهرة المألوف المنسي (جامي فو – Jamais vu).






    كتب عالميّ النفس آلان براون وإليزابيث مارش في كتاب (علم نفس التعلم والتحفيز): «نلحظ عادةً وجود تقارب بين الإدراك الموضوعي والإدراك الذاتي للأشياء، أي أننا نألف الأشياء التي سبق أن تعرفنا عليها، بينما نشعر بالغرابة عند مقابلة ناس جدد أو التعرض لمواقف جديدة».
    ماهي ظاهرة جامي فو؟


    المألوف المنسي أو بالفرنسية Jamais vu هي الحدث المعاكس لظاهرة ديجا فو (Déjà vu)، أو الشيء المألوف الذي سبقت رؤيته؛ لكنّ جامي فو أقل حدوثًا مقارنة بديجا فو.

    ظاهرة ديجا فو: هي عدم التوافق بين الإدراكين الذاتي والموضوعي، فيكون الإدراك الموضوعي للأشياء سلبيًا مع إيجابية الإدراك الذاتي، وهنا ترى شخصًا ما لأول مرة ومع ذلك تشعر أنك قد قابلته قبل ذلك، يرى البعض أن اختلال تخزين الذكريات هو السبب، إذ تُخَزن المعلومات في الذاكرة طويلة الأمد بدل تخزينها في الذاكرة قصيرة الأمد، ما يجعلك تشعر أنك مررت بذات التجربة مسبقًا.

    ظاهرة المألوف المنسي تعاكس ما سبق، ففيها يكون الإدراك الموضوعي إيجابيًا في حين يكون الإدراك الذاتي سلبيًا؛ مثلًا ستبدو غرفة الطعام غريبةً بعض الشيء، كأنك تراها لأول مرة، مع أنها هي ذاتها منذ الطفولة.




    يقول من تعرض لهذه الظواهر أنها مخيفة ومثيرة للأعصاب. ويقول كريس مولن الحائز على دكتوراه في الفلسفة، والباحث في علم الذاكرة العصبية في مختبر علم النفس والإدراك العصبي في جامعة غرينوبل ألب في فرنسا، وأحد أسمى الخبراء المعنيين بدراسة الظواهر أمثال جامي فو وديجا فو وما شابهها: «إنّ الأشخاص الذين تعرضوا لهذه الظواهر ينسبونها لخلل في الذاكرة قصيرة الأمد، لكن التفسير الحقيقي مختلفٌ تمامًا».

    وقال كريس مولن في بريد إلكتروني: «يسبب فقدان الذاكرة ضياع جزء جوهري من المعلومات، فنشعر أن أحد الأشخاص الذين قابلناهم حديثًا غير مألوف بالنسبة لنا؛ بالمقابل في ظاهرة المألوف المنسي شعورنا بأن شيئًا ما غريب عنا غير مرتبط بفقدان المعلومات حوله».

    من الأمثلة التي طرحها كريس مولن: «تخيل أنك تنظر لأبيك وتشعر أنك ترى ملامحه لأول مرة وكأنها جديدة وغير معتادة، وفي الوقت ذاته أنت متأكد أنه والدك وليس شخصًا يحاول خداعك» (وهذا ما سنناقشه لاحقًا).

    يضيف مولن: «هذا الإحساس لحظي، يبقى لثوانٍ أو دقائق قبل أن يتلاشى؛ قد يحاول من تعرض لهذه الظاهرة إبعادها عن عقله وتفكيره لأن شرحها لشخص آخر قد يُقابَل بالشك؛ وهذا ما يفسر ندرة هذه الظاهرة وقلة الإعلان عنها».






    يحاول مولن في أبحاثه التعريف بهذه الظاهرة وزيادة الوعي حولها، أملًا بزيادة فهم اضطرابات الذاكرة، ولتحقيق النفع لمن يعانونها.

    وصّف بعض الأشخاص لحظات معايشتهم لظاهرة جامي فو، فكتبوا على موقع ريديت:
    • «يبعد بيتي 300 قدم عن النقطة التي ترجلت فيها من الحافلة، ومع ذلك اضطررت لاستخدام خرائط غوغل لأصل إليه، فلم أتمكن من التعرف على المنطقة، وبدا الموقع وإشارات الطريق وكل شيء غريبًا».
    • «بدت غرفة نومي غريبة جدًا، لم أكد أتعرف عليها لولا دخول كلبي في تلك اللحظة، وبقيت الشقة غير مألوفة إلى أن تأكدت بعد أن وجدت بريدًا واصلًا باسمي إليها».
    • «لم أتمكن من التعرف إلى زملائي -ومن ضمنهم أصدقائي- عند دخولي غرفة الصف، كانت وجوههم مألوفة لكني لم أتذكر أي شيء عنهم، جلست على أحد المقاعد الذي ظننت أنه يخصني مع أنه كان غريبًا وغير مألوف، حاولت جاهدًا أن أتذكر اسم أي أحد منهم ولكن دون جدوى».
    • «كان من المفترض أن أعمل على المواد التعليمية ذلك اليوم ولكنني لم أتعرف عليها ولا على الأشخاص الموجودين الذين بدت وجوههم مألوفة، نسى عقلي كل شيء عنهم وبدا كل شيء حلمًا وانتهى بي المطاف مريضًا ليوم كامل».
    ما أهم الأبحاث حول ظاهرة المألوف المنسي؟


    بدأت أولى الأبحاث حول هذه الظاهرة من اهتمام مولن بظاهرة ديجا فو في أثناء تحضيره لنيل الدكتوراه، ونظرًا لصعوبة تحفيز ظاهرة ديجا فو في المختبر، بدأ مولن بخلق آثار ظاهرة المألوف المنسي بين مجموعة من المشاركين في هذه الدراسة، وذلك بإخضاعهم لذات العقوبة التي سبق تعرضه لها عندما كان طالبًا في المدرسة، وهي تكرار كتابة الكلمات نفسها مرات عديدة.

    طُلب من المتطوعين في هذه الحالة تكرار كلمة مألوفة مثل (باب)، وجد مولن أن تكرار الكلمة يمنع نسيانها، لكن من جهة أخرى يتسبب ذلك بجعل بعض المشاركين يشعرون بغرابة الكلمة. وقد انتاب ثلثا المشاركين شعور غريب بعد أقل من دقيقة، أو بعد تكرار الكلمة لثلاثين مرة تقريبًا.




    وجدت الدراسة السابقة أن من تعرض مؤخرًا للديجا فو هو الأكثر احتمالًا للتعرض لظاهرة جامي فو في هذه التجربة، كما أثبتت أن معظم المشاركين شعروا بغرابة تهجئة الكلمة أو الخط الذي كتبت به، أكثر من كونها جديدة أو غير حقيقية.

    أدرك مولن أن ظاهرة الكلمة المكررة ليست جديدة، فقبل قرون أطلق عليها الباحثون اسم (اغتراب الكلمة)، لكن توقف استعمال هذا المصطلح قبل القرن العشرين.

    وإيمانًا من مولن بأهمية هذه الظواهر، وقدرتها على كشف آلية تنظيم الدماغ للذاكرة، أقرّ أنه ضاعف جهده وتركيزه في أبحاثه على كل موقف عجيب وطريف، خاصة المواقف الشخصية مثل ظاهرة ديجا فو وجامي فو.

    في عام 2006 عرض مولن أول ورقة علمية حول هذه الظاهرة في المؤتمر الدولي في سيدني أستراليا، ووجدت النظرية طريقها إلى الإعلام في ذلك الوقت، لكن الاهتمام ازداد بهذا الموضوع بعد أن نُشرت المعلومات في عدد فبراير لعام 2020 من مجلة ميموري، وكان عنوانها الذكي (تحفيز ظاهرة المألوف المنسي في المختبر: اغتراب الكلمات والإشباع الدلالي)، وذلك اعتمادًا على التقارير الإعلامية وعارض ن-غرام في محرك البحث غوغل، الذي يُستخدم لإيجاد أنماط من استخدامات الكلمة في الأدب.




    زادت الثقافة الشعبية من ضجيج هذه الظاهرة، وذلك بعد إصدار الفلم الأخير من سلسلة (The Matrix) إذ حاول بعض الأشخاص التخمين ما إذا كانت الحلقات (Déjà vu) و(Jamais vu) هي في الحقيقة خلل في المصفوفة، وأطلقت أيضًا فرقة البوب الكورية BTS الأغنية المسماة Jamais vu.

    ما زال السبب في حدوث ظاهرة المألوف المنسي غامضًا إلى حدّ ما، ويعود ذلك إلى قلة الأبحاث حول هذا الموضوع.

    ويفترض مولن أن للفص الصدغي (المتوضع خلف الأذن) دور في حدوث هذه الظاهرة، فهو يؤدي دورًا مهمًا في التعرف إلى الوجوه وتخزين المعلومات في الذاكرة.

    أظهرت بعض الأبحاث السابقة أن الأشخاص الذين يعانون داء الصرع في الفص الصدغي غالبًا ما يواجهون ظاهرتي ديجا فو وجامي فو قبل حدوث النوبة المرضية؛ وأكد بعض الأشخاص المصابين بالشقيقة أيضًا أنهم يمرون بشعور مشابه تمامًا لظاهرة جامي فو قبل بداية نوبة الشقيقة، أو كعرض تحذيري لبداية نوبة جديدة من الصداع.




    والكثير من الفرضيات حول ظاهرة المألوف المنسي مشتقة مما لوحظ في ظاهرة ديجا فو. وأوضح مولن أن أعراض ظاهرة ديجا فو دليل على النظام المعرفي السليم، وأنها تتطلب مستوى معين من سرعة الأداء العقلي، ونتوقع الشيء نفسه أيضًا بالنسبة لظاهرة المألوف المنسي، لكن بقي أن نختبر ذلك بدقة ووضوح.

    وبشكل مماثل لظاهرة ديجا فو، يتوقع الباحثون انخفاض نسبة حدوث ظاهرة جامي فو عند من يعانون اضطراباتٍ معرفية، وأكد مولن أن ظاهرة المألوف المنسي أكثر ما تُشاهد عند الشباب، فتنخفض نسبة حدوثها مع التقدم بالعمر حتى في حالات الشيخوخة الطبيعية.

    وتوجد فرضية أخرى يعتقد فيها البعض أن ظاهرة جامي فو مرتبطة بوهم كابغراس، وهو أحد أعراض الفصام، إذ يعتقد المريض فيه أنه خُدع واستبدلت نسخة طبق الأصل بإحدى الأشياء أو بأحد الأشخاص المألوفين بالنسبة له.
    هل تشكل ظاهرة جامي فو مصدر قلق؟


    باختصار لا، حتى وإن كانت هذه الظاهرة ذات صلة بوهم كابغراس. جامي فو حدث مؤقت، إن تعرضت له لن تعتقد أبدًا أن الشخص الغريب هو مخادع كما الحال في وهم كابغراس.




    يقول مولن: «لا تقلق إذا تعرضت لظاهرة المألوف المنسي، فكما الحال عند نسيانك لبعض الأشياء، فهذا لا يعني بالضرورة إصابتك بمرض ألزهايمر، فكلنا ننسى أمورًا بين الفينة والأخرى»

    وكما في ظاهرة ديجا فو، فإن جامي فو لا تشكل مدعاة للقلق أبدًا، إلا إذا كانت ذات تأثيرٍ سلبي على حياتك.

    ويضيف مولن: «القدرة على تجربة ظاهرة المألوف المنسي علامة جيدة للدماغ، وكذلك الأمر بالنسبة للديجا فو، فهي مصدر قلق فقط عندما تتكرر أو تكون مرافقة لأعراض أخرى».
يعمل...
X