الجزء المنسي من الذاكرة: النسيان ضروري لكيفية عمل الدماغ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الجزء المنسي من الذاكرة: النسيان ضروري لكيفية عمل الدماغ

    لطالما اعتقدنا أن النسيان خلل في الذاكرة، غير أن الباحثين أدركوا حديثًا أن قدرتنا على النسيان أمر ضروري لكيفية عمل أدمغتنا. عمل الباحثون لأكثر من قرن على فهم كيفية تكوين الذكريات والاحتفاظ بها أيامًا أو أسابيع أو حتى سنوات قادمة، إلا أن هؤلاء العلماء ربما كانوا ينظرون إلى نصف الصورة فقط، إذ لنفهم كيف نتذكر، ينبغي أيضًا أن نفهم كيف ننسى؟ ولماذا؟






    حتى قبل عشر سنوات، اعتقد أغلب الباحثين أن النسيان عملية سلبية، تتلاشى فيها الذكريات التي لم تُستعمَل مع مرور الزمن، مثل صورة فوتوغرافية تُركَت تحت أشعة الشمس، لكن بعد ذلك، بدأ بعض الباحثين يجدون أدلةً تناقض الافتراض السابق، واقترحوا فرضيةً ثورية أن الدماغ مصمم لكي ينسى.

    تبين مجموعة من البحوث التي أُجريَت العقد الماضي أن فقدان الذاكرة ليس عمليةً سلبية، بل إنه عملية نشطة تعمل باستمرار في الدماغ، وعند بعض الحيوانات -بل ربما جميعها- تُعد هي الحالة الافتراضية للدماغ، وليس التذكر.

    يسأل عالم النفس الإدراكي أوليفر هارت: «ماذا تكون الذاكرة دون النسيان؟ من المستحيل الحصول على وظيفة لائقة للذاكرة دون النسيان».






    بيولوجيا النسيان


    تُكوَّن أنواع الذكريات المختلفة وتُخزَّن في شتى مناطق الدماغ بطرق متنوعة. ما زال الباحثون يحاولون تحديد التفاصيل بدقة، لكنهم يدركون أن ذكريات الأحداث التي يمر بها الفرد شخصيًا تبدأ باتخاذ شكل دائم في جزء الدماغ المسمى «الحصين» (Hippocampus) خلال الساعات أو الأيام التي تلي الحدث.

    تتواصل الخلايا العصبية معًا عبر التشابكات العصبية، بإمكان كل خلية أن تتصل بآلاف الخلايا الأخرى بهذه الطريقة.

    عبر عملية تُعرَف بالمرونة المشبكية، تنتج الخلايا العصبية باستمرار بروتينات جديدة تعيد تشكيل أجزاء من المشبك العصبي، مثل مستقبلات النواقل العصبية، ما يمكّنها من تقوية الروابط بينها، ويؤدي إلى تكوّن شبكة من الخلايا التي تشفر معًا ذكرى معينة.

    كلما تُستحضَر الذكرى أكثر، تصبح شبكتها العصبية أقوى، ومع الاستحضار المستمر على مدى فترة من الزمن، تصبح الذكرى مشفرة في كل من الحصين والقشرة، لتوجد بعد ذلك مستقلةً في القشرة، حيث تُخزَّن وتصبح طويلة الأمد.






    ما زلنا لا نعرف الكثير عن كيفية تكوين الذكريات والوصول إليها، وقد استهلكت دراسة هذه المسائل الكثير من وقت علماء الذاكرة. في المقابل، كانت دراسة كيفية النسيان في الدماغ مُهمَلة بدرجة كبيرة.

    يقول مايكل أندرسون الذي يدرس علم الأعصاب الإدراكي: « كان ذلك إهمالًا كبيرًا، فكل الأنواع الحية التي تمتلك ذاكرة تنسى، دون استثناء، ولا يهم مدى بساطة تركيب الكائن، فإذا كان بإمكانه التعلم من تجاربه، قد يتعرض ما يتعلمه للفقد. على هذا، من المدهش حقًا أن البيولوجيا العصبية تعامل النسيان بوصفه أمرًا ثانويًا أو غير ضروري».

    غير أن عالم الأعصاب رون ديفيس لم يتوقف عند ذلك، إذ كشف أدلةً على النسيان النشط لدى ذباب الفاكهة عام 2012.

    درس ديفيس تفاصيل تشكّل الذكريات في «أجسام الفطر» -شبكات عصبية كثيفة في أدمغة الحشرات، تخزن ذكريات الشم وذكريات حسية أخرى- لدى الذباب، وكان مهتمًا خصوصًا بفهم تأثير الخلايا العصبية التي تنتج الدوبامين وترتبط بهذه التراكيب.




    يدخل الدوبامين في ضبط مجموعة من السلوكيات في دماغ الذبابة. اقترح ديفيس أن هذا الناقل العصبي يؤدي أيضًا دورًا في الذاكرة، لكنه على نحو غير متوقع، وجد أن الدوبامين ضروري للنسيان.

    هيّأ ديفيس وزملاؤه ذبابًا معدلًا وراثيًا لربط بعض الروائح بالصدمات الكهربائية، من ثم تدريبهم على اجتنابها. فعّل الفريق بعدئذ الخلايا العصبية الدوبامينية ولاحظوا أن الذباب نسي ذلك الرابط بسرعة، في حين أدى تثبيط الخلايا العصبية ذاتها إلى الاحتفاظ بالذكرى.

    يقول ديفيس: «تتحكم تلك الخلايا في كيفية التعبير عن الذكريات».

    بمزيد من البحث، تبين أن هذه الخلايا العصبية الدوبامينية تنشط فترات طويلة، على الأقل لدى الذباب. يقول ديفيس: «يحاول الدماغ دائمًا نسيان المعلومات التي تعلمها بالفعل».




    النسيان بين الذباب والقوارض


    بعد عدة سنوات، اكتشف هارت أمرًا مماثلًا لدى الجرذان.

    يدرك العلماء أن الذكريات تُشفَّر في دماغ الثدييات عندما تزداد قوة الروابط بين الخلايا العصبية. تتحدد قوة تلك الروابط بكمية نوع معين من المستقبلات الموجودة في المشبك العصبي، مستقبلات حمض ألفا-أمينو-3-هيدروكسي-5-ميثيل-4-إيزوكسازوليبروبيونيك، اختصارًا أمبا (AMPA)، من الضروري الحفاظ على وجود هذا النوع من المستقبلات في المشبك العصبي لتبقى الذكرى سليمة.

    يقول هارت: «المشكلة أن هذا النوع من المستقبلات غير مستقر، إذ تتحرك داخل المشبك العصبي وخارجها باستمرار، ويُعاد تدويرها على مدار ساعات أو أيام».

    أظهر مختبر هارت وجود آلية مخصصة لتحفيز التعبير عن مستقبلات أمبا في المشابك العصبية باستمرار. مع ذلك، تتعرض بعض الذكريات للنسيان.






    اقترح هارت أن مستقبلات أمبا قد تُزال أيضًا، ما يعني أن النسيان عملية نشطة. إذا كان ذلك صحيحًا، فإن منع إزالة مستقبلات أمبا ينبغي أن يمنع النسيان.

    عندما أوقف هارت وزملاؤه الآلية المسؤولة عن إزالة مستقبلات أمبا في حصين أدمغة الجرذان، وجدوا -كما كان متوقعًا- أن ذلك يمنع النسيان لديهم.

    لنسيان أمور معينة، بدا أن أدمغة الجرذان اضطرت لتدمير روابط في المشبك العصبي استباقيًا. يقول هارت: «ليس النسيان فشلًا في الذاكرة، بل وظيفة من وظائفها!».

    وجد عالم الأعصاب بول فرانكلاند أيضًا أن الدماغ مبرمج على النسيان، وذلك في أثناء دراسته تخلق النسيج العصبي في حصين أدمغة فئران بالغة.




    نظرًا إلى الدور الذي يؤديه الحصين في تكوّن الذكريات، تساءل فرانكلاند وفريقه هل يساعد تعزيز تخلق النسيج العصبي الفئران على التذكر؟

    وجد الباحثون أمرًا مناقضًا تمامًا لتلك الفكرة: بدلًا من تحسين ذاكرة الفئران، أدى تعزيز تخلق النسيج العصبي إلى زيادة النسيان. ظن فرانكلاند في بادئ الأمر أن النتيجة متناقضة، لكنه أدرك لاحقًا أنها منطقية: «بإضافة الخلايا العصبية إلى الحصين البالغ، فإنها تُدمَج مع شبكات مرسخة موجودة، وإذا تضمنت تلك الشبكات معلومات مخزنة، فإن تجديدها يجعل الوصول إلى تلك المعلومات أصعب».

    وفقًا لفرانكلاند، نظرًا إلى أن الحصين ليس مكان تخزين الذكريات طويلة الأمد في الدماغ، فإن طبيعته الديناميكية تُعد ميزة وليس عيبًا، وقد تطورت لتساعد الدماغ على التعلم.

    تتغير البيئة باستمرار ويجب على الحيوانات أن تتكيف مع الظروف الجديدة من أجل الصمود. السماح للمعلومات الجديدة بأن تطغى على القديمة يساعدهم على ذلك.




    النسيان والطبيعة البشرية


    يظن الباحثون أن الدماغ البشري ربما يعمل بطريقة مماثلة.

    يقول بليك ريتشاردز الذي يدرس الشبكات العصبية والتعلم الآلي: « تُعزى قدرتنا على تعميم التجارب الجديدة جزئيًا إلى حقيقة أن أدمغتنا تنخرط في نسيان منظم». ويقترح أن قدرة الدماغ على النسيان قد تمنع تأثيرًا يُعرَف بـ«فرط الكفاءة»، مصطلح في مجال الذكاء الاصطناعي يُستخدَم لوصف النموذج الرياضي الذي يبرع جدًا في مطابقة البيانات التي بُرمِج عليها، حتى أنه يصبح غير قادر على التنبؤ بالبيانات التي ستأتي لاحقًا.

    بطريقة مشابهة، إذا تذكر الفرد جميع التفاصيل من حادثة مثل هجوم كلب، فإنه قد يواجه صعوبة شديدة في الربط بين تجاربه لتجنب التعرض للعض مجددًا في المستقبل.

    يقول ريتشاردز: «إذا تخلص الفرد من بعض التفاصيل واحتفظ بخلاصة التجربة، فإن ذلك يساعده على استخدامها في المواقف الجديدة. ربما تنخرط أدمغتنا في بعض النسيان المنظم لتمنعنا من فرط الكفاءة مع تجاربنا».






    أيضًا أظهرت الدراسات التي أُجريَت على أشخاص أصحاء أهمية النسيان للدماغ. تعمق فريق أندرسون في دراسة كيفية حدوث النسيان النشط لدى البشر عبر مراقبة مستويات الناقل العصبي المثبط غابا (GABA) في الحصين.

    عندما فحص الباحثون المشاركين الذين كانوا يحاولون كبح أفكار محددة، وجدوا أن المستويات المرتفعة من غابا تواكب تثبيطًا زائدًا للحصين من القشرة الجبهية، ما يزيد قدرتهم على النسيان. يقول أندرسون: «استطعنا ربط قدرة المشاركين على النسيان بناقل عصبي محدد في الدماغ».
    محاولة النسيان


    قد يساعد فهم كيفية النسيان الباحثين على تطوير علاجات للقلق واضطراب ما بعد الصدمة وداء ألزهايمر.
    قد يبين قياس مستويات غابا في الدماغ فعالية البنزوديازيبينات (أدوية مضادة للقلق). عرف الباحثون منذ وقت طويل أن تلك الأدوية تعمل عبر تحسين وظيفة مستقبلات غابا، من ثم تساعدها على تثبيط القلق، لكنهم لم يدركوا السبب.

    قد تقدم النتائج التي توصل إليها أندرسون تفسيرًا لذلك. إذا أرسلت القشرة الجبهية أمرًا إلى الحصين بكبت فكرة معينة، فإن الحصين لا يمكنه الاستجابة إلا إذا تضمن كمية كافية من غابا. يشرح أندرسون: «ترسل القشرة الجبهية الأوامر العليا لخفض النشاط في الحصين، إذا لم يوجد جنود على الأرض، فإن الأوامر تلقى آذانًا غير صاغية».






    يرتبط دور غابا في كبح الأفكار غير المرغوبة بتأثيرات الهلع والفصام والاكتئاب، إذ ترتبط أعراض متنوعة لهذه الحالات بنشاط مفرط في الحصين. يقول أندرسون: «نظن أننا توصلنا إلى آلية تربط بين جميع تلك الأعراض والاضطرابات المختلفة».

    قد يقودنا فهم كيفية مساعدة الأشخاص على تقليل وطأة الذكريات المؤلمة إلى علاج بعض الحالات المستعصية من اضطراب ما بعد الصدمة.

    عندما درس الباحثون ما يحدث عندما يحاول المتطوعون كبح الذكريات غير المرغوبة، وجدوا أن الأشخاص الذين أبلغوا عن تجارب أكثر صدمة كانوا بارعين تحديدًا في كبح ذكريات معينة. قد يساعدنا فهم علم النفس الإدراكي وراء تلك القدرة -وكذلك المرونة العقلية الضرورية لها- على تطوير علاج اضطراب ما بعد الصدمة.

    يرى هارت أن داء ألزهايمر أيضًا قد يُفهَم أفضل إذا اعتبرناه خللًا في النسيان بدلًا من التذكر، يقول: «إذا كان النسيان جيد التنظيم حقًا، فمن المنطقي أن اختلال ذلك التنظيم يتضمن آثارًا سلبية. ماذا لو أن عملية نسيان مفرطة النشاط خرجت عن السيطرة وحذفت أكثر مما ينبغي؟».






    ما يزال ذلك السؤال بلا إجابة، لكن المزيد من باحثي الذاكرة ينقلون انتباههم إلى دراسة كيفية النسيان في الدماغ، وكذلك التذكر.

    خلال العقد الماضي، بدأ الباحثون باعتبار النسيان وظيفة مهمة. يقول هارت: «لماذا نمتلك ذاكرة من الأساس؟ بوصفنا بشرًا، قد نتوهم أن السبب هو أهمية امتلاك تفاصيل ذاتية، لكن ذلك على الأرجح خطأ. إن الذاكرة موجودة في المقام الأول لتخدم غاية تكيفية، إنها تمنحنا المعرفة عن عالمنا ثم تحدّث تلك المعرفة، أما النسيان فيتيح لنا المضي قدمًا، على مستوى الفرد والنوع».

    يقول أندرسون: «لقد حقق التطور اتزانًا حسنًا بين مزايا التذكر ومزايا النسيان. إن النسيان مكرس للديمومة والمرونة، إضافةً إلى التخلص من العوائق التي تعرقل الطريق».
يعمل...
X