المسرح العالمي
مسرح عالمي
World theatre - Théâtre du monde
المسرح العالمي
ظهر مصطلح المسرح العالمي world theatre بالتوازي مع مصطلح الأدب العالمي world literature الذي ابتدعه الأديب الألماني غوته[ر] Goethe في عشرينيات القرن التاسع عشر، للتعبير عن حالة التواصل والتبادل الأدبي الجديدة بين الأمم والبلدان، وللإحاطة بفاعلية كثير من الأعمال الأدبية الأجنبية (كالسنسكريتية والفارسية والعربية مثلاً) في الثقافات الأوربية المعاصرة، ذات الأصول الإغريقية اللاتينية، على صعيد الشعر والملحمة والحكاية والمسرح وغيرها من الأنواع الأدبية. وبتطور الفنون المسرحية theatre arts صار المصطلح يدل على جوهر المسرح عالمياً وعلى تمظهراته المتنوعة شكلاً ومضموناً وأساليب تواصله الفكرية والفنية ومؤسساته وهيئاته المتخصصة وطرق التبادل العلمية فيما بينها. وأشهرها «الهيئة الدولية للمسرح» International Theatre Institute (ITI) المنتشرة في غالبية بلدان العالم بمختلف التخصصات المسرحية وذات الأهمية الحقيقية على صعيد التبادل والتفاعل المسرحي منذ تأسيسها عام 1948 كإحدى الهيئات الفرعية لمنظمة اليونسكو UNESCO.
أما الدلالة الأكثر انتشاراً للمصطلح فتعني تجاوزَ عملٍ مسرحي من حيث أهمية موضوعه الإنساني ومعالجته الفنية وتأثيره، إطار المحلية الضيقة، ودخوله رحاب العالمية، فتتقبله الثقافات الأخرى ويصير، إلى هذا الحد أو ذاك، جزءاً من مخزونها، ينهل منه المبدعون الجدد مثلما ينهلون من تراثهم الخاص. ويعود ذلك بطبيعة الحال إلى أسباب متعددة قد تكون متداخلة أو مختلفة، وفق طبيعة المكان والزمان،حيث تأخذ عملية التفاعل مجراها بين المسرح المحلي (القومي) وبين المسرح العالمي. من هذه الأسباب انفتاح الثقافات على بعضها، نتيجة توافر أدباء وفنانين مثقفين منفتحين، أو لوجود جو عام منفتح على الآخر من دون أحكام مسبقة، وكذلك بسبب نمو حركة النشر والصحافة التي تنمو معها جدلياً حركة الترجمة عن اللغات الأخرى وإليها، إضافة إلى استقبال العروض المسرحية الزائرة أو تبادلها. وهذا كله يظهر من ثم على المستوى النقدي والتنظيري الجمالي، مما ينعكس لاحقاً في الإنتاج المحلي الأدبي الفني الجديد الذي يُحتمل أن يكون له دور مؤثر في المسرح العالمي مستقبلاً.
وعلى صعيد المسرح العالمي لا ينحصر التفاعل في إطار النصوص المسرحية وحسب، بل إنه يتعداها أحياناً إلى أسلوب العرض المسرحي من حيث الرؤية الإخراجية والأداء التمثيلي، وبعض مكونات العرض الأخرى كالغناء والرقص والموسيقى وطريقة تصميم المناظر (الديكور) وموادها واستخدام الإضاءة والمؤثرات المتنوعة وغيرها.
وثمة دلالة قديمة للمصطلح، محصورة في أوربا، استمدت معناها من التعبير اللاتيني theatrum mundi أي (عوالم المسرح)، الذي يدل على فهم للعالم يرى الدنيا بكل ما فيها من بشر وحياة كمسرح ضخم، لكل فرد فيه دوره المرسوم له مسبقاً (أو المقدَّر له وفق بعض التصورات الدينية المسيحية) والذي لا ينتهي إلا بالموت. إذ إن السؤال عن مغزى الوجود البشري وجدواه الإنسانية؛ كان منذ القديم مادة غنية صوَّرتها الآداب الدرامية والملحمية والفلسفية في صور ورموز وموضوعات، كما عند أفلاطون[ر] وسِنيكا[ر]، وكما في مسرحيات الأسرار mystery plays الدينية في القرون الوسطى، أو في مسرح اليسوعيين (الجزويت) Jesuit theatre في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو في مسرح الباروك الإسباني عند كالديرون دي لا باركا[ر] في «مسرح العالم الكبير» El gran teatro del mundo ت(1645)، أو عند إمْرِه مِداتش[ر] في «مأساة الإنسان» The Tragedy of Man ت(1862) في هنغاريا، أو عند هوغو فون هوفمَنستال[ر] النمساوي في «مسرح العالم الكبير السالزبورغي» (نسبة إلى سالزبورغ) Das Salzburger grosse Welttheater ت(1922). وهذه الظواهر والأعمال المسرحية كلها ذات المضمون المحدد تجاوزت حدود محليتها واكتسبت في الحد الأدنى أهمية أوربية، ولاسيما أنها عروض باهظة التكاليف وتحتاج إلى أعداد كبيرة جداً من الممثلين والمؤدين والمغنين والموسيقيين.
أدى الانفتاح الفكري في أثناء الحركة الإنسانية[ر] Humanism التي أدت إلى عصر النهضة الأوربية على الرغم من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية؛ إلى اكتشاف التراث اللاتيني (الوثني) وعبره إلى اكتشاف التراث الإغريقي (الوثني أيضاً) بكل غناهما فكرياً وأدبياً وفنياً. وكان أكبر المآثر رفع الستار عما تبقى من مخطوطات مسرحيات كبار كتاب المأساة والملهاة الإغريقية واللاتينية: أسْخيلوس[ر]، وسوفوكليس[ر]، وأوربيديس[ر]، وأريستوفانيس[ر]، وسِنيكا[ر]، وبلاوتوس[ر]، وتِرنْتيوس[ر]، وتعرُّف موضوعاتهم وكيفية معالجتها فنياً، ولاسيما أنها تخاطب عقل المشاهد/القارئ بوسائل متعددة، وهو الأمر الأكثر إلحاحاً في عصر النهضة. فصارت هذه الأعمال منذئذ جزءاً من تراث المسرح العالمي يتتالى تأثيره وتفاعله وفق ظروف الزمان والمكان. ففي العصر الإليزابيتي كان تأثير سنيكا جلياً في مآسي شكسبير[ر]، وكذلك تأثير بلاوتوس وترنتيوس في بعض ملاهيه. وعبر شكسبير انتقل هذا التأثير إلى كثير ممن قلدوه أو استوحوه إبداعياً داخل إنكلترا وخارجها، وبات التأثر والتأثير إحدى سمات حركة المسرح العالمي الرئيسة. وفي عصر الاتباعية[ر] (الكلاسية) الفرنسية تبدى تأثير التراجيديين الإغريق، ولاسيما منهم أوربيديس واضحاً في أعمال راسين[ر] وكورني[ر] اللذين ثبتَّا في مآسيهما مفاهيم النبالة والشرف والفروسية والواجب الوطني، فدعما بذلك أسس الحكم الملكي المطلق. وقد بقيت أعمالهما جزءاً مهماً من تراث اللغة الفرنسية، لكنهما لم يرتقيا إلى مصاف المسرح العالمي. أما معاصرهما موليير[ر] الذي خاطب الطبقة البرجوازية الصاعدة مقتبساً بعض أعماله ومقولاته من أريستوفانيس وميناندروس[ر]، فقد غزت أعماله معظم مسارح العالم في كل مكان وزمان، وصارت منبعاً لا ينضب للاستيحاء والاقتباس. ولا يغيب عن الذهن تأثيره الواضح أيضاً في المسرح العربي[ر] من مغرب الوطن العربي إلى مشرقه.
"ثلاثية أورست" لأسخيلوس |
مسرحية "إلكترا" لسفوكليس |
مسرحية "شايلوك" لشكسبير |
مسرحية "مكبث" لشكسبير |
مسرحية "المفتش العام" لغوغول |
مسرحية "فاوست" لغوته |
مسرحية "بستان الكرز" لتشيخوف |
"نورا ـأوـ بيت الدمية" لإبسن |
وبين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين جرت على صعيد العمارة والتقانة المسرحية والسينوغرافيا Scenography تطورات متلاحقة، كانت نتيجتها ثورة جذرية في مفاهيم العرض والتلقي والتواصل، قادها كل من الألماني فاغنر[ر] والسويسري آبيا[ر] والإنكليزي كريغ[ر] والنمساوي راينهارت[ر] والألماني بيسكاتور[ر] والروسي مايرخولد[ر] والألماني بريشت[ر]. والملاحظ منذ سبعينيات القرن العشرين أن العمارة المسرحية في جميع أنحاء العالم، وعلى اختلاف الثقافات، قد تبنت نتائج تلك التطورات الثورية الأوربية، فبات العالم على هذا الصعيد شبه موحد. فأي مسرح حديث في أي بقعة في العالم صار قادراً على استقبال أي عرض، مهما كانت متطلباته التقانية، عدا طبعاً تلك العروض التي تندرج تحت ما يسمى أمريكياً «الإنتاج الضخم» grand production.
"الأنسة جولي" لستريندبرغ |
"سيدتي الجميلة أو بيغماليون" لبرنارد شو |
نبيل الحفار