سعيد بن المسيب
(15 ـ 94هـ/636 ـ 712م)
أبو محمد سـعيد بن المسـيِّب، من قريش ومن بني عمران بن مخزوم.سيد التابعين وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة. أبوه حَزْن بن أبي وهب بن عمرو، وأمه أم سعيد بنت حكيم بن أمية السلمي، أبوه وجده صحابيان (والصحابي: من لقي النبيr مسلماً، ومات على الإسلام)، وهو من سادات العرب ومن أصل عريق، ومن قوم هم بنو مخزوم المعروفون بالشدة والصلابة والعنف والسيادة في مكة، وأمارة ذلك أن النبيr قال لـه: ما اسـمك؟ قال: أنا حَزْن، قال: بل أنت سـهل، قال: يا رسول الله، اسم سماني به أبواي، فعرفت به في الناس، فسكت عنه النبي، فقال سعيد: مازلنا نعرف الحزونة (الشدة) فينا أهل البيت.
ولد في المدينة المنورة بعد استخلاف عمر بسنتين، وتوفي فيها ودفن بها بالبقيع وهو ابن ثمانين سنة تقريباً.
وكان يقال لهذه السنة التي مات فيها «سنة الفقهاء» لكثرة من مات فيها من عامة فقهاء المدينة.
نشأ في المدينة، وتلقى العلم عن كبار الصحابة ولاسيما الآثار والأحاديث النبوية، وعاش في عصر التابعين (أي في نهاية عهد الخلفاء الراشدين وولاية معاوية سنة 41هـ إلى أوائل القرن الثاني الهجري)، كان لنشأته أثر كبير في تكوين شخصيته، قوةً وعزةً وصلابةً في الحق، واستقامةً في الدين والسلوك، وزهداً وورعاً، حتى لُقّب براهب قريش، وسداداً في القول والعمل، وخصوبةً في العلم والثقافة، وجرأة في الفتيا، فكان يعرف بسعيد الجريء، وأصبح تاجاً في رأس القرن الثاني.
كان وقوراً متنوراً بنور الله، بادي الإيمان، يكثر من صلاة الليل (التهجد) وتلاوة القرآن، ويحافظ على صلاة الجماعة، قال عن نفسه: «ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة» أي لمحافظته على الصف الأول في صلاة الجماعة. كما كان يكثر من العمل الصالح ونشر العلم والمعرفة، ومن التضرع لله والدعاء، وكان زاهداً في الدنيا ورعاً، وطعامه بسيط، ويحرص على آثار بيت النبوة، جمّ التواضع، سمح النفس، أبياً عزيز النفس، متعففاً عن أخذ شـيء من أحد، زوّج ابنته بدرهمين لكُثيِّر بن أبي وداعة، وكانت من أحسن النساء وأكثرهن علماً وأدباً ومعرفة بالقرآن والسنة، ورفض تزويجها لابن عبد الملك بن مروان (الوليد).
أخذ العلم عن مشـيخة المدينة وأفذاذ علمائها وكبار صحابتها، يروي عنهم الأحاديث والآثار والأقضية، وتمـرس على الاجتهاد من آرائهم. وتتلمذ على يديه خلق كثير، منهم ابنه محمد، وسـالم بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن شهاب الزهري، وعمرو بن دينار، وقتادة.
كان سعيد يعد التجارة أفضل المكاسب، وكان تاجراً يتجر في الزيت، وكان أبوه المسيِّب أيضاً زياتاً يتجر بالزيت، وكان يكثر الاختلاف إلى الأسواق، قال عنه أحمد العجلي: «كان سعيد رجلاً صالحاً فقيهاً، كان لا يأخذ العطاء ـ عطاء الدولة ـ وله أربعمائة درهم، يتجر بها في الزيت» وكان سعيد يقول: «لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يعطي منه حقه، ويكفّ به وجهه عن الناس» وقال أيضاً: «لا خير فيمن لا يحب هذا المال، يصل به رحمه، ويؤدي به أمانته، ويستغني به عن خَلْق ربه».
كان سعيد بن المسيب يفتي الناس، وأصحاب رسول اللهr أحياء، وكان ابن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه، قال: سلوا سعيد بن المسيب، فإنه قد جالس الصالحين. وكانت مجالس سعيد العلمية بحراً يتدفق بالعلم والنور والمعرفة والموعظة الحسنة، والفقه، وقد عني بالفقه كثيراً، حتى سمي «فقيه الفقهاء» وكان إماماً في تعبير الرؤيا، وفي المواعظ المؤثرة تأثيراً بالغاً.
وكان جريئاً في الفتوى وفي نقد الحكام وإنكار المنكر، لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يبالي بسيطرة حاكم أو تعذيب أمير ظالم، وكل همه أن يرضي الله، ويغضب ويزأر في وجه الظلمة لله، ولا يقبل عطايا الحكام، ويرفض قبض نصيبه من بيت المال من الخراج، حتى لا تستكين نفسـه، أو يبيع ضميره، أو يسكت عما يراه حقاً، أو يتغاضى عما يراه منكراً، وكان يقول: «لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة، إلا بإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة» ويعتزل في المسجد في أثناء الفتن والأحداث، ويعتكف إلى العبادة، ويضرع بالدعاء مردداً: «اللهم سلِّم سلِّم» حتى يفرج الله تعالى الكرب، ويزيل الهم والغم.
انتقد الأمويين بني مروان بشدة، لظلمهم وترفهم وترفعهم وإهمالهم مبدأ الشورى، ولم يرض بفعل معاوية باستلحاق زياد بأبيه أبي سفيان سنة 44هـ لأنه لا يثبت النسب بقول الابن على أبيه، ما لم يصدّقه أبوه في ذلك. وصمد أمام والي المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري حين حاول دعوة الناس إلى البيعة لعبد الله بن الزبير، فضربه ستين سوطاً. وحينما عقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، دعا عامله على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي الناس إلى البيعة، فبايعوا وأبى سعيد بن المسيب لأن النبيrقد نهى عن البيعة لاثنين، فجلده هشام بن إسماعيل وطاف به أسواق المدينة لرفضه هذه البيعة، وكتب هشام إلى عبد الملك يخبره بخلافه، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به ويقول: «سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه وإنا لنعلم ماعنده خلاف».
وهبة الزحيلي
(15 ـ 94هـ/636 ـ 712م)
أبو محمد سـعيد بن المسـيِّب، من قريش ومن بني عمران بن مخزوم.سيد التابعين وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة. أبوه حَزْن بن أبي وهب بن عمرو، وأمه أم سعيد بنت حكيم بن أمية السلمي، أبوه وجده صحابيان (والصحابي: من لقي النبيr مسلماً، ومات على الإسلام)، وهو من سادات العرب ومن أصل عريق، ومن قوم هم بنو مخزوم المعروفون بالشدة والصلابة والعنف والسيادة في مكة، وأمارة ذلك أن النبيr قال لـه: ما اسـمك؟ قال: أنا حَزْن، قال: بل أنت سـهل، قال: يا رسول الله، اسم سماني به أبواي، فعرفت به في الناس، فسكت عنه النبي، فقال سعيد: مازلنا نعرف الحزونة (الشدة) فينا أهل البيت.
ولد في المدينة المنورة بعد استخلاف عمر بسنتين، وتوفي فيها ودفن بها بالبقيع وهو ابن ثمانين سنة تقريباً.
وكان يقال لهذه السنة التي مات فيها «سنة الفقهاء» لكثرة من مات فيها من عامة فقهاء المدينة.
نشأ في المدينة، وتلقى العلم عن كبار الصحابة ولاسيما الآثار والأحاديث النبوية، وعاش في عصر التابعين (أي في نهاية عهد الخلفاء الراشدين وولاية معاوية سنة 41هـ إلى أوائل القرن الثاني الهجري)، كان لنشأته أثر كبير في تكوين شخصيته، قوةً وعزةً وصلابةً في الحق، واستقامةً في الدين والسلوك، وزهداً وورعاً، حتى لُقّب براهب قريش، وسداداً في القول والعمل، وخصوبةً في العلم والثقافة، وجرأة في الفتيا، فكان يعرف بسعيد الجريء، وأصبح تاجاً في رأس القرن الثاني.
كان وقوراً متنوراً بنور الله، بادي الإيمان، يكثر من صلاة الليل (التهجد) وتلاوة القرآن، ويحافظ على صلاة الجماعة، قال عن نفسه: «ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة» أي لمحافظته على الصف الأول في صلاة الجماعة. كما كان يكثر من العمل الصالح ونشر العلم والمعرفة، ومن التضرع لله والدعاء، وكان زاهداً في الدنيا ورعاً، وطعامه بسيط، ويحرص على آثار بيت النبوة، جمّ التواضع، سمح النفس، أبياً عزيز النفس، متعففاً عن أخذ شـيء من أحد، زوّج ابنته بدرهمين لكُثيِّر بن أبي وداعة، وكانت من أحسن النساء وأكثرهن علماً وأدباً ومعرفة بالقرآن والسنة، ورفض تزويجها لابن عبد الملك بن مروان (الوليد).
أخذ العلم عن مشـيخة المدينة وأفذاذ علمائها وكبار صحابتها، يروي عنهم الأحاديث والآثار والأقضية، وتمـرس على الاجتهاد من آرائهم. وتتلمذ على يديه خلق كثير، منهم ابنه محمد، وسـالم بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن شهاب الزهري، وعمرو بن دينار، وقتادة.
كان سعيد يعد التجارة أفضل المكاسب، وكان تاجراً يتجر في الزيت، وكان أبوه المسيِّب أيضاً زياتاً يتجر بالزيت، وكان يكثر الاختلاف إلى الأسواق، قال عنه أحمد العجلي: «كان سعيد رجلاً صالحاً فقيهاً، كان لا يأخذ العطاء ـ عطاء الدولة ـ وله أربعمائة درهم، يتجر بها في الزيت» وكان سعيد يقول: «لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يعطي منه حقه، ويكفّ به وجهه عن الناس» وقال أيضاً: «لا خير فيمن لا يحب هذا المال، يصل به رحمه، ويؤدي به أمانته، ويستغني به عن خَلْق ربه».
كان سعيد بن المسيب يفتي الناس، وأصحاب رسول اللهr أحياء، وكان ابن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه، قال: سلوا سعيد بن المسيب، فإنه قد جالس الصالحين. وكانت مجالس سعيد العلمية بحراً يتدفق بالعلم والنور والمعرفة والموعظة الحسنة، والفقه، وقد عني بالفقه كثيراً، حتى سمي «فقيه الفقهاء» وكان إماماً في تعبير الرؤيا، وفي المواعظ المؤثرة تأثيراً بالغاً.
وكان جريئاً في الفتوى وفي نقد الحكام وإنكار المنكر، لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يبالي بسيطرة حاكم أو تعذيب أمير ظالم، وكل همه أن يرضي الله، ويغضب ويزأر في وجه الظلمة لله، ولا يقبل عطايا الحكام، ويرفض قبض نصيبه من بيت المال من الخراج، حتى لا تستكين نفسـه، أو يبيع ضميره، أو يسكت عما يراه حقاً، أو يتغاضى عما يراه منكراً، وكان يقول: «لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة، إلا بإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة» ويعتزل في المسجد في أثناء الفتن والأحداث، ويعتكف إلى العبادة، ويضرع بالدعاء مردداً: «اللهم سلِّم سلِّم» حتى يفرج الله تعالى الكرب، ويزيل الهم والغم.
انتقد الأمويين بني مروان بشدة، لظلمهم وترفهم وترفعهم وإهمالهم مبدأ الشورى، ولم يرض بفعل معاوية باستلحاق زياد بأبيه أبي سفيان سنة 44هـ لأنه لا يثبت النسب بقول الابن على أبيه، ما لم يصدّقه أبوه في ذلك. وصمد أمام والي المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري حين حاول دعوة الناس إلى البيعة لعبد الله بن الزبير، فضربه ستين سوطاً. وحينما عقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، دعا عامله على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي الناس إلى البيعة، فبايعوا وأبى سعيد بن المسيب لأن النبيrقد نهى عن البيعة لاثنين، فجلده هشام بن إسماعيل وطاف به أسواق المدينة لرفضه هذه البيعة، وكتب هشام إلى عبد الملك يخبره بخلافه، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به ويقول: «سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه وإنا لنعلم ماعنده خلاف».
وهبة الزحيلي