الارتجال تمرد غير مضمون النتائج للممثل على المخرج والكاتب
الخروج عن النص المسرحي ظاهرة فنية لها دوافع نفسية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الارتجال يتطلب مهارة عالية
يعرف المسرح بأنه الفن الذي لا يمكن تكراره كما هو، لكل عرض طاقته وحضوره وأحيانا حتى ما ينقص منه أو يزيد فيه، لذلك فهو فن متحرك ابن لحظته، ولعل أبرز الظواهر التي تؤكد هذا ظاهرة الارتجال، التي يكاد لا يخلو منها عمل مسرحي، رغم أنها ليست إيجابية دائما.
خميس الصلتي
مسقط – يتفق الكثيرون على أن ظاهرة الخروج عن النص المسرحي كانت وما تزال مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتمثيل الكوميدي، ويعود ذلك إلى خبرة الممثل وخفة الروح لديه وسرعة بديهته، وانتشرت بشكل كبير في العديد من المسارح العربية والعالمية، فالبعض يرى أن هذا الخروج ظاهرة غير مستحبة كون المسرح في طبيعته تعبيرا إنسانيا اجتماعيا، ويراها البعض كسرا لقواعد المسرح والنص أيضا، كما أن البعض يفسر الخروج بدوافع نفسية بحتة.
هنا يأتي التساؤل عن ذلك الخروج كظاهرة فنية وما هي الدوافع النفسية المرتبطة بها، وكيف يراها المختصون؟ وماذا عن نتائج هذا الخروج؟
الارتجال والأمانة
الممثل محور اللعبة المسرحية
يقول الأكاديمي والناقد المسرحي المصري محمود سعيد في شأن الارتجال بين الخروج عن النص والدخول فيه “إن الارتجال وتحليل الشخصية من الأساليب المشتقة من المنحى الخيالي في التمثيل، يستخدمان على نحو متسع في مدارس الدراما الحديثة، حتى لو أطلق عليه خروجا عن النص، خاصة وأن كلمة الارتجال في اللغات الأوروبية تشتق من كلمة لاتينية قديمة تعني ما لا نتوقعه أو نحسب حسابه”.
ويضيف “في عالم المسرح والتمثيل ارتبط الارتجال في البداية بالعروض الشعبية الكوميدية بعيدا عن المؤسسات المسرحية الرسمية على عكس العروض الشعبية الجائلة التي كان لها شأن آخر إذ أن طبيعتها الجوالة كانت تفرض عليها التفاعل مع بيئات وتجمعات سكانية مختلفة وتسعى إلى استثارة تعليقات الجمهور وضحكه، ورغم ذلك كانت لهذه العروض قواعدها الضابطة، فالارتجال له مكانه الذي لا يتعداه، وطوله المحسوب، والممثل يلتزم فيه بالخط العام للعرض، لا يخرج عن مساره أو فكرته الرئيسية، أو عن الدور المنوط به، ولا يخل بأدوار زملائه”.
ويتابع سعيد “بلغ فن الارتجال أوج ازدهاره في القرن السادس عشر في الكوميديا الشعبية الإيطالية، المعروفة باسم ‘كوميديا ديلارتي‘ ذات الشخصيات والحبكات النمطية الثابتة، لكن الارتجال المنظم المنضبط هذا لم يلبث أن تقلص دوره في المسرح حتى اختفى تماما حين ظهر الكتاب المسرحيون العظام مرة أخرى في القرن السابع عشر مثل شكسبير في إنجلترا وكورني وراسين وموليير في فرنسا، وطيلة القرنين الثامن والتاسع عشر نجح المؤلفون في فرض سيطرتهم على الممثلين فتقلص الارتجال على خشبة المسرح، ولم يكتسب فن الارتجال شرعية واحتراما حتى بداية القرن العشرين حين جعله المخرج الروسي الشهير ستانسلافسكي جزءا رئيسيا في منهج تدريبات الممثل التي ابتدعها”.
الخروج عن النص هو فعل لحظي ويعتبر إحدى أدوات الممثل وتعبيرا عن إمكانياته الفنية وموهبته لأداء حي
وهكذا، كما يوضح سعيد، ازدهر الارتجال في معامل الممثلين، وإن ظل بعيدا تماما عن خشبة المسرح، إلى أن جاءت مرحلة نجح خلالها الممثلون في تحطيم سلطة المؤلف، وأدخلوا عنصر الارتجال مرة أخرى إلى عروضهم، بل إن عروضا صارت تقوم أساسا على الارتجال ولا تعتمد على نص مسرحي مؤلف جاهز وفي ظل هذا ازدهرت قدرات الممثل على الإبداع والابتكار، ولم يعد مجرد مفسر ومترجم أو منفذ لنص مسرحي مكتوب.
ويوضح أنه في مصر كان الارتجال عنصرا أساسيا في العروض الكوميدية منذ البداية، وارتكز على فنون الردح والقافية معتمدا على التراث المصري من النكت والدعابات، وعلى سرعة البديهة، وحضور الذهن الذي يميز أبناء البلد عادة، إلا أن فن الارتجال العربي وضع في أكثر من أزمة، إذ تجد الممثلين يبادرون إلى الارتجال، ويتنافسون دون التزام بحدود الموقف، مما يشتت المتفرج تماما، ويطيل العرض إطالة ممجوجة، أضف إلى ذلك أن بعض الممثلين يتوسمون في أنفسهم القدرة على ممارسة هذا الفن الرفيع رغم قلة تدريبهم أو موهبتهم، وعلى العكس نجد من يقوم بالارتجال خارج النص بعناية ومرونة تجعلانه يدخل إلى عمق النص بقوة محققا رسالته في أبهى صورها.
وفي السياق ذاته تقول المخرجة البحرينية كلثوم أمين “كوني مسرحية ومخرجة أجد أن المخرج يجب أن يكون أمينا في اختياره للنص ولا يغير فيه لأنه جهد المؤلف ولكن في بعض الأحيان هناك رؤية المخرج تتغير بتغيير بعض الأمور في هذا النص بغرض الوصول إلى الهدف المرجو الذي لا يوفره النص، وهنا يجب على المخرج أن يستأذن المؤلف أولا، وقبل أن يغير أي شيء في النص هذا إذا كان المؤلف حيا وأن يتوخى الحذر في التغيير إذا كان المؤلف غير ذلك”.
وتضيف “لكن هناك أمور تجعل الممثل يخرج عن النص والسبب الرئيسي نفسي يعود إلى سيكولوجية الممثل ذاته قبل دخوله إلى المسرح بلحظات وساعة وقوفه على الخشبة، هل دواخله نظيفة وتركيزه على النص ومنطوقاته وعواطف وأفكار الشخصية التي يمثلها، هل للممثل مآرب أخرى من حيث تأويله للنص، هل هناك أمور أخرى في لا وعيه؟”.
سيف ذو حدين
يقول الفنان العماني سعود الخنجري إن الخروج عن النص هو فعل لحظي ويعتبره شخصيا ليكون إحدى أدوات الممثل أو إمكاناته الفنية لأداء حي غير متفق عليه وفي الأغلب يكون وليد اللحظة.
ويوضح “غالبا ما تكون أسباب ودوافع الممثل على خشبة المسرح باتخاذ القرار في اللحظة المناسبة كونه على اتصال مباشر مع الجمهور خلال العرض المسرحي ولديه الخبرة الكافية في اختيار التوقيت المناسب من خلال ردة فعل معينة أو لإبراز ظاهرة اجتماعية أو سلوك معين، ولربما لزيادة جرعة الكوميديا من خلال العرض المسرحي أو ربما حتى لإنقاذ موقف في حالة قراءته الذاتية مثلا كهبوط مستوى العرض وعدم تفاعل الجمهور معه”.
ويشير إلى أن هذه الظاهرة بمثابة سيف ذي حدين، حيث نرى ذلك من خلال النتائج التي تتضح جليا عبر ردة فعل الجمهور سواء بالضحك أو العبوس، فبعض الممثلين يوفقون في اختيار وانتهاز الفرصة المناسبة ومنهم من يفشل في ذلك، وأصبح يعتمد بصورة أكبر على الإضحاك دون هدف محدد.
فن الارتجال العربي قد يسبب أكثر من أزمة إذ تجد الممثلين يبادرون إلى الارتجال ويتنافسون دون التزام بحدود
ويتابع الخنجري في سياق توضيحه “عرف العديد من نجوم وممثلي المسرح بهذه الظاهرة منهم النجم عادل إمام، ومحمد صبحي، وسعيد صالح ويونس شلبي وسمير غانم وسيد زيان وسهير البابلي ونجاح الموجي وغيرهم الكثير، أما بالنسبة إلى الوقع النفسي للفنان، فحرفية الخروج عن النص تعتمد وبشكل كبير جدا على نفسية الممثل أثناء العرض وقابليته لاتخاذ القرار في اللحظة المناسبة، وخاصة في العروض الكوميدية، لذلك غالبا ما نرى الممثل المسرحي يعد العدة قبل الوقوف على خشبة المسرح للتهيئة النفسية”.
ويقول الناقد المسرحي الجزائري لخضر منصوري إن الخروج عن النص المسرحي أثناء أداء الممثل العرض المسرحي يعد تقنية أو فعلا مسرحيا غير منتظر، ويسمى بـ”الارتجال المسرحي”، حيث يشخص الممثل أفعالا حركية ولفظية غير منتظرة وغير مرسومة مسبقا في التشكيل الحركي للمخرج، وينساق الممثل داخل حرارة المشهد والوضعية الدرامية إلى التعبير عن مكنونات نفسية في أغلب الأحيان أثناء أداء شخصية الدور في علاقاتها مع الشخصيات الأخرى وبالحدث المسرحي.
ويضيف “تظهر أفعال خروج الممثل عن النص أثناء العرض حقيقية بنسبة كبيرة، حينما يأتي الموقف المرتجل صادقا ونابعا من الوضعية الدرامية ولا يمكن للمتلقي أن ينتبه لذلك خاصة في الحالات الدرامية الكوميدية، ويؤكد ذلك الباحث الفرنسي باتريس بافي في معجمه المسرحي أن ‘هناك مستويات متعددة من الارتجال قد يكون ابتكار نص انطلاقا من مخطط معروف غاية في الدقة كما نجد ذلك عند ممثلي الكوميديا ديللارتي‘ ولعل الاتفاق المسبق بين الممثلين والمخرج في أداء ارتجال بالحركة أو بالنص المنطوق أثناء العرض من الأساسات الضرورية حتى لا يربك الممثل المرتجل من يكون معه أثناء المشهد”.
ويتابع “لعل تاريخ المسرح العربي يحفل بالكثير من المواقف المرتجلة أثناء العرض وصنعت مجد بعض الممثلين في صناعة المشهد المرتجل، بالخروج عن النص في مواقف متعددة، ولعل أبرز ظاهرة شهدها المسرح الجزائري خاصة، حينما قام الممثل سيراط بومدين (صاحب أحسن أداء رجالي في أيام قرطاج المسرحية بتونس عام 1985) بالخروج عن النص في مسرحية ‘الأجواد‘ للراحل عبدالقادر علولة، حيث يطلب المشاهدون تكرار المشهد أثناء العرض مرات عديدة نظرا إلى جمالية الارتجال، وكان لهذا الموقف المسرحي أثره البالغ في بروز شخصية الممثل في التحكم في مستويات الدور من جانبه الجسدي والصوتي“.
ويفيد “يعتمد الإخراج المسرحي الحديث على أشكال متعددة من الارتجال، الذي يسمح للممثل بإطلاق العنان لأدائه المسرحي داخل اللعبة المسرحية التي تعتمد بدورها على تكسير كل القوالب الجاهزة في إنتاج العرض المسرحي الحديث، من رفض للنص التقليدي وتحرير كل القدرات الإبداعية العفوية للممثل ومنها تحرير الجسد المسرحي”.
ويتابع “بالنسبة إلى تصوري الشخصي أرى أن الخروج عن النص من أصعب المهام لدى الممثل خاصة حينما يود التأكيد على ما وراء سطور نص المؤلف، لذلك أرى من الضروري صياغته وصناعته أثناء التدريبات حتى يبدو حقيقيا أمام المشاهدين خلال العرض”.
وتذهب الناقدة المسرحية العمانية جليلة بنت سيف الفهدية إلى الحديث عن أسباب ودوافع الممثل للخروج عن النص المسرحي، مشيرة إلى أنهما غالبا ما تكونان نفسية يريد من خلالها الممثل التنفيس أو الإضحاك أو لحالة نفسية مر بها في حياته سواء أسرية أو حالة اقتصادية ومادية صعبة فأراد خلالها التعبير عنها إما بطريقة تراجيدية أو كوميدية.
الارتجال إنجاز عفوي مباشر لفكرة فنية من غير تصميم أو تدوين سابقين، وارتبط الارتجال في الأساس بالمسرح
وتضيف “المسرح في بداية نشأته اعتمد على قدرة الممثل على الارتجال في مواقف معـينة، كما يحدث في المشاهد الكوميدية وعروض الميلودراما والبانتومايم، وقد استخدم المخرج والممثل الروسي وأحد مؤسسي المسرح الحديث قسطنطين ستانسلافسكي الارتجال أثناء البروفات مع الممثلين لمساعدتهم على فهم دوافع الشخصية وطبيعتها وخلفيتها، وحذا حذوه الكثير من الممثلين والمخرجين، حتى أصبح الارتجال عنصرا أساسيا في تدريب أي ممثل وهو ما يعرف بسيمائية المشاهد”.
وتشير إلى أن الارتجال هو إنجاز عفوي مباشر لفكرة فنية من غير تصميم أو تدوين سابقين، وارتبط الارتجال في الأساس بالمسرح، حين كان الممثل يخرج عن النص ليرتجل نصا غير مكتوب، يبين فيه مهاراته التمثيلية ليقدم موعظة أو خطبة.
وتؤكد في سياق حديثها أن الخروج عن النص الحواري المكتوب لا يمثل إهانة للنص بقدر ما هو تفاعل تراه مهما لأن المسرح فن تفاعلي بشرط ألا يكون مؤذيا لمشاعر الجماهير، كما أن الخروج عن النص حقق نجاحا كبيرا وأصبح له جمهوره لأن أغلب المشاهدين يحضرون لمشاهدة العروض المسرحية المقدمة للترفيه لا لأخذ العبر والنصائح، فالممثل يتحدث عن واقع حقيقي وموجود في كل بلد من البلدان سواء العربية أو الأجنبية، لذا نحتاج إلى مثل هذا النوع من الارتجال الذي يعبر عن مشاعر الممثل نفسه ولكن لا بد أن يكون بعيدا عن الإسفاف أو الاستهزاء بالجمهور المشاهد والتعرض له بكلمة تؤذيه أو تؤذي مشاعره.
الخروج عن النص المسرحي ظاهرة فنية لها دوافع نفسية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الارتجال يتطلب مهارة عالية
يعرف المسرح بأنه الفن الذي لا يمكن تكراره كما هو، لكل عرض طاقته وحضوره وأحيانا حتى ما ينقص منه أو يزيد فيه، لذلك فهو فن متحرك ابن لحظته، ولعل أبرز الظواهر التي تؤكد هذا ظاهرة الارتجال، التي يكاد لا يخلو منها عمل مسرحي، رغم أنها ليست إيجابية دائما.
خميس الصلتي
مسقط – يتفق الكثيرون على أن ظاهرة الخروج عن النص المسرحي كانت وما تزال مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتمثيل الكوميدي، ويعود ذلك إلى خبرة الممثل وخفة الروح لديه وسرعة بديهته، وانتشرت بشكل كبير في العديد من المسارح العربية والعالمية، فالبعض يرى أن هذا الخروج ظاهرة غير مستحبة كون المسرح في طبيعته تعبيرا إنسانيا اجتماعيا، ويراها البعض كسرا لقواعد المسرح والنص أيضا، كما أن البعض يفسر الخروج بدوافع نفسية بحتة.
هنا يأتي التساؤل عن ذلك الخروج كظاهرة فنية وما هي الدوافع النفسية المرتبطة بها، وكيف يراها المختصون؟ وماذا عن نتائج هذا الخروج؟
الارتجال والأمانة
الممثل محور اللعبة المسرحية
يقول الأكاديمي والناقد المسرحي المصري محمود سعيد في شأن الارتجال بين الخروج عن النص والدخول فيه “إن الارتجال وتحليل الشخصية من الأساليب المشتقة من المنحى الخيالي في التمثيل، يستخدمان على نحو متسع في مدارس الدراما الحديثة، حتى لو أطلق عليه خروجا عن النص، خاصة وأن كلمة الارتجال في اللغات الأوروبية تشتق من كلمة لاتينية قديمة تعني ما لا نتوقعه أو نحسب حسابه”.
ويضيف “في عالم المسرح والتمثيل ارتبط الارتجال في البداية بالعروض الشعبية الكوميدية بعيدا عن المؤسسات المسرحية الرسمية على عكس العروض الشعبية الجائلة التي كان لها شأن آخر إذ أن طبيعتها الجوالة كانت تفرض عليها التفاعل مع بيئات وتجمعات سكانية مختلفة وتسعى إلى استثارة تعليقات الجمهور وضحكه، ورغم ذلك كانت لهذه العروض قواعدها الضابطة، فالارتجال له مكانه الذي لا يتعداه، وطوله المحسوب، والممثل يلتزم فيه بالخط العام للعرض، لا يخرج عن مساره أو فكرته الرئيسية، أو عن الدور المنوط به، ولا يخل بأدوار زملائه”.
ويتابع سعيد “بلغ فن الارتجال أوج ازدهاره في القرن السادس عشر في الكوميديا الشعبية الإيطالية، المعروفة باسم ‘كوميديا ديلارتي‘ ذات الشخصيات والحبكات النمطية الثابتة، لكن الارتجال المنظم المنضبط هذا لم يلبث أن تقلص دوره في المسرح حتى اختفى تماما حين ظهر الكتاب المسرحيون العظام مرة أخرى في القرن السابع عشر مثل شكسبير في إنجلترا وكورني وراسين وموليير في فرنسا، وطيلة القرنين الثامن والتاسع عشر نجح المؤلفون في فرض سيطرتهم على الممثلين فتقلص الارتجال على خشبة المسرح، ولم يكتسب فن الارتجال شرعية واحتراما حتى بداية القرن العشرين حين جعله المخرج الروسي الشهير ستانسلافسكي جزءا رئيسيا في منهج تدريبات الممثل التي ابتدعها”.
الخروج عن النص هو فعل لحظي ويعتبر إحدى أدوات الممثل وتعبيرا عن إمكانياته الفنية وموهبته لأداء حي
وهكذا، كما يوضح سعيد، ازدهر الارتجال في معامل الممثلين، وإن ظل بعيدا تماما عن خشبة المسرح، إلى أن جاءت مرحلة نجح خلالها الممثلون في تحطيم سلطة المؤلف، وأدخلوا عنصر الارتجال مرة أخرى إلى عروضهم، بل إن عروضا صارت تقوم أساسا على الارتجال ولا تعتمد على نص مسرحي مؤلف جاهز وفي ظل هذا ازدهرت قدرات الممثل على الإبداع والابتكار، ولم يعد مجرد مفسر ومترجم أو منفذ لنص مسرحي مكتوب.
ويوضح أنه في مصر كان الارتجال عنصرا أساسيا في العروض الكوميدية منذ البداية، وارتكز على فنون الردح والقافية معتمدا على التراث المصري من النكت والدعابات، وعلى سرعة البديهة، وحضور الذهن الذي يميز أبناء البلد عادة، إلا أن فن الارتجال العربي وضع في أكثر من أزمة، إذ تجد الممثلين يبادرون إلى الارتجال، ويتنافسون دون التزام بحدود الموقف، مما يشتت المتفرج تماما، ويطيل العرض إطالة ممجوجة، أضف إلى ذلك أن بعض الممثلين يتوسمون في أنفسهم القدرة على ممارسة هذا الفن الرفيع رغم قلة تدريبهم أو موهبتهم، وعلى العكس نجد من يقوم بالارتجال خارج النص بعناية ومرونة تجعلانه يدخل إلى عمق النص بقوة محققا رسالته في أبهى صورها.
وفي السياق ذاته تقول المخرجة البحرينية كلثوم أمين “كوني مسرحية ومخرجة أجد أن المخرج يجب أن يكون أمينا في اختياره للنص ولا يغير فيه لأنه جهد المؤلف ولكن في بعض الأحيان هناك رؤية المخرج تتغير بتغيير بعض الأمور في هذا النص بغرض الوصول إلى الهدف المرجو الذي لا يوفره النص، وهنا يجب على المخرج أن يستأذن المؤلف أولا، وقبل أن يغير أي شيء في النص هذا إذا كان المؤلف حيا وأن يتوخى الحذر في التغيير إذا كان المؤلف غير ذلك”.
وتضيف “لكن هناك أمور تجعل الممثل يخرج عن النص والسبب الرئيسي نفسي يعود إلى سيكولوجية الممثل ذاته قبل دخوله إلى المسرح بلحظات وساعة وقوفه على الخشبة، هل دواخله نظيفة وتركيزه على النص ومنطوقاته وعواطف وأفكار الشخصية التي يمثلها، هل للممثل مآرب أخرى من حيث تأويله للنص، هل هناك أمور أخرى في لا وعيه؟”.
سيف ذو حدين
يقول الفنان العماني سعود الخنجري إن الخروج عن النص هو فعل لحظي ويعتبره شخصيا ليكون إحدى أدوات الممثل أو إمكاناته الفنية لأداء حي غير متفق عليه وفي الأغلب يكون وليد اللحظة.
ويوضح “غالبا ما تكون أسباب ودوافع الممثل على خشبة المسرح باتخاذ القرار في اللحظة المناسبة كونه على اتصال مباشر مع الجمهور خلال العرض المسرحي ولديه الخبرة الكافية في اختيار التوقيت المناسب من خلال ردة فعل معينة أو لإبراز ظاهرة اجتماعية أو سلوك معين، ولربما لزيادة جرعة الكوميديا من خلال العرض المسرحي أو ربما حتى لإنقاذ موقف في حالة قراءته الذاتية مثلا كهبوط مستوى العرض وعدم تفاعل الجمهور معه”.
ويشير إلى أن هذه الظاهرة بمثابة سيف ذي حدين، حيث نرى ذلك من خلال النتائج التي تتضح جليا عبر ردة فعل الجمهور سواء بالضحك أو العبوس، فبعض الممثلين يوفقون في اختيار وانتهاز الفرصة المناسبة ومنهم من يفشل في ذلك، وأصبح يعتمد بصورة أكبر على الإضحاك دون هدف محدد.
فن الارتجال العربي قد يسبب أكثر من أزمة إذ تجد الممثلين يبادرون إلى الارتجال ويتنافسون دون التزام بحدود
ويتابع الخنجري في سياق توضيحه “عرف العديد من نجوم وممثلي المسرح بهذه الظاهرة منهم النجم عادل إمام، ومحمد صبحي، وسعيد صالح ويونس شلبي وسمير غانم وسيد زيان وسهير البابلي ونجاح الموجي وغيرهم الكثير، أما بالنسبة إلى الوقع النفسي للفنان، فحرفية الخروج عن النص تعتمد وبشكل كبير جدا على نفسية الممثل أثناء العرض وقابليته لاتخاذ القرار في اللحظة المناسبة، وخاصة في العروض الكوميدية، لذلك غالبا ما نرى الممثل المسرحي يعد العدة قبل الوقوف على خشبة المسرح للتهيئة النفسية”.
ويقول الناقد المسرحي الجزائري لخضر منصوري إن الخروج عن النص المسرحي أثناء أداء الممثل العرض المسرحي يعد تقنية أو فعلا مسرحيا غير منتظر، ويسمى بـ”الارتجال المسرحي”، حيث يشخص الممثل أفعالا حركية ولفظية غير منتظرة وغير مرسومة مسبقا في التشكيل الحركي للمخرج، وينساق الممثل داخل حرارة المشهد والوضعية الدرامية إلى التعبير عن مكنونات نفسية في أغلب الأحيان أثناء أداء شخصية الدور في علاقاتها مع الشخصيات الأخرى وبالحدث المسرحي.
ويضيف “تظهر أفعال خروج الممثل عن النص أثناء العرض حقيقية بنسبة كبيرة، حينما يأتي الموقف المرتجل صادقا ونابعا من الوضعية الدرامية ولا يمكن للمتلقي أن ينتبه لذلك خاصة في الحالات الدرامية الكوميدية، ويؤكد ذلك الباحث الفرنسي باتريس بافي في معجمه المسرحي أن ‘هناك مستويات متعددة من الارتجال قد يكون ابتكار نص انطلاقا من مخطط معروف غاية في الدقة كما نجد ذلك عند ممثلي الكوميديا ديللارتي‘ ولعل الاتفاق المسبق بين الممثلين والمخرج في أداء ارتجال بالحركة أو بالنص المنطوق أثناء العرض من الأساسات الضرورية حتى لا يربك الممثل المرتجل من يكون معه أثناء المشهد”.
ويتابع “لعل تاريخ المسرح العربي يحفل بالكثير من المواقف المرتجلة أثناء العرض وصنعت مجد بعض الممثلين في صناعة المشهد المرتجل، بالخروج عن النص في مواقف متعددة، ولعل أبرز ظاهرة شهدها المسرح الجزائري خاصة، حينما قام الممثل سيراط بومدين (صاحب أحسن أداء رجالي في أيام قرطاج المسرحية بتونس عام 1985) بالخروج عن النص في مسرحية ‘الأجواد‘ للراحل عبدالقادر علولة، حيث يطلب المشاهدون تكرار المشهد أثناء العرض مرات عديدة نظرا إلى جمالية الارتجال، وكان لهذا الموقف المسرحي أثره البالغ في بروز شخصية الممثل في التحكم في مستويات الدور من جانبه الجسدي والصوتي“.
ويفيد “يعتمد الإخراج المسرحي الحديث على أشكال متعددة من الارتجال، الذي يسمح للممثل بإطلاق العنان لأدائه المسرحي داخل اللعبة المسرحية التي تعتمد بدورها على تكسير كل القوالب الجاهزة في إنتاج العرض المسرحي الحديث، من رفض للنص التقليدي وتحرير كل القدرات الإبداعية العفوية للممثل ومنها تحرير الجسد المسرحي”.
ويتابع “بالنسبة إلى تصوري الشخصي أرى أن الخروج عن النص من أصعب المهام لدى الممثل خاصة حينما يود التأكيد على ما وراء سطور نص المؤلف، لذلك أرى من الضروري صياغته وصناعته أثناء التدريبات حتى يبدو حقيقيا أمام المشاهدين خلال العرض”.
وتذهب الناقدة المسرحية العمانية جليلة بنت سيف الفهدية إلى الحديث عن أسباب ودوافع الممثل للخروج عن النص المسرحي، مشيرة إلى أنهما غالبا ما تكونان نفسية يريد من خلالها الممثل التنفيس أو الإضحاك أو لحالة نفسية مر بها في حياته سواء أسرية أو حالة اقتصادية ومادية صعبة فأراد خلالها التعبير عنها إما بطريقة تراجيدية أو كوميدية.
الارتجال إنجاز عفوي مباشر لفكرة فنية من غير تصميم أو تدوين سابقين، وارتبط الارتجال في الأساس بالمسرح
وتضيف “المسرح في بداية نشأته اعتمد على قدرة الممثل على الارتجال في مواقف معـينة، كما يحدث في المشاهد الكوميدية وعروض الميلودراما والبانتومايم، وقد استخدم المخرج والممثل الروسي وأحد مؤسسي المسرح الحديث قسطنطين ستانسلافسكي الارتجال أثناء البروفات مع الممثلين لمساعدتهم على فهم دوافع الشخصية وطبيعتها وخلفيتها، وحذا حذوه الكثير من الممثلين والمخرجين، حتى أصبح الارتجال عنصرا أساسيا في تدريب أي ممثل وهو ما يعرف بسيمائية المشاهد”.
وتشير إلى أن الارتجال هو إنجاز عفوي مباشر لفكرة فنية من غير تصميم أو تدوين سابقين، وارتبط الارتجال في الأساس بالمسرح، حين كان الممثل يخرج عن النص ليرتجل نصا غير مكتوب، يبين فيه مهاراته التمثيلية ليقدم موعظة أو خطبة.
وتؤكد في سياق حديثها أن الخروج عن النص الحواري المكتوب لا يمثل إهانة للنص بقدر ما هو تفاعل تراه مهما لأن المسرح فن تفاعلي بشرط ألا يكون مؤذيا لمشاعر الجماهير، كما أن الخروج عن النص حقق نجاحا كبيرا وأصبح له جمهوره لأن أغلب المشاهدين يحضرون لمشاهدة العروض المسرحية المقدمة للترفيه لا لأخذ العبر والنصائح، فالممثل يتحدث عن واقع حقيقي وموجود في كل بلد من البلدان سواء العربية أو الأجنبية، لذا نحتاج إلى مثل هذا النوع من الارتجال الذي يعبر عن مشاعر الممثل نفسه ولكن لا بد أن يكون بعيدا عن الإسفاف أو الاستهزاء بالجمهور المشاهد والتعرض له بكلمة تؤذيه أو تؤذي مشاعره.