"شا طا را" مسرحية تجريبية مغربية تنوّم جمهورها في بغداد
"كلب الست" كوميديا كلاسيكية البنية تخفي قضايا السياسة بحكاية طباخة وجد وحفيد.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الصورة لها خطابها المتمرد على النص (مسرحية "شا طا را")
يواصل مهرجان بغداد الدولي للمسرح تقديم نظرة بانورامية على المسرح العربي والغربي، مقدما أعمالا متنوعة في قضاياها وأشكالها، خالقا مساحة جدل ضرورية لتطوير العمل المسرحي وضمان ترسيخ الرؤية من أكثر من زاوية، حيث لا وجود لمسرح واحد بل هناك مسارح.
تتواصل فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح، مقدمة ثلاثة عروض في كل يوم، وعرضت مؤخرا مسرحيتين كانتا محور نقاش بين المسرحيين والجمهور الحاضر، وهما “شا طا را” للمخرج المغربي أمين ناسور و”كلب الست” للمخرج الفلسطيني فراس أبوصباح.
واخترنا العملين لمقاربتهما لاختلافهما في البنية ما يؤكد أن المسرح ليس واحدا، ككل فن، هناك أنماط متنوعة ولا يلغي أحدها الآخر.
مغامرة التجريب
مخرج وممثلات مسرحية "شا طا را" وخاصة المغنية يحسب لهم جهدهم التجريبي، لكن هذا لم يصنع خطابا مؤثرا
قدم ناسور عرضه “شا طا را” الذي نال مؤخرا الجائزة الكبرى لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، في شكل مسرحي تجريبي يتجاوز البناء الدرامي التقليدي ويقفز على الحوارات بين الشخصيات، التي لا تتصارع ولا تتواجه، بل هي حالات على الخشبة، ثلاث نساء، تروي كل منهن حكايتها للجمهور، بنوع من الألم والسخرية أحيانا، حكايات مختلفة تجمعها مظلة الهجرة والإقامة في ملجأ في بلد بعيد.
المهاجرات الثلاث تتكلم كل واحدة منهن بلغة، الأولى باللهجة المغربية والثانية أفريقية تتحدث بالفرنسية، والثالثة تتحدث بالعربية الفصحى، تختلف مآسي كل منهن من الامتهان والاغتصاب والترهيب والوحدة والعنف وغيرها من معاناة المرأة التي تتشابه وإن اختلفت، خاصة في بلدان العالم الثالث حيث يتراجع الوعي بالحقوق وتغيب الحريات الفردية وتنتشر الصراعات، ويعصر الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الخانق الشعوب وخاصة النساء، اللواتي يكن أولى الضحايا.
إذن تحكي كل امرأة مأساتها، بينما في جانبي الخشبة عازفة قيثار وآلة إيقاع ومغنية على اليمين، وعازف آلة إيقاعية على اليسار ينجز أحيانا مؤثرات صوتية. ولا تتوقف الأغاني من بداية العرض إلى ختامه إلا في لحظات قليلة نادرة، إذ كانت الموسيقى في المقدمة بينما في الخلفية حكايات النساء التي يروينها عليها.
الخيارات السينوغرافية أعطت جمالية للعمل وحركية في صناديق سداسية تتفكك وتتلاحم والتي تحملها النساء، كل واحدة منهن لها صندوقها، وكأنه سرها الذي تفتحه، ونجد الكراسي الصغيرة وفي الخلفية شاشة في شكل سداسي يشبه خلية النحل، عليها تعرض مقاطع فيديو تكمل الصورة على الخشبة أو توضحها أو تعرض الكلام الذي يقال، كما حاولت الإضاءة تقسيم فترات العمل، لكن في كل هذا اللعب بماذا نخرج من العمل؟
رغم التفكير في تجديد الصورة وبناء العرض المسرحي خارج الدراما المعتادة، وهي مغامرة يحتاجها المسرح بشدة، فإن العرض سقط في نوع من الحشو إذ كان الغناء من بدايته إلى نهايته أحيانا أعلى من صوت الممثلات، ومثل دورا تنويميا، يسحب المشاهدين إلى الأغاني الرقيقة التي أدتها المغنية بصوت عذب وأداء ممتاز، أغان يذكرنا بعضها بأغاني الكرتون وأخرى بالفصحى وأخرى باللهجة المغربية، كوكتيل من الأغاني سحب العرض إليه وأفرغه من محتواه.
مساحة صغيرة مليئة بالرموز (مسرحية "كلب الست")
هو خيار جمالي وفني انتهجه المخرج، أن يكون صوت الممثلات ولعبهن في خلفية الموسيقى، والمغنية أيضا تعتبر مؤدية وواحدة من الممثلات على الخشبة، رغم أنها معزولة عنها ولا تتفاعل مع ما يحدث، خطان متوازيان وكأن كلا منهما غير موجود للآخر، اللعبة جيدة بهذا المنطق، لكن هل تكاملت عناصر العرض دون طغيان أحدها على الآخر؟
أعتقد أن الممثلة المغنية تجاوزت دور المؤثرات الصوتية، لتقود هي العرض، لكن هذا أسقط اللعبة المسرحية برمتها في التنويم، وفكك لعب الممثلات وجعله هامشيا، فلو سألت أيا ممن خرجوا من العرض سيشيد بالمغنية، أما بقية القصص، وهي من المفروض محور العرض، فلم تكن سوى مكملات، وهذا في اعتقادي خلل فادح في العمل.
من ناحية أخرى التمرد على الأشكال التقليدية يخفي داخله ارتكانا إليها، إنها مفارقة. إن تمرد المسرح الحقيقي لم يكن شكليا فحسب بل وحتى في عمق تصوراته وتلامسه مع الجمهور، إذ تخلى المسرح عن التماهي والتنويم والوعظ والحكاية ليذهب أكثر مع ملحمية بريشت إلى ترسيخ قواعد أخرى للعب، تسعى إلى أن يكون المسرح فعلا تحريضيا ثوريا، وبالتالي فإنها تكسر الجدار الرابع وتكسر فوقية الممثل وتؤسس لخطاب يدعو إلى التفكير، خطاب يوقظ المتلقي. فهل أيقظتنا “شا طا را”؟
مسرحية سياسية في قالب كوميدي طريف بنيتها كلاسيكية ورسالتها واضحة وحتى السينوغرافيا كانت بسيطة
يحسب للمخرج وللممثلات جهدهم في المغامرة والثورة على البنى الكلاسيكية، لكن هذا لم يصنع في اعتقادي خطابا مسرحيا مؤثرا، فكان الخطاب خطاب صورة، وموسيقى أغاني لطيفة وهادئة، أما اللعب فقد غاب في الخلفية، والحكايات ظلت شظايا لم تنجح في أن تصبح حكايات حية بحجم مآسي النساء في أفريقيا والعالم العربي، وفي مستوى آلامهن وتراجيديا عبورهن إلى الضفاف الأخرى هربا من المجتمعات السامة.
للأسف ينبهر البعض بالصورة، لكن ما الصورة إن لم تقل الحكاية، الصورة مؤثرة حين تنجح في أن تختزل القصص، وقصص النساء أكثر تشعبا وتداخلا مما نتخيل، قصص ما زالت إلى اليوم مليئة بالمسكوت عنه، ومن واجب الفن استنطاقها بحجم تراجيديتها، لا اللعب بها بشكل صوري كما رأينا في هذا العمل. قضايا النساء تكمن في تلك التفاصيل المسكوت عنها.
وقال أمين ناسور حول عمله “حين آخذ أي نص أشتغل على الفكرة فهي الأساس”، موضحا أن مشروع “شا طا را” هو جزء من ثلاثية بدأت مع فرقة جفسوين من مدينة الحسيمة، وهي فرقة تشتغل على المسرح الأمازيغي الريفي، إذ ذهب إلى هذه الفرقة بمشروع ثلاثية بدأها بعرض “بريكولا”، وثيمة هذه الثلاثية هي الهجرة، وكان الجزء الثاني مسرحية “باركينغ” عن شباب يعيشون في سيارة، ليكون الجزء الأخير بين شخصيات ربيعة وشاري وطاليا، ثلاث مهاجرات يلتقين في ملجأ.
وأضاف ناسور “العمل أحداث متطورة ناتجة عن تراكم”، ومن ناحية أخرى أعتبر أن التلقي يختلف من جمهور إلى جمهور ومن شخص إلى شخص. تختلف الآراء، المهم، في رأيه، أنه عمل يخلق النقاش، وأن غياب النقاش خطر على المسرح.
ودمج المخرج في عمله بين ممثلين محليين ووطنيين، ساعيا إلى خلق جو من الإنسانية والمحبة بين فريق العمل، مبينا أنه يتلقى ملاحظات من الجميع. خاصة “عندما يكون القلب منفتحا والرؤية واضحة”.
كوميديا سياسية
تختلف مسرحية “كلب الست” عن مسرحية “شا طا را” إذ اختار القائمون عليها بنية مسرحية كلاسيكية، جد وحفيده فقيران يعيشان في بيت بسيط على الكفاف ويواجهان الجوع وقلة الحيلة، تقتحم حياتهما طباخة وتأتيهما بالطعام وتقترح عليهما أن تطبخ لهما لأسبوع كامل ما لذ وطاب، وتتصاعد درامية الحكاية بأن يكون للطباخة كلب تدخله من نافذة المطبخ، ويأكل الكلب من السم الذي وضعه الجد وحفيده للفأر ليموت، وتبدأ معاناة الرجلين مع الطباخة التي تتحول إلى سيدة البيت، وتعاقبهما بالجوع لأسبوع.
الإحالات كثيرة على الوضع السياسي، وتحديدا واقع الاحتلال والتلاعب بالدول، قضايا كبيرة يطرحها العمل، قضايا الشعوب التي يتسلل إليها “المساعدون الجميلون” ليتحولوا إلى محتلين وغزاة قساة، يفككون الأوطان، ويسلبونها من أصحابها، فلكل شيء ثمن، وما يقدم من باب المساعدة ما هو إلا وسيلة لما هو أبعد، نهب الأوطان.
البيت رغم أنه متهالك فهو الوطن، ولذلك يتشبث به الجد، لكن الحفيد يحاول بيعه بعد أن غرست السيدة الفكرة في رأسه بأن يبيع بيته ويغادر إلى مكان آخر، وهذا تماما ما يحدث في الأوطان العربية، وفلسطين بشكل مخصوص، ممن هربوا إلى الشتات تاركين الوطن مسلوب الإرادة.
جاء العمل في قالب كوميدي طريف، ورسالته كانت واضحة، وحتى السينوغرافيا كانت بسيطة، جدار وكنبة وصورة كلب، حافظ على الحدود البسيطة للحكاية، التي تحمل رسائل سياسية بالأساس، وهو خيار من المخرج، الذي كان يمكنه أن يذهب أبعد في التصورات السينوغرافية، مثلا كأن يغير صورة الكلب الفوتوغرافية بصورة أكثر تعبيرية، كأن يكون الكلب لوحة مثلا، لكن التقشف البصري في العمل، ربما هو خيار لصالح النص، الذي كان متماسكا في بنائه.
“كلب الست” وجبة مسرحية خفيفة وطريفة، تحمل رسائل سياسية قوية، من خلال لعبة رمزية أجاد النص تأسيسها، الحفاظ على البنية الكلاسيكية للعمل ليس عيبا أو نقيصة، لكن كان يمكن الذهاب أبعد في التجديد، وتقديم رؤى بديلة وخطاب بصري أكثر تأثيرا، خاصة فيما يتعلق بالسينوغرافيا.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي
"كلب الست" كوميديا كلاسيكية البنية تخفي قضايا السياسة بحكاية طباخة وجد وحفيد.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الصورة لها خطابها المتمرد على النص (مسرحية "شا طا را")
يواصل مهرجان بغداد الدولي للمسرح تقديم نظرة بانورامية على المسرح العربي والغربي، مقدما أعمالا متنوعة في قضاياها وأشكالها، خالقا مساحة جدل ضرورية لتطوير العمل المسرحي وضمان ترسيخ الرؤية من أكثر من زاوية، حيث لا وجود لمسرح واحد بل هناك مسارح.
تتواصل فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح، مقدمة ثلاثة عروض في كل يوم، وعرضت مؤخرا مسرحيتين كانتا محور نقاش بين المسرحيين والجمهور الحاضر، وهما “شا طا را” للمخرج المغربي أمين ناسور و”كلب الست” للمخرج الفلسطيني فراس أبوصباح.
واخترنا العملين لمقاربتهما لاختلافهما في البنية ما يؤكد أن المسرح ليس واحدا، ككل فن، هناك أنماط متنوعة ولا يلغي أحدها الآخر.
مغامرة التجريب
مخرج وممثلات مسرحية "شا طا را" وخاصة المغنية يحسب لهم جهدهم التجريبي، لكن هذا لم يصنع خطابا مؤثرا
قدم ناسور عرضه “شا طا را” الذي نال مؤخرا الجائزة الكبرى لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، في شكل مسرحي تجريبي يتجاوز البناء الدرامي التقليدي ويقفز على الحوارات بين الشخصيات، التي لا تتصارع ولا تتواجه، بل هي حالات على الخشبة، ثلاث نساء، تروي كل منهن حكايتها للجمهور، بنوع من الألم والسخرية أحيانا، حكايات مختلفة تجمعها مظلة الهجرة والإقامة في ملجأ في بلد بعيد.
المهاجرات الثلاث تتكلم كل واحدة منهن بلغة، الأولى باللهجة المغربية والثانية أفريقية تتحدث بالفرنسية، والثالثة تتحدث بالعربية الفصحى، تختلف مآسي كل منهن من الامتهان والاغتصاب والترهيب والوحدة والعنف وغيرها من معاناة المرأة التي تتشابه وإن اختلفت، خاصة في بلدان العالم الثالث حيث يتراجع الوعي بالحقوق وتغيب الحريات الفردية وتنتشر الصراعات، ويعصر الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الخانق الشعوب وخاصة النساء، اللواتي يكن أولى الضحايا.
إذن تحكي كل امرأة مأساتها، بينما في جانبي الخشبة عازفة قيثار وآلة إيقاع ومغنية على اليمين، وعازف آلة إيقاعية على اليسار ينجز أحيانا مؤثرات صوتية. ولا تتوقف الأغاني من بداية العرض إلى ختامه إلا في لحظات قليلة نادرة، إذ كانت الموسيقى في المقدمة بينما في الخلفية حكايات النساء التي يروينها عليها.
الخيارات السينوغرافية أعطت جمالية للعمل وحركية في صناديق سداسية تتفكك وتتلاحم والتي تحملها النساء، كل واحدة منهن لها صندوقها، وكأنه سرها الذي تفتحه، ونجد الكراسي الصغيرة وفي الخلفية شاشة في شكل سداسي يشبه خلية النحل، عليها تعرض مقاطع فيديو تكمل الصورة على الخشبة أو توضحها أو تعرض الكلام الذي يقال، كما حاولت الإضاءة تقسيم فترات العمل، لكن في كل هذا اللعب بماذا نخرج من العمل؟
رغم التفكير في تجديد الصورة وبناء العرض المسرحي خارج الدراما المعتادة، وهي مغامرة يحتاجها المسرح بشدة، فإن العرض سقط في نوع من الحشو إذ كان الغناء من بدايته إلى نهايته أحيانا أعلى من صوت الممثلات، ومثل دورا تنويميا، يسحب المشاهدين إلى الأغاني الرقيقة التي أدتها المغنية بصوت عذب وأداء ممتاز، أغان يذكرنا بعضها بأغاني الكرتون وأخرى بالفصحى وأخرى باللهجة المغربية، كوكتيل من الأغاني سحب العرض إليه وأفرغه من محتواه.
مساحة صغيرة مليئة بالرموز (مسرحية "كلب الست")
هو خيار جمالي وفني انتهجه المخرج، أن يكون صوت الممثلات ولعبهن في خلفية الموسيقى، والمغنية أيضا تعتبر مؤدية وواحدة من الممثلات على الخشبة، رغم أنها معزولة عنها ولا تتفاعل مع ما يحدث، خطان متوازيان وكأن كلا منهما غير موجود للآخر، اللعبة جيدة بهذا المنطق، لكن هل تكاملت عناصر العرض دون طغيان أحدها على الآخر؟
أعتقد أن الممثلة المغنية تجاوزت دور المؤثرات الصوتية، لتقود هي العرض، لكن هذا أسقط اللعبة المسرحية برمتها في التنويم، وفكك لعب الممثلات وجعله هامشيا، فلو سألت أيا ممن خرجوا من العرض سيشيد بالمغنية، أما بقية القصص، وهي من المفروض محور العرض، فلم تكن سوى مكملات، وهذا في اعتقادي خلل فادح في العمل.
من ناحية أخرى التمرد على الأشكال التقليدية يخفي داخله ارتكانا إليها، إنها مفارقة. إن تمرد المسرح الحقيقي لم يكن شكليا فحسب بل وحتى في عمق تصوراته وتلامسه مع الجمهور، إذ تخلى المسرح عن التماهي والتنويم والوعظ والحكاية ليذهب أكثر مع ملحمية بريشت إلى ترسيخ قواعد أخرى للعب، تسعى إلى أن يكون المسرح فعلا تحريضيا ثوريا، وبالتالي فإنها تكسر الجدار الرابع وتكسر فوقية الممثل وتؤسس لخطاب يدعو إلى التفكير، خطاب يوقظ المتلقي. فهل أيقظتنا “شا طا را”؟
مسرحية سياسية في قالب كوميدي طريف بنيتها كلاسيكية ورسالتها واضحة وحتى السينوغرافيا كانت بسيطة
يحسب للمخرج وللممثلات جهدهم في المغامرة والثورة على البنى الكلاسيكية، لكن هذا لم يصنع في اعتقادي خطابا مسرحيا مؤثرا، فكان الخطاب خطاب صورة، وموسيقى أغاني لطيفة وهادئة، أما اللعب فقد غاب في الخلفية، والحكايات ظلت شظايا لم تنجح في أن تصبح حكايات حية بحجم مآسي النساء في أفريقيا والعالم العربي، وفي مستوى آلامهن وتراجيديا عبورهن إلى الضفاف الأخرى هربا من المجتمعات السامة.
للأسف ينبهر البعض بالصورة، لكن ما الصورة إن لم تقل الحكاية، الصورة مؤثرة حين تنجح في أن تختزل القصص، وقصص النساء أكثر تشعبا وتداخلا مما نتخيل، قصص ما زالت إلى اليوم مليئة بالمسكوت عنه، ومن واجب الفن استنطاقها بحجم تراجيديتها، لا اللعب بها بشكل صوري كما رأينا في هذا العمل. قضايا النساء تكمن في تلك التفاصيل المسكوت عنها.
وقال أمين ناسور حول عمله “حين آخذ أي نص أشتغل على الفكرة فهي الأساس”، موضحا أن مشروع “شا طا را” هو جزء من ثلاثية بدأت مع فرقة جفسوين من مدينة الحسيمة، وهي فرقة تشتغل على المسرح الأمازيغي الريفي، إذ ذهب إلى هذه الفرقة بمشروع ثلاثية بدأها بعرض “بريكولا”، وثيمة هذه الثلاثية هي الهجرة، وكان الجزء الثاني مسرحية “باركينغ” عن شباب يعيشون في سيارة، ليكون الجزء الأخير بين شخصيات ربيعة وشاري وطاليا، ثلاث مهاجرات يلتقين في ملجأ.
وأضاف ناسور “العمل أحداث متطورة ناتجة عن تراكم”، ومن ناحية أخرى أعتبر أن التلقي يختلف من جمهور إلى جمهور ومن شخص إلى شخص. تختلف الآراء، المهم، في رأيه، أنه عمل يخلق النقاش، وأن غياب النقاش خطر على المسرح.
ودمج المخرج في عمله بين ممثلين محليين ووطنيين، ساعيا إلى خلق جو من الإنسانية والمحبة بين فريق العمل، مبينا أنه يتلقى ملاحظات من الجميع. خاصة “عندما يكون القلب منفتحا والرؤية واضحة”.
كوميديا سياسية
تختلف مسرحية “كلب الست” عن مسرحية “شا طا را” إذ اختار القائمون عليها بنية مسرحية كلاسيكية، جد وحفيده فقيران يعيشان في بيت بسيط على الكفاف ويواجهان الجوع وقلة الحيلة، تقتحم حياتهما طباخة وتأتيهما بالطعام وتقترح عليهما أن تطبخ لهما لأسبوع كامل ما لذ وطاب، وتتصاعد درامية الحكاية بأن يكون للطباخة كلب تدخله من نافذة المطبخ، ويأكل الكلب من السم الذي وضعه الجد وحفيده للفأر ليموت، وتبدأ معاناة الرجلين مع الطباخة التي تتحول إلى سيدة البيت، وتعاقبهما بالجوع لأسبوع.
الإحالات كثيرة على الوضع السياسي، وتحديدا واقع الاحتلال والتلاعب بالدول، قضايا كبيرة يطرحها العمل، قضايا الشعوب التي يتسلل إليها “المساعدون الجميلون” ليتحولوا إلى محتلين وغزاة قساة، يفككون الأوطان، ويسلبونها من أصحابها، فلكل شيء ثمن، وما يقدم من باب المساعدة ما هو إلا وسيلة لما هو أبعد، نهب الأوطان.
البيت رغم أنه متهالك فهو الوطن، ولذلك يتشبث به الجد، لكن الحفيد يحاول بيعه بعد أن غرست السيدة الفكرة في رأسه بأن يبيع بيته ويغادر إلى مكان آخر، وهذا تماما ما يحدث في الأوطان العربية، وفلسطين بشكل مخصوص، ممن هربوا إلى الشتات تاركين الوطن مسلوب الإرادة.
جاء العمل في قالب كوميدي طريف، ورسالته كانت واضحة، وحتى السينوغرافيا كانت بسيطة، جدار وكنبة وصورة كلب، حافظ على الحدود البسيطة للحكاية، التي تحمل رسائل سياسية بالأساس، وهو خيار من المخرج، الذي كان يمكنه أن يذهب أبعد في التصورات السينوغرافية، مثلا كأن يغير صورة الكلب الفوتوغرافية بصورة أكثر تعبيرية، كأن يكون الكلب لوحة مثلا، لكن التقشف البصري في العمل، ربما هو خيار لصالح النص، الذي كان متماسكا في بنائه.
“كلب الست” وجبة مسرحية خفيفة وطريفة، تحمل رسائل سياسية قوية، من خلال لعبة رمزية أجاد النص تأسيسها، الحفاظ على البنية الكلاسيكية للعمل ليس عيبا أو نقيصة، لكن كان يمكن الذهاب أبعد في التجديد، وتقديم رؤى بديلة وخطاب بصري أكثر تأثيرا، خاصة فيما يتعلق بالسينوغرافيا.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي