سد الذرائع Sad al-Dhara’i : وهي لغة: الوسيلة، فمن تذرع بذريعة فقد توسل بها .

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سد الذرائع Sad al-Dhara’i : وهي لغة: الوسيلة، فمن تذرع بذريعة فقد توسل بها .

    سد الذرائع

    الذرائع جمع ذريعة، وهي لغة: الوسيلة، فمن تذرع بذريعة فقد توسل بها، مثل الدريئة تطلق على الجمل الذي يترك سائباً مع الصيد في مواطنه ليألفه، فإذا طلب الصياد الصيد اختفى وراءه يتستر به عن الصيد ليرميه عن قرب،والذريعة: السبب إلى الشيء، تقول: فلان ذريعتي إليك، يعني سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك. يقول ابن الأعرابي: سمي البعير دريئة وذريعة، ثم جعلت الذريعة مثلاً لكل شيء أدنى من شيء وقَرَّب منه.
    وعلى هذا، فكل ما اتخذ وسيلة إلى غيره فهو ذريعة، ومعنى أُتخذ ذريعة أن ما لا يُتخذ ذريعةً لشيء يكون له سبباً أو علة.
    والذرائع في الاصطلاح تقابل المقاصد، لأن موارد الشريعة قسمان: مقاصد وذرائع.
    أما المقاصد: فهي الأمور التي تطلب أو تمنع، لأنها مصالح أو مفاسد ذاتية، كالإيمان والإحسان والبر ومحاسن الأخلاق وأمثال ذلك من المصالح، وكالشرك والكفر وكفران النعم ومنكرات الأخلاق وأمثالها من المفاسد.
    وأما الذرائع: فهي الوسيلة المفضية إلى المقاصد، فتأخذ حكم ما تفضي إليه، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن بها وممارستها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، أحدهما للغاية والآخر للوسيلة.
    وما يفضي من الذرائع إلى المفاسد أقسام:
    فإما أن يكون وضعه في الأساس للإفضاء إلى المفسدة فهو ممنوع محظور، أو للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب مطلوب، لكنه يفضي بقصد أو بغير قصد إلى مفسدة راجحة أو مرجوحة، فيأخذ حكمه بحسب الوقائع، ونسبة كل من المفاسد والمصالح المتعارضة فيها، وبحسب قوة الإفضاء وضعفه، وهنا يأتي دور سد الذرائع، أو فتحها، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة، يقول القرافي: «أعلم أن الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح» وعلى هذا:
    ـ تكون الأفعال والأقوال المفضية لا محالة إلى المفسدة منهياً عنها محظورة، كتناول الخمر المفضي إلى السكر، والقذف المفضي إلى مفسدة الافتراء، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه والأنساب.
    ويشتد النهي وتتعاظم الحرمة إذا اتخذت المقاصد التي تتضمن مفاسد ذاتية ذريعة إلى مفاسد إضافية، كمن يقدم شهادة زور لاتهام بريء أو أكل المال بغير حق.
    ـ وتكون الوسائل الجائزة الموضوعة أساساً للمصالح، إذا اتخذت بقصد ذريعة إلى المحظورات محظورة كذلك، كمن يعقد النكاح على المطلقة ثلاثاً مشترطاً على نفسه إحلالها لزوجها، أو يتعمد البيع المباح قاصداً به الربا[ر]، أو يهب أمواله في مرض موته ليمنع الورثة من كل أو بعض حقهم في التركة.
    ـ وتكون الوسائل الجائزة التي لم يقصد صاحبها اتخاذها إلى المفسدة، لكن إفضاءها إليها قطعي أو غالب، ممنوعة أيضاً، كمن يسب أرباب المشركين وآلهتهم أمامهم، فيسبوا الله عَدْواً بغير علم، أو يبيع السلاح في وقت الفتنة.
    ـ أما الوسائل الجائزة المفضية إلى المصالح في الأصل الغالب، فلا تمنع ولو كانت تحتمل في بعض الأحيان الإفضاء إلى المحظور، وعلى هذا، فلا تمنع زراعة العنب للأكل المباح مع احتمال عصره خمراً، ولا القضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج، مع إمكان الكذب والوهم والغلط، ولا يخصى الرجال لاحتمال وقوعهم في الزنا، ولا يقتل الأطفال لاحتمال أن يكونوا من المفسدين في الأرض، إلا إذا كان الإفضاء قطعياً أو غالباً فيمنع الجائز كمن أنشأ مزرعة للعنب وأقام إلى جانبها مصنعاً للخمور، أو تعاقد مع صاحب الخمر على توريد إنتاجه إليه.
    ـ وهل يباح المحظور إذا اتخذ ذريعة لإحياء حق؟ كمن يثبت حقه على المدين المنكر بشهادة غير صادقة، أو يأكل الميتة، أو يشرب الخمر لإحياء النفس، هنا يختلف الحكم بحسب الحال تبعاً للوقائع والمصالح والمفاسد المتعارضة وبحسب رتبتها من الضرورات والحاجيات والكماليات، ولا بد في كل حال من تقديم الأصلح والأنفع والأقل خطراً وفساداً ومراعاة للصالح العام.
    ولابد من الإشارة إلى أن النظر في الذرائع يتجه اتجاهين:
    الأول: النظر إلى الباعث الذي يدفع الشخص إلى الفعل، وهل قصد به الوصول إلى الحلال أو الحرام؟ كمن عقد الزواج لا يقصد به مقتضاه الشرعي من العشرة الدائمة وبناء الأسرة والأولاد، بل قصد مجرد إحلال المرأة لمطلقها ثلاثاً. وكمن عقد البيع لايقصد به نقل الملكية وقبض الثمن، بل قصد التحايل على أكل الربا، فإنه في هذه الأحوال وأشباهها يكون آثماً ولا يحل له ما عقد عليه، فيما بينه وبين الله تعالى، إلا إذا قامت الدلائل عند إنشاء العقد على نيته، فتكون حينئذ سبباً في فساد العقد وبطلانه.
    الثاني: النظر إلى النتائج والمآلات المجردة من غير نظر إلى البواعث والنيات، لأن الإنسان بحسب نيته يثاب أو يعاقب عند الله تعالى، وبحسب النتيجة والثمرة يحكم على العمل في الدنيا بالحسن أو القبح، فيطلب أو يمنع، لأن الدنيا تقوم على مصالح العباد وإقامة العدل بينهم، وقد يستوجب ذلك النظر إلى النتيجة وحدها دون النية الطيبة والقصد الحسن، فمن سب الأوثان غيرةً لله تعالى، فقد احتسب نيته عند الله، لكنه أثار حنق المشركين لسب الله تعالى عدواً بغير علم، لهذا نهى الله سبحانه عن سب أرباب المشركين أمامهم، وإن كان فاعله حسن النية.
    ويتأيد العمل بالذرائع بشواهد من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
    فقد سبق ذكر النهي عن سب آلهة المشركين في قول الله تبارك وتعالى: )ولا تَسُبُّوا الذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا الله عَدوَاً بِغَيرِ عِلمٍ( (الأنعام108) ولما نهى الله تعالى آدم عليه السلام[ر]، عن الأكل من الشجرة عبّر عن ذلك بالنهي عن الاقتراب، لأن القرب مقدمة للأكل، فقال الله تعالى:)ولا تَقرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين((البقرة35). ومنع المؤمنين أن يقولوا في خطابهم للرسولr: (راعِنا) على جهة الرغبة من المراعاة، لئلا يكون قولهم ذريعة لليهود يشتمون بها النبيr حين يقصدون به فاعلاً من الرعونة، فقال الله تعالى: )يَا أَيُّها الَّذِينَ آمنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وقُولُواْ انظُرنَا واسمَعُوا ولِلكَافِرينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (البقرة104).
    وفي السنة: منع النبيr شهادة الخصم والمتهّم، لئلا تدفعه العداوة أو المحبة إلى الجور، فقال صلى الله عليه وسلم: «لاتجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حداً ولا مجلودة، ولا ذي غِمْر(عداوة) لإحنةٍ (غضب) ولا مجرب شهادة (مجرب في الكذب) ولا القانع (التابع) أهل البيت لهم ولا ظنين (متهم) في ولاء ولا قرابة». ومنع أيضاً هدية المدين لدائنه، لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى سلف جر نفعاً عن طريق الهدية المستحبة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى إليه، أو حمله على الدابة فلا يركبها، ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك».
    ومنع كذلك القاضي والوالي ومن في حكمهما من قبول هدايا الرعية، لأنها ذرائع للظلم والجور، فعن أبي حميد رضي الله عنه قال: استعمل النبيr رجلاً من الأُسد يقال له ابن اللُّتْبِيَّة على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فقام رسول اللهr على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ما بال العامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه، حتى ينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفسي بيده، لا ينال أحد منكم شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء أو بقرة لها خُوار أو شاة تيْعر(تصيح)، ثم رفع يديه حتى رأينا عَفْرتي إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت مرتين».
    ومنع الميراث عمن قتل مورّثه كيلا يتخذ القتل ذريعة إلى استعجال الوارث للميراث، فقال صلى الله عليه وسلم: «القاتل لا يرث».
    واتفق الصحابة رضوان الله عليهم على جمع القرآن بعد تردد، لأنهم وجدوا في ترك الجمع والتأسي برسول اللهr ذريعة إلى ضياع شيء من القرآن الكريم وإلى الاختلاف فيه، وهو أصل الشريعة وأحكامها، كما كرهوا كتابة السنة مع أنها بيان للكتاب الكريم، حتى لا تختلط بنصوص القرآن الكريم في عصر كان احتمال الاختلاط والتداخل بينهما قائماً.
    كما اتفقوا بعد خلاف على منع توزيع الأراضي المفتوحة على الجند الفاتحين حتى لا يكون اختصاصهم بملكيتها ذريعة لاستغراقهم بها وقعودهم عن الجهاد في سبيل الله، ومنع عامة المسلمين من الانتفاع بها.
    أما المذاهب الفقهية، فنجد المذهب المالكي قد سبق المذاهب كلها في كثرة الاعتماد على أصل سد الذرائع، لأنه من أوسع المذاهب اعتماداً على رعاية المصالح المرسلة، واعتبارها أصلاً مستقلاً من أصول التشريع، وسد الذرائع لا يخرج في الجملة عن العمل بالمصلحة، وقد بالغ بعض الفقهاء، فاعتبر العمل بسد الذرائع من خصوصيات مذهب الإمام مالك رحمه الله، والحق أنهم ليسوا وحدهم في العمل به، ولكنهم بالغوا في الأخذ به، ومن شواهد مبالغاتهم في هذا المجال: أنهم كرهوا صيام ست من شوال، كما كرهوا قراءة سورة السجدة في فجر الجمعة مع ثبوتها في السنة الصحيحة، والمحذور الذي ذكروه سبباً للمنع وهو اعتقاد العامة أن رمضان ست وثلاثون يوماً وفجر الجمعة ثلاث ركعات بدلاً من ركعتين: يرتفع بالبيان والتعليم وترك هذه السنة في بعض الأحيان.
    وقد وافق الحنابلة المالكية في اعتمادهم على هذا الأصل في كثير من الاستنباطات والأحكام الفقهية، ولكنهم لم يبلغوا درجتهم في ذلك، ولم يصلوا إلى حد المبالغة، ولا غرابة أن يتجه فقه الحنابلة إلى اعتبار سد الذرائع أصلاً وإلى الاعتماد عليه دليلاً في ميدان التطبيق، لأنه فقه أثري كثير الاعتماد على فقه الصحابة ورواياتهم فضلاً عن الكتاب والسنة، ولهذا تعددت الروايات في المسألة الواحدة عندهم.
    والحنفية وإن لم يعدوا سد الذرائع ضمن أصولهم، لكنهم أقروه في الجملة لما عملوا بالاستحسان، وولجوا من خلاله للعمل بالمصلحة التي تعتبر المستند الأصلي لكل من الاستحسان وسد الذرائع، ولهذا اتفقوا في كثير من الفروع مع المالكية والحنابلة في منع بعض صور بيوع الآجال، فنصوا على أن من اشترى سلعة بألف حالَّة أو نسيئة فقبضها، لم يجز له أن يبيعها ممن اشترى منه بخمسمئة قبل أن ينقد الثمن الأول كله أو بعضه، لأن من الشروط المعتبرة في صحة العقود عندهم الخلو عن شبهة الربا، بناء على أن الشبهة ملحقة عندهم بالحقيقة في باب المحرمات احتياطاً.
    أما الشافعية فإنهم لم يذكروه ضمن أصولهم، بل أعلنوا رده وإنكاره من حيث التأصيل، وقد عملوا بمقتضاه فيما نص عليه وعند التطبيق، ومن ذلك قولهم: إن المعذورين في ترك الجمعة كالمرضى والمسافرين يصلّون الظهر مكانها جماعة أو فرادى، فإذا صلوها جماعة استحب لهم أن يخفوها سداً لذريعة التهمة في تركهم لصلاة الجمعة، يقول الإمام النووي رحمه الله: «قال الشافعي: استحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا في الدين، وينسبوا إلى ترك الجمعة تهاوناً». قال جمهور العلماء: «هذا إذا كان عذرهم خفياً، فإن كان ظاهراً لم يستحب لهم الإخفاء، لأنهم لا يتهمون حينئذ، ومنهم من قال: يستحب الإخفاء مطلقاً عملاً بظاهر نصه، لأنه قد لا يفطن للعذر الظاهر».
    محمد هشام برهاني
يعمل...
X