كفانا من دراما العنف والقضايا المفبركة
الدراما في بعض الأعمال العربية تحولت إلى تكرار جاف للواقع أو محاولة خلق واقع بديل رهانه الدستوبيا وعالم القاع المليء بالجريمة أو اليوتوبيا.
التصور السطحي يخلق دراما مبتذلة
صرح أخيرا صاحب قناة تونسية خاصة بأن الأعمال الدرامية التي ينتجونها تندرج في باب الترفيه والتسلية، وفي هذا محاولة للتهرب من التقييم الفني للأعمال المعروضة، على اعتبار أن الترفيه والتسلية لا يخضعان لمعيار الجودة والجدّة الفنيين.
وإمعانا في هذا التصور قال إن الترفيه هو أن تبكي المشاهد وتضحكه، وهذه في الحقيقة مقاربة لها ما يبررها، لكنها قاصرة عن الإلمام بالعملية الإنتاجية المتداخلة، ومجرد ترديد سطحي.
رغم التعارض الذي قد يبدو بين ثيمتي الترفيه والفن فإنه في الحقيقة لا تعارض بينهما، وإن كان الفن يتجاوز الترفيه في جوانب كثيرة منه، كالتحريض والنقد والثورة وغيرها، فإنه لا يتناقض في جوانب كثيرة منه مع الترفيه الذي يمكننا أن نقرن بينه وبين الكاتارسيس أو التطهير الأرسطي.
◙ الترفيه من أولويات الفن ولا تعارض بينهما، والدراما باعتبارها فنا شعبيا ورسالة مؤثرة ليس من وظيفتها تكرار الواقع ولا تشويهه
لا يتوقف الترفيه عند الكوميديا والضحك لتحقيق المتعة، بل حتى انفعالات الحزن والخوف والترقب والتشوّق والألم كلها تدخل في باب الترفيه، ولو من باب التطهير، حيث ينخرط المتلقي في اللعبة الدرامية، فتكون لحظات ذروتها المشحونة أو حتى الحزينة والقاسية فرصة له لتظهير مشاعره المكبوتة، والانفعال وفقا للحالة المقدمة أمامه.
لكن بلوغ هذا الترفيه إذن عملية فنية صعبة، وليس مجرد محاكاة سطحية للواقع، بل هي محاكاة واعية لعمق الواقع وإعادة تصوره بأساليب ورؤى فنية فكرية وجمالية، ما يسمح للعمل الدرامي بأن يكون تصورا للواقع لا تكرارا له.
يقول أرسطو “إن الدراما تكشف عن حقيقة من حقائق الحياة تتسم بأنها أعم وأعمق من السيرة التي تسرد حياة يوم بيوم”، وهذا من بديهيات العمل الدرامي التي لا يمكن تجاوزها في تقديم عمل ناجح.
لكن تحولت الدراما كما شاهدنا في بعض الأعمال التونسية أو حتى العربية في السنوات الأخيرة، إلى تكرار جاف للواقع أو محاولة خلق واقع بديل رهانه الدستوبيا وعالم القاع المليء بالجريمة أو اليوتوبيا التي يقودها ممثلون جميلو الشكل وتقدم مجتمعا خياليا من رجال الأعمال وعالم المال والعائلات النافذة.
لا تعارض بين الفني والترفيهي، بل لا ترفيه من دون فن، لذا فالعمل الدرامي في نهاية المطاف هو عمل فني بالضرورة، يخضع للتقييم الفني الصورة والنص والأداء التمثيلي والحبكة والحبكات الثانوية والموسيقى التصويرية والرؤية الإخراجية وغيرها من عناصر إنتاج عمل متكامل.
◙ العمل الدرامي هو عمل فني بالضرورة، يخضع للتقييم الفني الصورة والنص والأداء التمثيلي والحبكة
الادعاء بأن الترفيه إبكاء وإضحاك بتلك السطحية يبرز فقرا خطيرا في تصور منتج درامي، البكاء والضحك ليسا فعلين معلقين في الهواء، ليسا بالسهولة التي يتصورها البعض، إنهما قطبا التفاعل في ذات الفرد كمتلقّ، لكن ما بينهما العقل، العقل الذي لا يمكنه أن يقبل قصة مفككة وركيكة وبلا تصور ليتفاعل معها، كما هو حال العمل المفكك “براءة”، وهو مسلسل حاول تناول قضية الزواج العرفي وهيمنة صاحب المال على غيره من المستضعفين وتكريسه لما هو ضد القانون وما هو مرفوض اجتماعيا بسلطة ماله، عمل حاول أن تكون شخصياته متناقضة في داخلها لكن في أي مسار درامي كان ذلك؟
واجه المسلسل انتقادات كثيرة لأسباب أخلاقية واجتماعية، ولكن الأهم هو الفني الذي فشل في تحقيقه لا من خلال القصة ولا أداء الممثلين ولا التصور الإخراجي، عمل للنسيان للكثير من الأسماء الهامة التي شاركت فيه على غرار ريم الرياحي وفتحي الهداوي وفتحي المسلماني وغيرهم.
إن الانحصار في التقييم الأخلاقي الضيق لأي عمل درامي لا يمكن اعتباره نقدا، لكن نقاش القيم التي يقدمها العمل في المعنى الواسع للأخلاق، هو جوهر العملية النقدية، إذ لا يكفي أن يقدم أحدهم قصة ما بتصور جمالي ما، ويتنصل من النقاش حول مسعاه.
◙ رغم التعارض الذي قد يبدو بين ثيمتي الترفيه والفن فإنه في الحقيقة لا تعارض بينهما، وإن كان الفن يتجاوز الترفيه في جوانب كثيرة منه
الفن قم القيم، والدراما أكثر الفنون شعبية، لذا تتكرس قوة ناعمة يمكنها التأثير في عمق المجتمع من خلال دخولها إلى المنازل والعائلات، لذا من الخطير تركها بلا تصور قيمي، وهو ما سقطت فيه الكثير من الأعمال التونسية بتمرير صور سلبية للغاية خاصة للشرائح الاجتماعية الناشئة، سواء في صورة المرأة أو العنف أو عوالم الجريمة، وأغلبها صور مغلوطة، اجتزاء يتم تعميمه.
ثم إن الدراما باعتبارها فنا ليس من وظيفتها تكرار الواقع، إذ يقول الناقد الفني الإنجليزي كلايف بل “إن قيمة الصنف الرفيع من الفن لا تتمثل في قدرته على أن يصبح جزءا من الحياة العادية، بل في قدرته على أن يخرج بنا منها”.
من هنا انتبهت الكثير من البلدان إلى أهمية الدراما فكرستها خدمة لرسالة سامية، مثلما فعلت الدولة المصرية بإنتاجها أعمالا درامية ضد الإرهاب وتوحد الشعب المصري ضد التطرف والعنف والتيارات المتشددة، وقد لاقت نجاحا كبيرا في تحقيق رسالتها من خلال تكامل عناصر الإنتاج والمستوى الفني العالي.
كفانا من دراما المجرمين والبلطجية والظواهر الشاذة والقضايا المفبركة التي تحدث جدلا في وقتها وتنطفئ، وحتى من باب الترفيه فهي لا ترقى إليه، بل هي وسائل خطيرة تفسد عقول الناشئة، وتقدم صورة مغلوطة للمجتمع عن نفسه.
من ناحية أخرى يمكن للدراما أن تبتعد عن الواقعية أيضا، وتذهب إلى الفانتازيا والخيال العلمي، وإن كان ذلك يتطلب ميزانيات لا تتوفر عندنا، يمكنها التنويع في موادها وقصصها، يكفي فقط أن ينفتح منتجوها على ما يقدمه الأدب.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي
الدراما في بعض الأعمال العربية تحولت إلى تكرار جاف للواقع أو محاولة خلق واقع بديل رهانه الدستوبيا وعالم القاع المليء بالجريمة أو اليوتوبيا.
التصور السطحي يخلق دراما مبتذلة
صرح أخيرا صاحب قناة تونسية خاصة بأن الأعمال الدرامية التي ينتجونها تندرج في باب الترفيه والتسلية، وفي هذا محاولة للتهرب من التقييم الفني للأعمال المعروضة، على اعتبار أن الترفيه والتسلية لا يخضعان لمعيار الجودة والجدّة الفنيين.
وإمعانا في هذا التصور قال إن الترفيه هو أن تبكي المشاهد وتضحكه، وهذه في الحقيقة مقاربة لها ما يبررها، لكنها قاصرة عن الإلمام بالعملية الإنتاجية المتداخلة، ومجرد ترديد سطحي.
رغم التعارض الذي قد يبدو بين ثيمتي الترفيه والفن فإنه في الحقيقة لا تعارض بينهما، وإن كان الفن يتجاوز الترفيه في جوانب كثيرة منه، كالتحريض والنقد والثورة وغيرها، فإنه لا يتناقض في جوانب كثيرة منه مع الترفيه الذي يمكننا أن نقرن بينه وبين الكاتارسيس أو التطهير الأرسطي.
◙ الترفيه من أولويات الفن ولا تعارض بينهما، والدراما باعتبارها فنا شعبيا ورسالة مؤثرة ليس من وظيفتها تكرار الواقع ولا تشويهه
لا يتوقف الترفيه عند الكوميديا والضحك لتحقيق المتعة، بل حتى انفعالات الحزن والخوف والترقب والتشوّق والألم كلها تدخل في باب الترفيه، ولو من باب التطهير، حيث ينخرط المتلقي في اللعبة الدرامية، فتكون لحظات ذروتها المشحونة أو حتى الحزينة والقاسية فرصة له لتظهير مشاعره المكبوتة، والانفعال وفقا للحالة المقدمة أمامه.
لكن بلوغ هذا الترفيه إذن عملية فنية صعبة، وليس مجرد محاكاة سطحية للواقع، بل هي محاكاة واعية لعمق الواقع وإعادة تصوره بأساليب ورؤى فنية فكرية وجمالية، ما يسمح للعمل الدرامي بأن يكون تصورا للواقع لا تكرارا له.
يقول أرسطو “إن الدراما تكشف عن حقيقة من حقائق الحياة تتسم بأنها أعم وأعمق من السيرة التي تسرد حياة يوم بيوم”، وهذا من بديهيات العمل الدرامي التي لا يمكن تجاوزها في تقديم عمل ناجح.
لكن تحولت الدراما كما شاهدنا في بعض الأعمال التونسية أو حتى العربية في السنوات الأخيرة، إلى تكرار جاف للواقع أو محاولة خلق واقع بديل رهانه الدستوبيا وعالم القاع المليء بالجريمة أو اليوتوبيا التي يقودها ممثلون جميلو الشكل وتقدم مجتمعا خياليا من رجال الأعمال وعالم المال والعائلات النافذة.
لا تعارض بين الفني والترفيهي، بل لا ترفيه من دون فن، لذا فالعمل الدرامي في نهاية المطاف هو عمل فني بالضرورة، يخضع للتقييم الفني الصورة والنص والأداء التمثيلي والحبكة والحبكات الثانوية والموسيقى التصويرية والرؤية الإخراجية وغيرها من عناصر إنتاج عمل متكامل.
◙ العمل الدرامي هو عمل فني بالضرورة، يخضع للتقييم الفني الصورة والنص والأداء التمثيلي والحبكة
الادعاء بأن الترفيه إبكاء وإضحاك بتلك السطحية يبرز فقرا خطيرا في تصور منتج درامي، البكاء والضحك ليسا فعلين معلقين في الهواء، ليسا بالسهولة التي يتصورها البعض، إنهما قطبا التفاعل في ذات الفرد كمتلقّ، لكن ما بينهما العقل، العقل الذي لا يمكنه أن يقبل قصة مفككة وركيكة وبلا تصور ليتفاعل معها، كما هو حال العمل المفكك “براءة”، وهو مسلسل حاول تناول قضية الزواج العرفي وهيمنة صاحب المال على غيره من المستضعفين وتكريسه لما هو ضد القانون وما هو مرفوض اجتماعيا بسلطة ماله، عمل حاول أن تكون شخصياته متناقضة في داخلها لكن في أي مسار درامي كان ذلك؟
واجه المسلسل انتقادات كثيرة لأسباب أخلاقية واجتماعية، ولكن الأهم هو الفني الذي فشل في تحقيقه لا من خلال القصة ولا أداء الممثلين ولا التصور الإخراجي، عمل للنسيان للكثير من الأسماء الهامة التي شاركت فيه على غرار ريم الرياحي وفتحي الهداوي وفتحي المسلماني وغيرهم.
إن الانحصار في التقييم الأخلاقي الضيق لأي عمل درامي لا يمكن اعتباره نقدا، لكن نقاش القيم التي يقدمها العمل في المعنى الواسع للأخلاق، هو جوهر العملية النقدية، إذ لا يكفي أن يقدم أحدهم قصة ما بتصور جمالي ما، ويتنصل من النقاش حول مسعاه.
◙ رغم التعارض الذي قد يبدو بين ثيمتي الترفيه والفن فإنه في الحقيقة لا تعارض بينهما، وإن كان الفن يتجاوز الترفيه في جوانب كثيرة منه
الفن قم القيم، والدراما أكثر الفنون شعبية، لذا تتكرس قوة ناعمة يمكنها التأثير في عمق المجتمع من خلال دخولها إلى المنازل والعائلات، لذا من الخطير تركها بلا تصور قيمي، وهو ما سقطت فيه الكثير من الأعمال التونسية بتمرير صور سلبية للغاية خاصة للشرائح الاجتماعية الناشئة، سواء في صورة المرأة أو العنف أو عوالم الجريمة، وأغلبها صور مغلوطة، اجتزاء يتم تعميمه.
ثم إن الدراما باعتبارها فنا ليس من وظيفتها تكرار الواقع، إذ يقول الناقد الفني الإنجليزي كلايف بل “إن قيمة الصنف الرفيع من الفن لا تتمثل في قدرته على أن يصبح جزءا من الحياة العادية، بل في قدرته على أن يخرج بنا منها”.
من هنا انتبهت الكثير من البلدان إلى أهمية الدراما فكرستها خدمة لرسالة سامية، مثلما فعلت الدولة المصرية بإنتاجها أعمالا درامية ضد الإرهاب وتوحد الشعب المصري ضد التطرف والعنف والتيارات المتشددة، وقد لاقت نجاحا كبيرا في تحقيق رسالتها من خلال تكامل عناصر الإنتاج والمستوى الفني العالي.
كفانا من دراما المجرمين والبلطجية والظواهر الشاذة والقضايا المفبركة التي تحدث جدلا في وقتها وتنطفئ، وحتى من باب الترفيه فهي لا ترقى إليه، بل هي وسائل خطيرة تفسد عقول الناشئة، وتقدم صورة مغلوطة للمجتمع عن نفسه.
من ناحية أخرى يمكن للدراما أن تبتعد عن الواقعية أيضا، وتذهب إلى الفانتازيا والخيال العلمي، وإن كان ذلك يتطلب ميزانيات لا تتوفر عندنا، يمكنها التنويع في موادها وقصصها، يكفي فقط أن ينفتح منتجوها على ما يقدمه الأدب.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي