صورة جديدة للمرأة التي تكافح لتحقيق وجودها
مسلسل "فاتن أمل حربي" رحلة البحث عن الذات في أضابير القوانين والأنساق المتخلفة.
تونا تخوض معركتها إلى النهاية
مع كل النضالات التي خاضتها المرأة تحققت لها تحولات هامة دفعت بها إلى مكانة مرموقة جعلتها ندا للرجل، بل وتشاكسه وتدافع عن حريتها وإرادتها، إلا أنها في سبيل هذا عانت كثيرا، ولعل هذه المعاناة أكثر ثقلا ووطأة في المجتمعات العربية التي لا تزال النساء فيها يعانين من ظواهر قروسطية.
يذكر جيل يبوفيتسكي في كتابه “المرأة الثالثة: ديمومة الأنثوي وثورته”، ترجمة دينا مندور (المجلس القومي للترجمة، 2012) أن النقلة الكبرى في وضع المرأة الثالثة (التي هي وليدة العقود الثلاثة الأخيرة في القرن العشرين، والتي عملت فيها بكثافة خارج البيت، وحصلت على أرفع الدرجات أسوة بالرجل) هي تحكمها بذاتها وتحقق شخصيتها دون تدخل الرجل في قرارتها الشخصية، وقد انتقلت من المرحلة القروسطية (المرأة الأولى، التي وصفها الرجل فيها بالدونية، وتستحق اللعنة)، والرومانس النهضوي (التي أشاد بها، وتغنى بمفاتنها) فصارت تشارك في السلطة ومجالس الإدارة، وتسهم في تطوير الاقتصاد، وتتعامل مع الرجل بـ”ندية”، فاستطاعت بذلك المرأة أن تسقط الحواجز التي حالت دون أن تحقق ذاتها.
دخول المراة إلى سوق العمل لا لضرورة اجتماعية ملحة كما هو الآن، ثم كان لنتيجة سيطرة الشركات الكبرى، وهيمنة رأس المال، الدور الأكبر في أن ترتد المرأة، كما تقول الدكتورة هبة شريف في كتاب “ن. النسوية”، لتصبح سلعة في يد الرأسمالية، وتخلت عن المكتسبات التي دافع عنها الجيل الأول من النسويات بالتحرر من هوس الجسد، إلى الخضوع بكامل إرادتها للهوس بالجسد الجميل والإغواء، والركض من أجل تحقيق مقاييس الجمال المفروضة من السوق ومن صانعي الموضة، وهو ما أفضى إلى حبس المرأة في مجرد جسد جميل للمتعة.
أريد حلا
دراما تنتمي إلى نوعية الأعمال الاجتماعية التي تشتبك مع الواقع وتناقش العديد من المشكلات الاجتماعية
تاريخ مطالبات المرأة بحقوقها في واقعنا العربي طويل وممتد، يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وتحديدا بعد موجة الاتصال بالغرب عن طريق الاستعمار الذي دعا إلى ضرورة تعليم المرأة، كما فعل اللورد كرومر في تناقض لموقفه الأصلي من رفض عمل المرأة. ومع حركات البعثات إلى الغرب، ثم موجات التحرر والاستقلال التي شهدتها المنطقة العربية أخذت المطالبات شكلا أوسع، وقد ساهم الكثير من الرجال في دعم المرأة والدفاع عن قضاياها، كالحق في التعليم والعمل، والحجاب وتقييد الطلاق على نحو ما دعا مرقص فهمي في كتابه “المرأة في الشرق” (1894)، ثم بعد خمس سنوات جاءت دعوة قاسم أمين في كتابيه “تحرير المرأة (1899)، و”المرأة الجديدة” (1900)، وغيرها من كتابات ناصرت قضية المرأة، لكن ثمة قضايا خاضت فيها المرأة معركتها بمفردها، ومن أهمها حق المرأة في تحرر ذاتها من البطريركية، وممارستها الفجة التي استغلت عقد الزواج ليكون قيدا تحاصر به المرأة، على نحو ما عبّرت صفية زغلول وهدى شعراوي وسيزا نبراوي ونبوية موسي، وأخريات سرن في نفس الدرب دفاعا عن حقوق المرأة.
الثورة ضد المظالم الواقعة على المرأة، وحرمانها من حقها في الطلاق أخذت شكلا جديدا مع عام 1975، عبر الصرخة المدوية التي أطلقتها السيدة فاتن حمامة في نهاية فيلم “أريد حلا”، عن قصة حسن شاه وإخراج سعيد مرزوق ومن بطولة رشدي أباظة وفاتن حمامة. كانت الصرخة إعلانا عن ضيق الصدور بهذه الممارسات الفجة والألاعيب الممجوجة التي مورست دون أن تحظى البطلة/ المرأة بالطلاق، فكانت الصرخة بمثابة لفت الانتباه إلى أزمة المرأة المحاصرة بزوج يمارس استبداديته، ويستغل حقه الشرعي في باطل، وهي تسعى للانفلات من زواج فاشل.
دارت أحداث الفيلم حول (درية – فاتن حمامة)، التي ارتبطت بالدبلوماسي (مدحت - رشدي أباظة)، وقد استحالت العشرة بينهما، فطلبت الطلاق، إلا أن طلبها قوبل بالرفض والتعنت، وكعاقب لها على هذا الحق بدأت البطلة رحلة معاناة وإذلال، كتمثيل لكافة النساء المطالبات بالطلاق، رغبة في الحصول عليه عبر المحكمة الشرعية، لكن الزوج كان يستميت في عدم تحقيق رغبتها، بل أحضر الشهود الزور، لتتعقد الأمور أكثر وأكثر.
كان الفيلم بمثابة إزاحة الستار عما تعانيه المرأة من جراء تشدد البعض في رفض الطلاق، وفي إجراءات التقاضي البيروقراطية، التي تنهك المرأة وتُعتبر عقابا جديدا على مطالبتها بحقها في التحرر. النتيحة الإيجابية لهذه الصرخة المدوية التي تنطوي على عجز وحيرة للمرأة، أنها كانت بمثابة دق ناقوس الخطر لما تعانيه المرأة من جراء هذه الإجراءات التي يتخذها الزوج ذريعة في إنهاك الزوجة لمجرد أنها طالبت بحقها في رفض الحياة، وحقها في بدء حياة جديدة مع من ترتضيه، ومن ثم استجابت الدولة بعد فترة وأصدرت “قانون الخلع” الذي يعطي للمرأة حق تطليق نفسها بنفسها، ولكن بشرط أن تتنازل للزوج على كل مستحقاته.
على الرغم من أن وضعية المرأة مرت بتحولات كثيرة، وحقق قانون الخلع للكثير من النساء مرادهن بالخروج الآمن من حياة مرهقة نفسيا وبدنيا، إلا أن الإحصائيات تقول إن معدلات نسبة الطلاق في مصر عالية جدا، فهناك حوالي 1.5 مليون قضية محكمة أسرة سنويا، وفي عام 2020 وصلت عقود الزواج إلى 800 ألف عقد، في مقابل 222 ألف عقد طلاق، ويصل عدد القضايا التي ينظر فيها قاضي الأحوال الشخصية يوميا إلى 700 قضية.
أزمة المرأة المطلقة بنظرة واقعية
من المفترض أن تنامي مثل هذه الأرقام يدق ناقوس الخطر، لمعرفة أسباب الأزمة التي عدها البعض اقتصادية في المقام الأول، وإن كانت في أحد جوانبها تشير بطرف خفي إلى أن ثمة أزمة مجتمعية تتصل بالأخلاقيات وبالقوانين التي تحكم العلاقة بين الزوجين، وما يدعو إلى الغرابة والدهشة في نفس الوقت حسب خبراء أن القوانين المنظمة لهذه العلاقة المهمة، تتجاوزالـ 100 عام، حيث تمتد إلى زمن الملك فؤاد، ولئن شملتها بعض التعديلات في أعوام (1926، 1989، 2000) فإن القوانين مع الأسف لا تزال هي نفسها منذ 100 عام، وهو ما تترتب عليه أمور مفجعة في المحاكم.
في ضوء المعاناة التي تعانيها المرأة المعيلة بسبب القوانين الوضعية المكبلة التي زادت من بؤس وضعية المرأة، وجعلتها تدور في دائرة البحث عن الذات، والرغبة في الاستقلال، جاء مسلسل “فاتن أمل حربي” للكاتب الصحافي إبراهيم عيسى في أولى تجاربه الدرامية، ومن إخراج محمد العدل، بطولة نخبة من الممثلين، نيللي كريم في دور فاتن أمل حربي (الزوجة)، وشريف سلامة في دور سيف الزوج المعنف، الذي يمارس البلطجة والعنف والابتزاز على زوجته وأم طفلتيه في محاولة لإرغامها على العودة إليه من جديد. ويشارك في البطولة خالد سرحان وهالة صدقي، وفادية عبدالغني، ومحمد ثروت، وآخرين.
ينتمى المسلسل إلى نوعية الأعمال الدرامية الاجتماعية التي تنشغل وتشتبك مع الواقع، وتناقش العديد من المشكلات الاجتماعية، التي تمس الأسرة المصرية، ومن هذه القضايا الشائكة التي يتعرض لها المسلسل قضية الطلاق وتبعاتها التي تكون بمثابة الزلزال الذي يهدد استقرار الأسرة وسلامها الاجتماعي، وتأثيرها السلبي الفادح على الأطفال، باعتبارهم حلقة الوصل بين الطرفين، وهو ما نرى آثاره في رغبة الابنة في الانفصال عن أبيها وإلصاق اسمها بأمها، فكتبت في ورقة الامتحان اسمها هكذا “نادين فاتن أمل حربي”.
وفي نفس الوقت يكونون نقطة الضعف التي يستغلها الأب في لي ذراع الزوجة، والضغط عليها من أجل التنازل عن الكثير من حقوقها المسلوبة تارة بسبب القوانين التي تنحاز للرجل، وتارة بسبب ألاعيب المحامين، الذين يجيدون تكدير الزوجة حتى تيأس عن المطالبة بحقوقها.
المسلسل يعود إلى ذات النقطة التي انتهى منها فيلم “أريد حلا” بطولة فاتن حمامة، فيكشف عن كم الإحباطات التي تعانيها أو تعيشها الزوجة المعيلة من أجل الحفاظ على حضانة أبنائها (أو ما يعرف بحق الولاية التعليمية) في حالة الزواج مرة ثانية.
نساء الطبقة المتوسطة
مرأة ثورية تبحث عن حقوقها الشرعية والمدنية
يأتي المسلسل ليكسر النمطية والاستهلاكية التي سادت في الدارما التي صارت أشبه بالدراما الكارتونية البعيدة عن الواقع الذي يعج بالمشكلات الحية، فابتعد صناع المسلسل عن دراما الكمبوند ودراما رجال الأعمال أو البلطجة أو كذلك رحلات الكفاح العصامية الوهمية، وسلطوا الضوء على أزمة المرأة المطلقة بنظرة واقعية بعيدة عن الفنتازيا التي تعاملت معها مسلسلات أخرى.
وكان آخر الأعمال التي تناولت القضية مسلسل “البحث عن عُلا” الذي لعبت بطولته هند صبري، وسوسن بدر، وعرض على منصة شاهد نت، فالطلاق الذي حصلت عليه عُلا عبدالصبور كان رفاهية، ورحلة صعود للمرأة وتحررها من الأعباء الكثيرة التي كان الزواج مقيدا لها، على نحو ما عبّرت سميرة سعيدة في أغنية محصلش حاجة “وأديني سيبته وشوفت اهو محصلش حاجة / والوضع فعلا مختلفش في أي حاجة / باكل واضحك بشتغل وأعمل كل حاجة /لأ لأ مش زعلانة وكئيبة”.
على عكس هذا تماما جاء مسلسل “فاتن أمل حربي” لينزل إلى واقعية القاع، ويستعرض لحالات من الطبقات المتوسطة التي يعتبر فيها الطلاق أشبه برحلة عذاب وامتهان لآدمية المرأة، وفي المقابل تعرية للذكورية التي تفتقد لأي معنى للرجولة على نحو ما بدا زوج فاتن. ثمة سرديات كثيرة يمررها صناع المسلسل، وإن كانت تنحاز إلى أيديولوجيا المؤلف الإشكالي، الذي يتخذ هذه السردية الحكائية ليمرر الكثير من رؤاه وأفكاره في الكثير من القضايا الإشكالية، التي يطرحها في سياق درامي، بعيدا عن الخطاب الوعظي أو ما يمكن وصفه بخطاب إثارة الوعي الذي ينتهجه في برنامجه التلفزيوني، وهو ما كان ولا يزال يعرضه للكثير من الانتقادات.
المسلسل يكسر النمطية والاستهلاكية التي سادت في الدارما وجعلتها دراما كارتونية بعيدة عن الواقع
يستعرض المسلسل عبر رحلة امتهان فاتن أمل حربي، ومحاولتها العثور على غرفة تضمها مع بنتيها، بعدما استولى زوجها على الشقة وطردها منها، قضايا إشكالية مسكوتا عنها، مثل رفض الفنادق إقامة المرأة فيها بمفردها، وهو القانون الشفهي الذي لا توجد صيغة مكتوبة منه، إلا أنه يُطبق عرفيا، على الرغم من نفي وزارة السياحة أنه لا يوجد قانون أو لائحة تمنع إقامة السيدات بمفردهن في الفنادق المصرية، وأن أي فندق يمنع إقامة أي سيدة فهو تصرف غير مسؤول، وأكدت أيضا أن الفنادق المصرية ترحب بكافة النزلاء من الرجال والسيدات سواء من المصريين أو الأشقاء العرب أو الأجانب.
ثمة تفصيلة أشار إليها المسلسل تتعلق بأن “فاتن” لا عائلة لها تدافع عنها أو تقف خلفها، على عكس سيف الدندراوي الذي تقف خلفه عائلة، ذهبت إليها فاتن للشكوى، قد تكون التفصيلة قليلة الأهمية في تنامي الأحداث وتصاعدها، لكن لا يعني وجود عائلة لفاتن أن الأمر سيختلف، فالاختلاف الوحيد يتمثل في عودتها إليها بأطفال بعد الاستيلاء على الشقة، ما عدا ذلك، فكل المشكلات المترتبة على الطلاق سوف تتحملها وحدها بلا شريك، اللهم مساندات الأصدقاء الذين لا يقلون عنها تأزما كما في حالة ميسون التي يهرب الزوج، ويترك لها مسؤولية البحث عنه وعن أسباب الاختفاء هاجسا يؤرق الزوجة المكلومة، وهذا الهروب يعد نوعا آخر من القهر الذي تمارسه الذكورية على شريكها.
وهناك قضية الحجاب، حيث تبدأ الحلقة بصراع الأب (سيف) والأم (فاتن) حول رغبته في تحجيب بنتيهما، ويقدم مبرره، خشية الفتنة ومنعا للتحرش في المجتمع، وإن كان الحوار ينتهي إلى رفض الزوجة لما يريده الأب، ودعوته إلى أن يحجب أمه أولا، وهو ما يثير غضبه.
من الإيجابيات التي يقدمها المسلسل، صورة المرأة، فالمرأة الممثلة في شخصية تونا/ فاتن أمل حربي، على الرغم مما تعانيه من جراح مريرة أهمها الطلاق ودوامة المحاكم والقضايا التي وجدت نفسها فيها بلا سبب إلا لرغبتها في الاستقلال، إلا أنها ظهرت بصورة امرأة قوية، لم يهزمها الإرهاب الواقع عليها من طليقها، الذي وصل به الاستبداد والحقد إلى محاولة محوها بسلبها الشقة والأثاث الذي تحتويه، وكذلك بشل حركتها بالقضايا الكثيرة الملفقة، في محاولة منه لابتزازها وإرغامها على الرجوع إليه، إلا أن كل هذا لم يكسرها، بل نراها تحارب في أكثر من جبهة، تمارس عملها، وتواظب على أداء التمرينات لبنتيها، وتتدخل في كل كبيرة وصغيرة في تدريباتهما، كما إنها تقدم دعما معنويا لهما، والأهم أنها لا تسعى إلى تشويه صورة الأب أمام الطفلتين، بل ولا تمانع في تسهيل الرؤية له.
رحلة عذاب وامتهان لآدمية المرأة
نموذج تونا وإصرارها على خوض معركتها إلى النهاية، التي تتحدى فيها ليس فقط سلطة الزوج، بل القوانين المعوقة، وهو ما يعرضها للحبس من قبل القاضي (خالد سرحان) بسبب تجاوزها في حق هيئة المحكمة، فيأمر بحبسها 24 ساعة، ثم يتعاطف معها ويلغي قرار الحبس، هذا النموذج يقدم صورة جديدة للمرأة المطحونة وهي تكافح من أجل تحقيق وجودها / ذاتها، فلا تقف مكتوفة الأيدي، أو حتى تستسلم لواقعها، وتتحمل القهر والمعاناة، دون شكوى، كما دأبت الدراما تقديم صورة المرأة متوسطة الحال، كنقيض للمرأة الثورية التي تدافع عن حقها، وترفع شعارات “استرونج إندبندنت وومن”، وهي شعارات تستقي قوتها من دعم النسوية، والحركات النسائية لها، في تأكيد حق المرأة في النضال.
لكن نموذج تونا يكسر هذه الصورة النمطية، ويكشف عن صورة أخرى للمرأة، صورة تنأى بها عن الصورة السلبية والنمطية التي اختزلت المرأة/ المعيلة في صورة المرأة المهزومة مستلبة الإرادة التي تجتر أحزانها وآلامها، ودائما في موضع المفعول به، وإنما صورة على النقيض تماما لهذه المرأة/ المقهورة أو الفئة المهمشة من المجتمع، ليست أقل من صورة المرأة الثورية/ امرأة الطبقة الراقية، فالمرأة ابنة الطبقة المطحونة هي الأخرى لديها من الإرادة الحرة والقوة التي تجعلها تدافع عن نفسها، وعن حقوقها، بل وتستبسل على الرغم من قلة الحيلة على نحو ما تشير كلمات أغنية الشارة التي تغنيها المطربة أنغام، وتردد فيها (أنا مش ضعيفة/ ولي في الحياة مطرح، ومش قابلة أكون كومبارس على المسرح/ قراري من دماغي سيف/ أنا الإرادة/ وطايرة في الحياة بجناحين/ وعارفة طريقي سكته فين/ …إلخ).
كما يتعرض المسلسل لظواهر مجتمعية نشأت بسبب فساد الجهاز الإداري، فيستعرض للبناء والعشوائيات، فالشقة التي تدخرها فاتن لنفسها بعيدا عن زوجها، تفاجأ بأنها مبنية في العشوائيات فيزال جزء من الشقة، وإن كان أشار صناع المسلسل بطرف خفي إلى ما يجب على المرأة عمله، من ادخار شقة من عملها، تجنبا لأي ظروف تضطرها.
يجب علينا ألا نغفل الزمن الذي يدور فيه المسلسل، وهو العصر الراهن، وما انتابه من تحولات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن ثم يستوجب لهذه التحولات أن تحدث تأثيرات على النسيج المجتمعي، فيكفي أن الأزهر أشار إلى الكثير من الحقوق التي كانت مهضومة للمرأة من قبل، فأبانها مثل حق الكد والسعاية، وهو ما كان بمثابة الانتصار للمرأة العاملة بالمحافظة على أموالها في ميراث الزوج المتوفي، بأن يكون لها نصف التركة قبل أن تُقسم، وفي هذا تأكيد لحقوق الأسرة والمرأة والمحافظة على حقوق الورثة وفقا لشرع الله، دون جور أو حيف لمن كانت سندا ودعما للرجل في رحلة كفاحه.
تكشف معاناة البطلة عن الامتهان اليومي للمرأة في ظل غياب الرجل الذي لا يبدو دون دور حقيقي في أسرته
وفي تطور مهم تم الحديث عن تعدد الزوجات، وحسم شيخ الأزهر الجدل المثار، وقال إن من يعتقدون بأن الأصل في الزواج هو التعدد مخطئون، فالأصل كما أوضح فضيلته هو (فإنْ خفْتُمْ ألا تعْدلُوا فواحدة)، وأكد في ذات السياق أن التعدد يمثل ظلما فادحا للمرأة، وللأولاد. وهذا الفهم بهذه الصورة لما يخص المرأة ماديا ونفسيا (بالزواج الثاني) يعد تحولا كبير في مجال حقوق المرأة، وهو ما يؤكد أن المناخ العام يشهد انفتاحه وقوية في ما يتعلق بحقوق المرأة.
يؤكد المسلسل أهمية خروج المرأة إلى سوق العمل، ليس فقط لإثبات ذاتها، أو رغبة في التحرر الاقتصادي، وإنما كسند حقيقي لها في وقت المحن والشدة، فالأزمة التي حاقت بفاتن بعد طلاقها وطردها من الشقة وامتناع الزوج عن دفع النفقات، وجدت في وظيفتها وعائدها الشهري الدائم ملاذا حقيقيا ودعما قويا، وهو الأمر الذي كان يستغله الزوج من قبل في الاعتماد كليا على دخلها بحجة أن رزقه قليل، فساندته في شراء السيارة، وكانت تدعمه ماديا بالإنفاق على مصاريف البيت والطفلتين، أي أنها لم تكن تحمله عبئا ماديا، بل على العكس كانت تخفف عنه عبء الاحتياجات والمصاريف.
فالعمل للمرأة هو السند الحقيقي لها في ظل العراء الذي من الممكن أن تعيش فيه إذا حدث الطلاق ولم يكن لديها أي مصدر دخل، وهي المأساة التي تعيشها الآلاف من الأسر، والتي تسعى خلف المحاكم والقضايا من أجل الحصول على فتات النفقة.
يكشف المسلسل عبر علاقة الزوج/ سيف بالزوجة/ فاتن، أن المرأة العاملة معرضة للاستغلال من قبل الزوج، فهو دائما يتكل عليها في سد مصاريف البيت، بل هذه العلاقة الإشكالية تكشف عن مفارقة مذهلة، تصب في صالح الرجل، فعمل المرأة، الذي كان يرفضه الرجل، ويعتبره قرينا للرذيلة، هو نفسه ساهم في تقليص واجباته الزوجية في الإنفاق والمسؤولية، على الرغم من احتفاظه بكافة حقوقه وسيطرته داخل البيت.
فسماح الرجل للمرأة بالعمل خارج البيت، بمثابة المنحة أو الهبة التي يجب أن تقابلها إتاوة مالية وتنصل من الواجبات الأسرية المادية، فبدلا من أن تعود نتائج التحرر الاقتصادي إلى صالح المرأة، تصب مع الأسف بغير حق في صالح الزوج ماديا أكثر من الزوجة، في تأكيد لمقولة سيمون دي بوفوار “المرأة تعطي نفسها، أما الرجل فيزداد بها”، علاوة على منحه سعادة بأنه لم يعد المسؤول الوحيد عن إعالة الأسرة.
مأزق ضيق الوقت
النقطة الجوهرية التي سردتها حكاية/ مأساة فاتن أمل حربي أن المسلسل أشار إلى ما تعانيه نساء الطبقة المتوسطة العاملات مما يسمى بـ”مأزق ضيق الوقت”، فنموذج فاتن أمل حربي الموظفة في الشهر العقاري، كاشف لمأزق المرأة العاملة الموزعة بين مهام العمل ومهام الأمومة ورعاية الأبناء والزوج، فنرى حالة اللهاث التي تبدو عليها البطلة، وهي تسرع لتوصيل بنتيها إلى المدرسة، ثم الالتحاق بعملها، ثم رحلة العودة، وإحضار بنتيها من المدرسة، ولضيق الوقت تطعمهما داخل المواصلات، قبل إرسالهما إلى الدروس الخصوصية، ثم الإسراع لمقابلة المحامي، وبعدها إرسال البنتين إلى التدريبات، وانتظارهما.
هكذا يكشف المسلسل عن الامتهان اليومي للمرأة في ظل غيبة الرجل الذي يشكو مر الشكوى من تعبه، دون دور حقيقي لأسرته، فالمرأة / الزوجة هي التي تتصدر المشهد، إضافة إلى خدمتها داخل بيتها ورعايتها للأبناء ومراجعة دروسهم وتجهيز طعامهم، وملابسهم، وغيرها من أمور لا يشارك فيها الرجل.
يوسع المسلسل دائرة المعاناة التي تعانيها المرأة في رحلة حياتها الشاقة والعسيرة، فليس الأمر مقتصرا على العمل فقط، بل السير أيضا في دائرة منهكة بدنيا ونفسيا وماديا، وفوق هذا عليها تحمل إكراهات الزوج المريض النفسي “السيكوباتي”، الذي لا نراه إلا متجهما غاضبا يسب ويلعن ويعتدي عليها، حتى حقوقه الشرعية يأخذها أثناء غضبه بالقوة، كنوع من الإذلال لها، وكأن المسلسل يحطم معنى عيش الحياة التي دعا إليها محمود درويش بقوله “وأنت في طريقك للبحث عن حياة! لا تنس أن تعيش!”.
لا أبالغ إذا قلت إن ثمة مبالغات في شخصية الزوج، سواء بالصورة التي بدا عليها، أو في حالة الصياح والغضب غير المبررين على طول خط المسلسل، فلم يكتف المسلسل بتصدير صورة سلبية عنه، وكأنه مريض نفسي، مهزوز الشخصية ومتناقض، إذ الزوج الذي يأمر زوجته وبنتيه بالحجاب خشية عليهن من التحرش، هو نفسه يتحرش عبر الإنترنت، واللافت أن ردة فعل الزوجة لم تكن بجسامة الإثم الذي ارتكبه الزوج، الذي سرعان ما أحال سبب فعله هذا إلى زوجته نفسها، وكأنه لم يكتف بتدميرها ماديا، أراد أن يقهرها ذاتيا بتجريدها من أنوثتها.
من الأشياء المكررة والممجوجة إصرار صناع الدراما على إظهار محامي القضايا الشخصية في صورة كاريكاتورية/ ساخرة، فهو مهمل في ملابسه، حريص على المال، بخيل، على نحو ما ظهرت شخصية المحامي شكيب الإسكندراني (أداها الفنان محمد ثروت)، فالصورة التي يبدو عليها في كلامه وتصرفاته استهلاكية نمطية، لا تتواءم مع أهمية وطبيعة القضية التي يتولاها. وبالمثل صورة رجل الدين، التي يسعى المؤلف إلى تشويهها، فرجل الدين يبدو مهزوزا ضعيفا في معلوماته، عصبيا يُستثار لأتفه الأسباب، لديه تربص لكل ما هو متعلق بالمرأة، وبالمثل هو متزمت في آرائه الفقهية، وضائق الصدر بمثل هذه القضايا، والأهم غياب فقه الاجتهاد لديه، وهذه الصورة تعكس موقف المؤلف نفسه منه الذي لا يمل من تكراره، وقد سبق أن قدمه في عمل روائي بعنوان “مولانا”.
على كل، يكفي صناع المسلسل أنهم سلطوا الضوء على معاناة المرأة من أجل الحصول على حقوقها، ولفتوا الانتباه إلى تأثير هذا الصراع على الجميع الأب والأم والأبناء، وكذلك المجتمع، علّ وعسى أن يتحرك أحد! دون غض الطرف عما شاب الأحداث من مط وتطويل ومبالغة في بعض الأحداث.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ممدوح فراج النابي
كاتب مصري
مسلسل "فاتن أمل حربي" رحلة البحث عن الذات في أضابير القوانين والأنساق المتخلفة.
تونا تخوض معركتها إلى النهاية
مع كل النضالات التي خاضتها المرأة تحققت لها تحولات هامة دفعت بها إلى مكانة مرموقة جعلتها ندا للرجل، بل وتشاكسه وتدافع عن حريتها وإرادتها، إلا أنها في سبيل هذا عانت كثيرا، ولعل هذه المعاناة أكثر ثقلا ووطأة في المجتمعات العربية التي لا تزال النساء فيها يعانين من ظواهر قروسطية.
يذكر جيل يبوفيتسكي في كتابه “المرأة الثالثة: ديمومة الأنثوي وثورته”، ترجمة دينا مندور (المجلس القومي للترجمة، 2012) أن النقلة الكبرى في وضع المرأة الثالثة (التي هي وليدة العقود الثلاثة الأخيرة في القرن العشرين، والتي عملت فيها بكثافة خارج البيت، وحصلت على أرفع الدرجات أسوة بالرجل) هي تحكمها بذاتها وتحقق شخصيتها دون تدخل الرجل في قرارتها الشخصية، وقد انتقلت من المرحلة القروسطية (المرأة الأولى، التي وصفها الرجل فيها بالدونية، وتستحق اللعنة)، والرومانس النهضوي (التي أشاد بها، وتغنى بمفاتنها) فصارت تشارك في السلطة ومجالس الإدارة، وتسهم في تطوير الاقتصاد، وتتعامل مع الرجل بـ”ندية”، فاستطاعت بذلك المرأة أن تسقط الحواجز التي حالت دون أن تحقق ذاتها.
دخول المراة إلى سوق العمل لا لضرورة اجتماعية ملحة كما هو الآن، ثم كان لنتيجة سيطرة الشركات الكبرى، وهيمنة رأس المال، الدور الأكبر في أن ترتد المرأة، كما تقول الدكتورة هبة شريف في كتاب “ن. النسوية”، لتصبح سلعة في يد الرأسمالية، وتخلت عن المكتسبات التي دافع عنها الجيل الأول من النسويات بالتحرر من هوس الجسد، إلى الخضوع بكامل إرادتها للهوس بالجسد الجميل والإغواء، والركض من أجل تحقيق مقاييس الجمال المفروضة من السوق ومن صانعي الموضة، وهو ما أفضى إلى حبس المرأة في مجرد جسد جميل للمتعة.
أريد حلا
دراما تنتمي إلى نوعية الأعمال الاجتماعية التي تشتبك مع الواقع وتناقش العديد من المشكلات الاجتماعية
تاريخ مطالبات المرأة بحقوقها في واقعنا العربي طويل وممتد، يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وتحديدا بعد موجة الاتصال بالغرب عن طريق الاستعمار الذي دعا إلى ضرورة تعليم المرأة، كما فعل اللورد كرومر في تناقض لموقفه الأصلي من رفض عمل المرأة. ومع حركات البعثات إلى الغرب، ثم موجات التحرر والاستقلال التي شهدتها المنطقة العربية أخذت المطالبات شكلا أوسع، وقد ساهم الكثير من الرجال في دعم المرأة والدفاع عن قضاياها، كالحق في التعليم والعمل، والحجاب وتقييد الطلاق على نحو ما دعا مرقص فهمي في كتابه “المرأة في الشرق” (1894)، ثم بعد خمس سنوات جاءت دعوة قاسم أمين في كتابيه “تحرير المرأة (1899)، و”المرأة الجديدة” (1900)، وغيرها من كتابات ناصرت قضية المرأة، لكن ثمة قضايا خاضت فيها المرأة معركتها بمفردها، ومن أهمها حق المرأة في تحرر ذاتها من البطريركية، وممارستها الفجة التي استغلت عقد الزواج ليكون قيدا تحاصر به المرأة، على نحو ما عبّرت صفية زغلول وهدى شعراوي وسيزا نبراوي ونبوية موسي، وأخريات سرن في نفس الدرب دفاعا عن حقوق المرأة.
الثورة ضد المظالم الواقعة على المرأة، وحرمانها من حقها في الطلاق أخذت شكلا جديدا مع عام 1975، عبر الصرخة المدوية التي أطلقتها السيدة فاتن حمامة في نهاية فيلم “أريد حلا”، عن قصة حسن شاه وإخراج سعيد مرزوق ومن بطولة رشدي أباظة وفاتن حمامة. كانت الصرخة إعلانا عن ضيق الصدور بهذه الممارسات الفجة والألاعيب الممجوجة التي مورست دون أن تحظى البطلة/ المرأة بالطلاق، فكانت الصرخة بمثابة لفت الانتباه إلى أزمة المرأة المحاصرة بزوج يمارس استبداديته، ويستغل حقه الشرعي في باطل، وهي تسعى للانفلات من زواج فاشل.
دارت أحداث الفيلم حول (درية – فاتن حمامة)، التي ارتبطت بالدبلوماسي (مدحت - رشدي أباظة)، وقد استحالت العشرة بينهما، فطلبت الطلاق، إلا أن طلبها قوبل بالرفض والتعنت، وكعاقب لها على هذا الحق بدأت البطلة رحلة معاناة وإذلال، كتمثيل لكافة النساء المطالبات بالطلاق، رغبة في الحصول عليه عبر المحكمة الشرعية، لكن الزوج كان يستميت في عدم تحقيق رغبتها، بل أحضر الشهود الزور، لتتعقد الأمور أكثر وأكثر.
كان الفيلم بمثابة إزاحة الستار عما تعانيه المرأة من جراء تشدد البعض في رفض الطلاق، وفي إجراءات التقاضي البيروقراطية، التي تنهك المرأة وتُعتبر عقابا جديدا على مطالبتها بحقها في التحرر. النتيحة الإيجابية لهذه الصرخة المدوية التي تنطوي على عجز وحيرة للمرأة، أنها كانت بمثابة دق ناقوس الخطر لما تعانيه المرأة من جراء هذه الإجراءات التي يتخذها الزوج ذريعة في إنهاك الزوجة لمجرد أنها طالبت بحقها في رفض الحياة، وحقها في بدء حياة جديدة مع من ترتضيه، ومن ثم استجابت الدولة بعد فترة وأصدرت “قانون الخلع” الذي يعطي للمرأة حق تطليق نفسها بنفسها، ولكن بشرط أن تتنازل للزوج على كل مستحقاته.
على الرغم من أن وضعية المرأة مرت بتحولات كثيرة، وحقق قانون الخلع للكثير من النساء مرادهن بالخروج الآمن من حياة مرهقة نفسيا وبدنيا، إلا أن الإحصائيات تقول إن معدلات نسبة الطلاق في مصر عالية جدا، فهناك حوالي 1.5 مليون قضية محكمة أسرة سنويا، وفي عام 2020 وصلت عقود الزواج إلى 800 ألف عقد، في مقابل 222 ألف عقد طلاق، ويصل عدد القضايا التي ينظر فيها قاضي الأحوال الشخصية يوميا إلى 700 قضية.
أزمة المرأة المطلقة بنظرة واقعية
من المفترض أن تنامي مثل هذه الأرقام يدق ناقوس الخطر، لمعرفة أسباب الأزمة التي عدها البعض اقتصادية في المقام الأول، وإن كانت في أحد جوانبها تشير بطرف خفي إلى أن ثمة أزمة مجتمعية تتصل بالأخلاقيات وبالقوانين التي تحكم العلاقة بين الزوجين، وما يدعو إلى الغرابة والدهشة في نفس الوقت حسب خبراء أن القوانين المنظمة لهذه العلاقة المهمة، تتجاوزالـ 100 عام، حيث تمتد إلى زمن الملك فؤاد، ولئن شملتها بعض التعديلات في أعوام (1926، 1989، 2000) فإن القوانين مع الأسف لا تزال هي نفسها منذ 100 عام، وهو ما تترتب عليه أمور مفجعة في المحاكم.
في ضوء المعاناة التي تعانيها المرأة المعيلة بسبب القوانين الوضعية المكبلة التي زادت من بؤس وضعية المرأة، وجعلتها تدور في دائرة البحث عن الذات، والرغبة في الاستقلال، جاء مسلسل “فاتن أمل حربي” للكاتب الصحافي إبراهيم عيسى في أولى تجاربه الدرامية، ومن إخراج محمد العدل، بطولة نخبة من الممثلين، نيللي كريم في دور فاتن أمل حربي (الزوجة)، وشريف سلامة في دور سيف الزوج المعنف، الذي يمارس البلطجة والعنف والابتزاز على زوجته وأم طفلتيه في محاولة لإرغامها على العودة إليه من جديد. ويشارك في البطولة خالد سرحان وهالة صدقي، وفادية عبدالغني، ومحمد ثروت، وآخرين.
ينتمى المسلسل إلى نوعية الأعمال الدرامية الاجتماعية التي تنشغل وتشتبك مع الواقع، وتناقش العديد من المشكلات الاجتماعية، التي تمس الأسرة المصرية، ومن هذه القضايا الشائكة التي يتعرض لها المسلسل قضية الطلاق وتبعاتها التي تكون بمثابة الزلزال الذي يهدد استقرار الأسرة وسلامها الاجتماعي، وتأثيرها السلبي الفادح على الأطفال، باعتبارهم حلقة الوصل بين الطرفين، وهو ما نرى آثاره في رغبة الابنة في الانفصال عن أبيها وإلصاق اسمها بأمها، فكتبت في ورقة الامتحان اسمها هكذا “نادين فاتن أمل حربي”.
وفي نفس الوقت يكونون نقطة الضعف التي يستغلها الأب في لي ذراع الزوجة، والضغط عليها من أجل التنازل عن الكثير من حقوقها المسلوبة تارة بسبب القوانين التي تنحاز للرجل، وتارة بسبب ألاعيب المحامين، الذين يجيدون تكدير الزوجة حتى تيأس عن المطالبة بحقوقها.
المسلسل يعود إلى ذات النقطة التي انتهى منها فيلم “أريد حلا” بطولة فاتن حمامة، فيكشف عن كم الإحباطات التي تعانيها أو تعيشها الزوجة المعيلة من أجل الحفاظ على حضانة أبنائها (أو ما يعرف بحق الولاية التعليمية) في حالة الزواج مرة ثانية.
نساء الطبقة المتوسطة
مرأة ثورية تبحث عن حقوقها الشرعية والمدنية
يأتي المسلسل ليكسر النمطية والاستهلاكية التي سادت في الدارما التي صارت أشبه بالدراما الكارتونية البعيدة عن الواقع الذي يعج بالمشكلات الحية، فابتعد صناع المسلسل عن دراما الكمبوند ودراما رجال الأعمال أو البلطجة أو كذلك رحلات الكفاح العصامية الوهمية، وسلطوا الضوء على أزمة المرأة المطلقة بنظرة واقعية بعيدة عن الفنتازيا التي تعاملت معها مسلسلات أخرى.
وكان آخر الأعمال التي تناولت القضية مسلسل “البحث عن عُلا” الذي لعبت بطولته هند صبري، وسوسن بدر، وعرض على منصة شاهد نت، فالطلاق الذي حصلت عليه عُلا عبدالصبور كان رفاهية، ورحلة صعود للمرأة وتحررها من الأعباء الكثيرة التي كان الزواج مقيدا لها، على نحو ما عبّرت سميرة سعيدة في أغنية محصلش حاجة “وأديني سيبته وشوفت اهو محصلش حاجة / والوضع فعلا مختلفش في أي حاجة / باكل واضحك بشتغل وأعمل كل حاجة /لأ لأ مش زعلانة وكئيبة”.
على عكس هذا تماما جاء مسلسل “فاتن أمل حربي” لينزل إلى واقعية القاع، ويستعرض لحالات من الطبقات المتوسطة التي يعتبر فيها الطلاق أشبه برحلة عذاب وامتهان لآدمية المرأة، وفي المقابل تعرية للذكورية التي تفتقد لأي معنى للرجولة على نحو ما بدا زوج فاتن. ثمة سرديات كثيرة يمررها صناع المسلسل، وإن كانت تنحاز إلى أيديولوجيا المؤلف الإشكالي، الذي يتخذ هذه السردية الحكائية ليمرر الكثير من رؤاه وأفكاره في الكثير من القضايا الإشكالية، التي يطرحها في سياق درامي، بعيدا عن الخطاب الوعظي أو ما يمكن وصفه بخطاب إثارة الوعي الذي ينتهجه في برنامجه التلفزيوني، وهو ما كان ولا يزال يعرضه للكثير من الانتقادات.
المسلسل يكسر النمطية والاستهلاكية التي سادت في الدارما وجعلتها دراما كارتونية بعيدة عن الواقع
يستعرض المسلسل عبر رحلة امتهان فاتن أمل حربي، ومحاولتها العثور على غرفة تضمها مع بنتيها، بعدما استولى زوجها على الشقة وطردها منها، قضايا إشكالية مسكوتا عنها، مثل رفض الفنادق إقامة المرأة فيها بمفردها، وهو القانون الشفهي الذي لا توجد صيغة مكتوبة منه، إلا أنه يُطبق عرفيا، على الرغم من نفي وزارة السياحة أنه لا يوجد قانون أو لائحة تمنع إقامة السيدات بمفردهن في الفنادق المصرية، وأن أي فندق يمنع إقامة أي سيدة فهو تصرف غير مسؤول، وأكدت أيضا أن الفنادق المصرية ترحب بكافة النزلاء من الرجال والسيدات سواء من المصريين أو الأشقاء العرب أو الأجانب.
ثمة تفصيلة أشار إليها المسلسل تتعلق بأن “فاتن” لا عائلة لها تدافع عنها أو تقف خلفها، على عكس سيف الدندراوي الذي تقف خلفه عائلة، ذهبت إليها فاتن للشكوى، قد تكون التفصيلة قليلة الأهمية في تنامي الأحداث وتصاعدها، لكن لا يعني وجود عائلة لفاتن أن الأمر سيختلف، فالاختلاف الوحيد يتمثل في عودتها إليها بأطفال بعد الاستيلاء على الشقة، ما عدا ذلك، فكل المشكلات المترتبة على الطلاق سوف تتحملها وحدها بلا شريك، اللهم مساندات الأصدقاء الذين لا يقلون عنها تأزما كما في حالة ميسون التي يهرب الزوج، ويترك لها مسؤولية البحث عنه وعن أسباب الاختفاء هاجسا يؤرق الزوجة المكلومة، وهذا الهروب يعد نوعا آخر من القهر الذي تمارسه الذكورية على شريكها.
وهناك قضية الحجاب، حيث تبدأ الحلقة بصراع الأب (سيف) والأم (فاتن) حول رغبته في تحجيب بنتيهما، ويقدم مبرره، خشية الفتنة ومنعا للتحرش في المجتمع، وإن كان الحوار ينتهي إلى رفض الزوجة لما يريده الأب، ودعوته إلى أن يحجب أمه أولا، وهو ما يثير غضبه.
من الإيجابيات التي يقدمها المسلسل، صورة المرأة، فالمرأة الممثلة في شخصية تونا/ فاتن أمل حربي، على الرغم مما تعانيه من جراح مريرة أهمها الطلاق ودوامة المحاكم والقضايا التي وجدت نفسها فيها بلا سبب إلا لرغبتها في الاستقلال، إلا أنها ظهرت بصورة امرأة قوية، لم يهزمها الإرهاب الواقع عليها من طليقها، الذي وصل به الاستبداد والحقد إلى محاولة محوها بسلبها الشقة والأثاث الذي تحتويه، وكذلك بشل حركتها بالقضايا الكثيرة الملفقة، في محاولة منه لابتزازها وإرغامها على الرجوع إليه، إلا أن كل هذا لم يكسرها، بل نراها تحارب في أكثر من جبهة، تمارس عملها، وتواظب على أداء التمرينات لبنتيها، وتتدخل في كل كبيرة وصغيرة في تدريباتهما، كما إنها تقدم دعما معنويا لهما، والأهم أنها لا تسعى إلى تشويه صورة الأب أمام الطفلتين، بل ولا تمانع في تسهيل الرؤية له.
رحلة عذاب وامتهان لآدمية المرأة
نموذج تونا وإصرارها على خوض معركتها إلى النهاية، التي تتحدى فيها ليس فقط سلطة الزوج، بل القوانين المعوقة، وهو ما يعرضها للحبس من قبل القاضي (خالد سرحان) بسبب تجاوزها في حق هيئة المحكمة، فيأمر بحبسها 24 ساعة، ثم يتعاطف معها ويلغي قرار الحبس، هذا النموذج يقدم صورة جديدة للمرأة المطحونة وهي تكافح من أجل تحقيق وجودها / ذاتها، فلا تقف مكتوفة الأيدي، أو حتى تستسلم لواقعها، وتتحمل القهر والمعاناة، دون شكوى، كما دأبت الدراما تقديم صورة المرأة متوسطة الحال، كنقيض للمرأة الثورية التي تدافع عن حقها، وترفع شعارات “استرونج إندبندنت وومن”، وهي شعارات تستقي قوتها من دعم النسوية، والحركات النسائية لها، في تأكيد حق المرأة في النضال.
لكن نموذج تونا يكسر هذه الصورة النمطية، ويكشف عن صورة أخرى للمرأة، صورة تنأى بها عن الصورة السلبية والنمطية التي اختزلت المرأة/ المعيلة في صورة المرأة المهزومة مستلبة الإرادة التي تجتر أحزانها وآلامها، ودائما في موضع المفعول به، وإنما صورة على النقيض تماما لهذه المرأة/ المقهورة أو الفئة المهمشة من المجتمع، ليست أقل من صورة المرأة الثورية/ امرأة الطبقة الراقية، فالمرأة ابنة الطبقة المطحونة هي الأخرى لديها من الإرادة الحرة والقوة التي تجعلها تدافع عن نفسها، وعن حقوقها، بل وتستبسل على الرغم من قلة الحيلة على نحو ما تشير كلمات أغنية الشارة التي تغنيها المطربة أنغام، وتردد فيها (أنا مش ضعيفة/ ولي في الحياة مطرح، ومش قابلة أكون كومبارس على المسرح/ قراري من دماغي سيف/ أنا الإرادة/ وطايرة في الحياة بجناحين/ وعارفة طريقي سكته فين/ …إلخ).
كما يتعرض المسلسل لظواهر مجتمعية نشأت بسبب فساد الجهاز الإداري، فيستعرض للبناء والعشوائيات، فالشقة التي تدخرها فاتن لنفسها بعيدا عن زوجها، تفاجأ بأنها مبنية في العشوائيات فيزال جزء من الشقة، وإن كان أشار صناع المسلسل بطرف خفي إلى ما يجب على المرأة عمله، من ادخار شقة من عملها، تجنبا لأي ظروف تضطرها.
يجب علينا ألا نغفل الزمن الذي يدور فيه المسلسل، وهو العصر الراهن، وما انتابه من تحولات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن ثم يستوجب لهذه التحولات أن تحدث تأثيرات على النسيج المجتمعي، فيكفي أن الأزهر أشار إلى الكثير من الحقوق التي كانت مهضومة للمرأة من قبل، فأبانها مثل حق الكد والسعاية، وهو ما كان بمثابة الانتصار للمرأة العاملة بالمحافظة على أموالها في ميراث الزوج المتوفي، بأن يكون لها نصف التركة قبل أن تُقسم، وفي هذا تأكيد لحقوق الأسرة والمرأة والمحافظة على حقوق الورثة وفقا لشرع الله، دون جور أو حيف لمن كانت سندا ودعما للرجل في رحلة كفاحه.
تكشف معاناة البطلة عن الامتهان اليومي للمرأة في ظل غياب الرجل الذي لا يبدو دون دور حقيقي في أسرته
وفي تطور مهم تم الحديث عن تعدد الزوجات، وحسم شيخ الأزهر الجدل المثار، وقال إن من يعتقدون بأن الأصل في الزواج هو التعدد مخطئون، فالأصل كما أوضح فضيلته هو (فإنْ خفْتُمْ ألا تعْدلُوا فواحدة)، وأكد في ذات السياق أن التعدد يمثل ظلما فادحا للمرأة، وللأولاد. وهذا الفهم بهذه الصورة لما يخص المرأة ماديا ونفسيا (بالزواج الثاني) يعد تحولا كبير في مجال حقوق المرأة، وهو ما يؤكد أن المناخ العام يشهد انفتاحه وقوية في ما يتعلق بحقوق المرأة.
يؤكد المسلسل أهمية خروج المرأة إلى سوق العمل، ليس فقط لإثبات ذاتها، أو رغبة في التحرر الاقتصادي، وإنما كسند حقيقي لها في وقت المحن والشدة، فالأزمة التي حاقت بفاتن بعد طلاقها وطردها من الشقة وامتناع الزوج عن دفع النفقات، وجدت في وظيفتها وعائدها الشهري الدائم ملاذا حقيقيا ودعما قويا، وهو الأمر الذي كان يستغله الزوج من قبل في الاعتماد كليا على دخلها بحجة أن رزقه قليل، فساندته في شراء السيارة، وكانت تدعمه ماديا بالإنفاق على مصاريف البيت والطفلتين، أي أنها لم تكن تحمله عبئا ماديا، بل على العكس كانت تخفف عنه عبء الاحتياجات والمصاريف.
فالعمل للمرأة هو السند الحقيقي لها في ظل العراء الذي من الممكن أن تعيش فيه إذا حدث الطلاق ولم يكن لديها أي مصدر دخل، وهي المأساة التي تعيشها الآلاف من الأسر، والتي تسعى خلف المحاكم والقضايا من أجل الحصول على فتات النفقة.
يكشف المسلسل عبر علاقة الزوج/ سيف بالزوجة/ فاتن، أن المرأة العاملة معرضة للاستغلال من قبل الزوج، فهو دائما يتكل عليها في سد مصاريف البيت، بل هذه العلاقة الإشكالية تكشف عن مفارقة مذهلة، تصب في صالح الرجل، فعمل المرأة، الذي كان يرفضه الرجل، ويعتبره قرينا للرذيلة، هو نفسه ساهم في تقليص واجباته الزوجية في الإنفاق والمسؤولية، على الرغم من احتفاظه بكافة حقوقه وسيطرته داخل البيت.
فسماح الرجل للمرأة بالعمل خارج البيت، بمثابة المنحة أو الهبة التي يجب أن تقابلها إتاوة مالية وتنصل من الواجبات الأسرية المادية، فبدلا من أن تعود نتائج التحرر الاقتصادي إلى صالح المرأة، تصب مع الأسف بغير حق في صالح الزوج ماديا أكثر من الزوجة، في تأكيد لمقولة سيمون دي بوفوار “المرأة تعطي نفسها، أما الرجل فيزداد بها”، علاوة على منحه سعادة بأنه لم يعد المسؤول الوحيد عن إعالة الأسرة.
مأزق ضيق الوقت
النقطة الجوهرية التي سردتها حكاية/ مأساة فاتن أمل حربي أن المسلسل أشار إلى ما تعانيه نساء الطبقة المتوسطة العاملات مما يسمى بـ”مأزق ضيق الوقت”، فنموذج فاتن أمل حربي الموظفة في الشهر العقاري، كاشف لمأزق المرأة العاملة الموزعة بين مهام العمل ومهام الأمومة ورعاية الأبناء والزوج، فنرى حالة اللهاث التي تبدو عليها البطلة، وهي تسرع لتوصيل بنتيها إلى المدرسة، ثم الالتحاق بعملها، ثم رحلة العودة، وإحضار بنتيها من المدرسة، ولضيق الوقت تطعمهما داخل المواصلات، قبل إرسالهما إلى الدروس الخصوصية، ثم الإسراع لمقابلة المحامي، وبعدها إرسال البنتين إلى التدريبات، وانتظارهما.
هكذا يكشف المسلسل عن الامتهان اليومي للمرأة في ظل غيبة الرجل الذي يشكو مر الشكوى من تعبه، دون دور حقيقي لأسرته، فالمرأة / الزوجة هي التي تتصدر المشهد، إضافة إلى خدمتها داخل بيتها ورعايتها للأبناء ومراجعة دروسهم وتجهيز طعامهم، وملابسهم، وغيرها من أمور لا يشارك فيها الرجل.
يوسع المسلسل دائرة المعاناة التي تعانيها المرأة في رحلة حياتها الشاقة والعسيرة، فليس الأمر مقتصرا على العمل فقط، بل السير أيضا في دائرة منهكة بدنيا ونفسيا وماديا، وفوق هذا عليها تحمل إكراهات الزوج المريض النفسي “السيكوباتي”، الذي لا نراه إلا متجهما غاضبا يسب ويلعن ويعتدي عليها، حتى حقوقه الشرعية يأخذها أثناء غضبه بالقوة، كنوع من الإذلال لها، وكأن المسلسل يحطم معنى عيش الحياة التي دعا إليها محمود درويش بقوله “وأنت في طريقك للبحث عن حياة! لا تنس أن تعيش!”.
لا أبالغ إذا قلت إن ثمة مبالغات في شخصية الزوج، سواء بالصورة التي بدا عليها، أو في حالة الصياح والغضب غير المبررين على طول خط المسلسل، فلم يكتف المسلسل بتصدير صورة سلبية عنه، وكأنه مريض نفسي، مهزوز الشخصية ومتناقض، إذ الزوج الذي يأمر زوجته وبنتيه بالحجاب خشية عليهن من التحرش، هو نفسه يتحرش عبر الإنترنت، واللافت أن ردة فعل الزوجة لم تكن بجسامة الإثم الذي ارتكبه الزوج، الذي سرعان ما أحال سبب فعله هذا إلى زوجته نفسها، وكأنه لم يكتف بتدميرها ماديا، أراد أن يقهرها ذاتيا بتجريدها من أنوثتها.
من الأشياء المكررة والممجوجة إصرار صناع الدراما على إظهار محامي القضايا الشخصية في صورة كاريكاتورية/ ساخرة، فهو مهمل في ملابسه، حريص على المال، بخيل، على نحو ما ظهرت شخصية المحامي شكيب الإسكندراني (أداها الفنان محمد ثروت)، فالصورة التي يبدو عليها في كلامه وتصرفاته استهلاكية نمطية، لا تتواءم مع أهمية وطبيعة القضية التي يتولاها. وبالمثل صورة رجل الدين، التي يسعى المؤلف إلى تشويهها، فرجل الدين يبدو مهزوزا ضعيفا في معلوماته، عصبيا يُستثار لأتفه الأسباب، لديه تربص لكل ما هو متعلق بالمرأة، وبالمثل هو متزمت في آرائه الفقهية، وضائق الصدر بمثل هذه القضايا، والأهم غياب فقه الاجتهاد لديه، وهذه الصورة تعكس موقف المؤلف نفسه منه الذي لا يمل من تكراره، وقد سبق أن قدمه في عمل روائي بعنوان “مولانا”.
على كل، يكفي صناع المسلسل أنهم سلطوا الضوء على معاناة المرأة من أجل الحصول على حقوقها، ولفتوا الانتباه إلى تأثير هذا الصراع على الجميع الأب والأم والأبناء، وكذلك المجتمع، علّ وعسى أن يتحرك أحد! دون غض الطرف عما شاب الأحداث من مط وتطويل ومبالغة في بعض الأحداث.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ممدوح فراج النابي
كاتب مصري