تُنتج دُوُر النَّشر كل عام ٍعددًا كبيرًا من الأعمال، ونحن نكتب منذ زمن ٍبعيدٍ، ولكن لم تنتهِ القِصَص والحكايات أبدًا، فخيالُ الإنسانِ لا ينضب ومشاكله كل يوم ٍتتجدد ولديه مجالات كثيرة ليكتب فيها، لكن أحد مميزات العقل البشريّ هو القُدرة على الابتكار حتى إذا كانت القِصَّة مُكرَّرة ومُعَادة، ما زلنا يمكننا إضافة شيءٍ للقِصَّة يجعلها مثيرة وقابلة للقراءة للمرَّة الألف.
ربما لا تبدو قِصَّة رواية “الأفق الأعلى” للوهلة الأولى جديدة. رجل في الخمسينيَّات يُحِبُّ جارته، ما الجديد؟ أين الإضافة! ولكن عنصرًا واحدًا صغيرًا قد يُغيِّر اللُّعبَة تمامًا. في رواية الأُفُق الأعْلَى اختارت الكاتبة فاطمة عبد الحميد أن يكون الرَّاوي هو أداة الجَذْب، وجعلته الرَّاوي الذي نخاف منه جميعًا ونهرب منه، لكن لا مَفَرّ، لا في الحياة ولا في الرواية، وأصبح راوي الأُفُق الأعِلَى هو مَلَاك المَوْتِ.
حَبْكَة الرِّوَاية
تدور رواية الأفق الأعلى حول سليمان الذي تزوَّج وهو طفل في الثالثة عَشْرَة، من سيدةٍ تكبره بأحد عَشَرَ عامًا تحت ضغط ٍمن والدته، وبهذا يخضع سليمان الطفل لقوَّتين أُنثويَّتين، زوجته وأمه. تبدو قِصَّةً مثيرة، تثير العديد من الأفْكَار والمشاعر عن الزواج والطفولة والظلم، لكن للكاتبة رأيٌ آخر، فلن نُكْمِل في هذا الخط، بل ينقلنا مَلَاك المَوْت إلى المستقبل بعد أن استمر هذا الزواج أعوامًا طويلة وماتت الزوجة. ليجد سليمان نفسه مرَّة أخرى يستكشف العَالَم من جديد، من حيث تركه آخر مرَّة كطفلٍ في الثالثة عَشْرَة. إذًا، كيف يكون الحُبّ لأوَّل مرَّة في مطلع الخمسينيَّات من العمر؟
الشَّيطانُ والحُبُّ وحدَهما قادرانِ على العبَثِ بالبشَرِ. أمَّا الشَّيطان فأمره هيّنٌ، إذْ تكفي النِّيَّةُ الصَّادقة أو الموسِيقى لطرده. وأمَّا الحُبُّ، فلا شيءَ يمحُوهُ، بل إنَّ كلّ ما يحدث وما لا يحدث يكون سببًا في إحيائه.
لا يتَّبع مَلَاك المَوْت قِصَّة سليمان وحده، بل سليمان وأبنائه، وكأن العائلة وُعِدَت برائحة المَوْت أينما ذهبت. ثلاثة أبناءٍ، لكلٍ منهم مشاكله وعَالَمه، ولكن كلهم دَوَّخهم الحُبّ بين زوجٍ ومعجبٍ. ولكن يبدو أن أصل كل المشكلات يعود لخللٍ في الأبوين، ومنها نعود مرَّة أخرى إلى قِصَّة الصَّبي الذي تزوَّج قصرًا.
اختيار الرَّاوي
ظَلَّ مَلَاكُ المَوْتِ يُشَارِك بدوره في الرِّوَاية، لكن كعمله الطبيعيّ من وراء الستار كقابضٍ للأرْوَاح لا أكثر، لم يتدخَّل فيما لا يعنيه، وهو ما يثير تساؤلاتٍ عن هذا الاختيار الغريب لشَخصيَّة الموت التي سوف توجد شئنا أم أبينا، فلِمَ إذًا يكون رَاويًا؟
أظن أن إجابة هذا السؤال في بعض الأجزاء التي لن يفسرها لنا سوى كيانٍ غامض؛ الشُّعُور ناحية اللحظات الأخيرة، وهو جانبٌ يُمْكِننا استخدامه في تحليل الشَّخصيَّات وفهمها بشكلٍ أعمق، لكن من أين لنا بنوايا الرُّوح وقت رحيلها؟ وهذا هو ما يفعله مُخْبِرنا؛ مَلَاك المَوْت، إنه يُكْمِل الثغرات التي لا نعرفها، فتتَّضح أمامنا الصُّورة.
إحدى الشَّخصيَّات مثلًا كانت تهتم بصحتها، بالمشي صباحًا، بإفطارها وخضراوتها، وهو ما يوحي بمحاولة اقتناص بعض السَّنوات الإضافية لحياتها، لكن عندما نرى روحها تذهب مع المَوْت فَرِحَةً، فهنا تنقلب الصُّورة لتُعطي تفسيراتٍ مختلفة تمامًا عن السَّنوات الإضافية وحب الحياة وما إلى ذلك. لذا فقد كانت تلك المعلومة الأخيرة، الذي أضافها الرَّاوي الغريب، مفيدةً بل ومُغيِّرة للأحداث.
لا توجد في المَوْت أيُّ مُصَادفةٍ، هكذا هو الأمرُ، فما يأتي إليكَ، يأتي إليكَ باسمِكَ شخصيًّا، لكنَّ النّاسَ يأبَوْنَ التّصْديقَ، إذْ يرفُضُ الجميعُ هذا النَّوعَ مِنَ الألمِ، ألمِ وضْعِ النُّقطةِ الدَّاكنةِ في نهايةِ السَّطرِ الأخيرِ منْ حياةِ أحدِهم، ويصعُبُ عليهم.
مَنْظور الكَاتِبة عن الزَّواج والسَّيْطرة
مما يُثير الاهتمام في الرِّواية، هي فِكْرة الزَّواج. ليست منظومة الزَّواج أو كيف يتحصَّل الشباب علي المهر والبيت، بل فِكْرتهم عن الكلمة وما تعنيه من مخاوفٍ. في الرِّواية لم تضع الكاتبة زِيجة واحدة سليمة، بل خرجت كلها مُشوَّهة أقرب للَّعِب منه إلى الزَّواج. كل الأبطال حتى الرِّجال منهم تزوجوا خوفًا؛ خوفًا من الوحدةِ، أو حتى خوفًا من عائلاتهم، أو خوفًا من عدم إثبات كفاءتهم أو كونهم مرغوبون.
قد نتفهَّم هذا المَنْظور إذا كُتِبَ عن المرأة، لأنها دائمًا من تُنْعَت بالعَانِس ومن يفوتها القطار، لكن الرَّجل “فلا يعيبه إلا جيبه”. وتضطر النساء لقبول التنازلات والعَيْش مع زوجٍ لا يُنَاسبها ولا تُحِبُّه، فقط كي لا تبقى وحيدة. أما الرَّجل فهو المُسَيْطِر، لا يتأخَّر عن الزَّواج. فكيف وصل الخوف إليه وأصبح يهاب عدم الزَّواج؟ الإجابة بسيطة، فقد نسينا أن هؤلاء النِّسْوَة الخوَّافات هُنَّ من يُربِّيْن الأطفال جميعًا من أولادٍ وبناتٍ ويزرعون بداخلهم الخَوْف من التأخُّر عن الرَّكب، الخَوْف الذي يدفع بأم سليمان مثلًا لتزويجَ طفلٍ لا يفهم كيف يفعل ما يفعله الرِّجال.
تَتَابُع بلا لُهَاث
الرِّواية لا تمتلك أحداثًا كثيرة ممتالية تجعلنا نَلْهَث، بل هي أهدأ، وتَتَّبِع الشَّخصيَّات وتحوَّلاتهم ببطءٍ، لتعرف مَكْنُونات صدورهم، وهو ما يُعَد ميزة بعد أن تحوَّلت أغلب الرِّوايات الأدبيَّة إلى سيناريو فيلمٍ سريعٍ مليءٍ بالأحداث، وتحكمه الحركة مجيئًا وذهابًا، وإلا فقد يَمِلّ المُتَلَقِّي، والحقيقة أن هذا الأسلوب كما أسميه حُجَّة الخائب، ويظهر جليًّا ما أن تأتي رواية هادئة تشد القُرَّاء لتَتَبُّع الشَّخصيَّات دون أن تكون هناك فِكْرة مُثيرة في آخر كل فصلٍ تجبرهم على الذهاب للفصل الذي يليه، وهو ما أراه أنا استخفافًا بالقُرَّاء وإغرائهم بالحلوى.
ربما لا يملك البطل العديد من المُغَامرات، لكن تكوين شَخصيَّته وطفولته يُغري بالكثير، ويدفعنا دفعًا لمعرفة ما يدور في دماغه وقد اقتطعت طفولته أو عندما يريد أن يُكْمِل تلك الطفولة، أو عن كيف نتعلَّم أن نعيش حياتنا من جديدٍ، وهو ما يجعلها روايةً هادئةً تستحق القراءة.
ربما لا تبدو قِصَّة رواية “الأفق الأعلى” للوهلة الأولى جديدة. رجل في الخمسينيَّات يُحِبُّ جارته، ما الجديد؟ أين الإضافة! ولكن عنصرًا واحدًا صغيرًا قد يُغيِّر اللُّعبَة تمامًا. في رواية الأُفُق الأعْلَى اختارت الكاتبة فاطمة عبد الحميد أن يكون الرَّاوي هو أداة الجَذْب، وجعلته الرَّاوي الذي نخاف منه جميعًا ونهرب منه، لكن لا مَفَرّ، لا في الحياة ولا في الرواية، وأصبح راوي الأُفُق الأعِلَى هو مَلَاك المَوْتِ.
حَبْكَة الرِّوَاية
تدور رواية الأفق الأعلى حول سليمان الذي تزوَّج وهو طفل في الثالثة عَشْرَة، من سيدةٍ تكبره بأحد عَشَرَ عامًا تحت ضغط ٍمن والدته، وبهذا يخضع سليمان الطفل لقوَّتين أُنثويَّتين، زوجته وأمه. تبدو قِصَّةً مثيرة، تثير العديد من الأفْكَار والمشاعر عن الزواج والطفولة والظلم، لكن للكاتبة رأيٌ آخر، فلن نُكْمِل في هذا الخط، بل ينقلنا مَلَاك المَوْت إلى المستقبل بعد أن استمر هذا الزواج أعوامًا طويلة وماتت الزوجة. ليجد سليمان نفسه مرَّة أخرى يستكشف العَالَم من جديد، من حيث تركه آخر مرَّة كطفلٍ في الثالثة عَشْرَة. إذًا، كيف يكون الحُبّ لأوَّل مرَّة في مطلع الخمسينيَّات من العمر؟
الشَّيطانُ والحُبُّ وحدَهما قادرانِ على العبَثِ بالبشَرِ. أمَّا الشَّيطان فأمره هيّنٌ، إذْ تكفي النِّيَّةُ الصَّادقة أو الموسِيقى لطرده. وأمَّا الحُبُّ، فلا شيءَ يمحُوهُ، بل إنَّ كلّ ما يحدث وما لا يحدث يكون سببًا في إحيائه.
لا يتَّبع مَلَاك المَوْت قِصَّة سليمان وحده، بل سليمان وأبنائه، وكأن العائلة وُعِدَت برائحة المَوْت أينما ذهبت. ثلاثة أبناءٍ، لكلٍ منهم مشاكله وعَالَمه، ولكن كلهم دَوَّخهم الحُبّ بين زوجٍ ومعجبٍ. ولكن يبدو أن أصل كل المشكلات يعود لخللٍ في الأبوين، ومنها نعود مرَّة أخرى إلى قِصَّة الصَّبي الذي تزوَّج قصرًا.
اختيار الرَّاوي
ظَلَّ مَلَاكُ المَوْتِ يُشَارِك بدوره في الرِّوَاية، لكن كعمله الطبيعيّ من وراء الستار كقابضٍ للأرْوَاح لا أكثر، لم يتدخَّل فيما لا يعنيه، وهو ما يثير تساؤلاتٍ عن هذا الاختيار الغريب لشَخصيَّة الموت التي سوف توجد شئنا أم أبينا، فلِمَ إذًا يكون رَاويًا؟
أظن أن إجابة هذا السؤال في بعض الأجزاء التي لن يفسرها لنا سوى كيانٍ غامض؛ الشُّعُور ناحية اللحظات الأخيرة، وهو جانبٌ يُمْكِننا استخدامه في تحليل الشَّخصيَّات وفهمها بشكلٍ أعمق، لكن من أين لنا بنوايا الرُّوح وقت رحيلها؟ وهذا هو ما يفعله مُخْبِرنا؛ مَلَاك المَوْت، إنه يُكْمِل الثغرات التي لا نعرفها، فتتَّضح أمامنا الصُّورة.
إحدى الشَّخصيَّات مثلًا كانت تهتم بصحتها، بالمشي صباحًا، بإفطارها وخضراوتها، وهو ما يوحي بمحاولة اقتناص بعض السَّنوات الإضافية لحياتها، لكن عندما نرى روحها تذهب مع المَوْت فَرِحَةً، فهنا تنقلب الصُّورة لتُعطي تفسيراتٍ مختلفة تمامًا عن السَّنوات الإضافية وحب الحياة وما إلى ذلك. لذا فقد كانت تلك المعلومة الأخيرة، الذي أضافها الرَّاوي الغريب، مفيدةً بل ومُغيِّرة للأحداث.
لا توجد في المَوْت أيُّ مُصَادفةٍ، هكذا هو الأمرُ، فما يأتي إليكَ، يأتي إليكَ باسمِكَ شخصيًّا، لكنَّ النّاسَ يأبَوْنَ التّصْديقَ، إذْ يرفُضُ الجميعُ هذا النَّوعَ مِنَ الألمِ، ألمِ وضْعِ النُّقطةِ الدَّاكنةِ في نهايةِ السَّطرِ الأخيرِ منْ حياةِ أحدِهم، ويصعُبُ عليهم.
مَنْظور الكَاتِبة عن الزَّواج والسَّيْطرة
مما يُثير الاهتمام في الرِّواية، هي فِكْرة الزَّواج. ليست منظومة الزَّواج أو كيف يتحصَّل الشباب علي المهر والبيت، بل فِكْرتهم عن الكلمة وما تعنيه من مخاوفٍ. في الرِّواية لم تضع الكاتبة زِيجة واحدة سليمة، بل خرجت كلها مُشوَّهة أقرب للَّعِب منه إلى الزَّواج. كل الأبطال حتى الرِّجال منهم تزوجوا خوفًا؛ خوفًا من الوحدةِ، أو حتى خوفًا من عائلاتهم، أو خوفًا من عدم إثبات كفاءتهم أو كونهم مرغوبون.
قد نتفهَّم هذا المَنْظور إذا كُتِبَ عن المرأة، لأنها دائمًا من تُنْعَت بالعَانِس ومن يفوتها القطار، لكن الرَّجل “فلا يعيبه إلا جيبه”. وتضطر النساء لقبول التنازلات والعَيْش مع زوجٍ لا يُنَاسبها ولا تُحِبُّه، فقط كي لا تبقى وحيدة. أما الرَّجل فهو المُسَيْطِر، لا يتأخَّر عن الزَّواج. فكيف وصل الخوف إليه وأصبح يهاب عدم الزَّواج؟ الإجابة بسيطة، فقد نسينا أن هؤلاء النِّسْوَة الخوَّافات هُنَّ من يُربِّيْن الأطفال جميعًا من أولادٍ وبناتٍ ويزرعون بداخلهم الخَوْف من التأخُّر عن الرَّكب، الخَوْف الذي يدفع بأم سليمان مثلًا لتزويجَ طفلٍ لا يفهم كيف يفعل ما يفعله الرِّجال.
تَتَابُع بلا لُهَاث
الرِّواية لا تمتلك أحداثًا كثيرة ممتالية تجعلنا نَلْهَث، بل هي أهدأ، وتَتَّبِع الشَّخصيَّات وتحوَّلاتهم ببطءٍ، لتعرف مَكْنُونات صدورهم، وهو ما يُعَد ميزة بعد أن تحوَّلت أغلب الرِّوايات الأدبيَّة إلى سيناريو فيلمٍ سريعٍ مليءٍ بالأحداث، وتحكمه الحركة مجيئًا وذهابًا، وإلا فقد يَمِلّ المُتَلَقِّي، والحقيقة أن هذا الأسلوب كما أسميه حُجَّة الخائب، ويظهر جليًّا ما أن تأتي رواية هادئة تشد القُرَّاء لتَتَبُّع الشَّخصيَّات دون أن تكون هناك فِكْرة مُثيرة في آخر كل فصلٍ تجبرهم على الذهاب للفصل الذي يليه، وهو ما أراه أنا استخفافًا بالقُرَّاء وإغرائهم بالحلوى.
ربما لا يملك البطل العديد من المُغَامرات، لكن تكوين شَخصيَّته وطفولته يُغري بالكثير، ويدفعنا دفعًا لمعرفة ما يدور في دماغه وقد اقتطعت طفولته أو عندما يريد أن يُكْمِل تلك الطفولة، أو عن كيف نتعلَّم أن نعيش حياتنا من جديدٍ، وهو ما يجعلها روايةً هادئةً تستحق القراءة.