حوقل
Ibn Hawqal - Ibn Hawqal
ابن حوقل
(…-367هـ/…- 977م)
أبو القاسم محمد بن علي الموصلي البغدادي المعروف بابن حوقل، رحالة من بلدة نصيبين بالجزيرة. اتخذ التجارة مهنة له، وبدأ تجواله من بغداد عام 331هـ/943م. فحملته أسفاره إلى شمالي إفريقية والأندلس، وزار نابولي وباليرمو في إيطالية، وعرف العراق وإيران وجزءاً من الهند عن كثب، وعاد من أسفاره عام 362هـ/973م. وهذا يعني أنه قضى في الترحال نحو ثلاثين عاماً.
عاش ابن حوقل طويلاً في قرطبة، في عهد عبد الرحمن الثالث؛ أي في عهد ازدهار خلافة الأمويين في الأندلس، والتقى الاصطخري عام 340هـ/951م، فأعجب به الاصطخري وسأله إصلاح كتابه «المسالك والممالك»، وقال: «قد نظرت في مولدك وأثرك، وأنا أسألك إصلاح كتابي هذا حيث ضللت...».
وقد ذكر ابن حوقل هذا اللقاء بقوله: «ولقد لقيت أبا إسحاق الفارسي (الاصطخري). وقد صور هذه الصورة لأرض السند فخلطها، وصور فارس فجوَّزها. وكنت قد صورت أذربيجان التي في هذه الصفحة فاستحسنها، والجزيرة فاستجادها...».
وابن حوقل واحد من أولئك التجار الرحالة، الذين اتخذوا التجارة وسيلة لتعرف خصائص الأقاليم وطبائع الشعوب، وتدوين ما يتعرفونه من ميزات الناس ونوادرهم وغرائبهم، وقد حصر اهتمامه - على وجه التقريب - في وصف دار الإسلام، شأنه في ذلك شأن بقية ممثلي المدرسة الكلاسيكية، وإن كان يتجاوز في حالات معينة نطاق العالم الإسلامي.
ومن الجدير بالذكر، أن ابن حوقل من أوائل الذين خرجوا على المنهج اليوناني في تقسيمه الأرض إلى الأقاليم السبعة، وتخيروا مناطق محددة كوحدات جغرافية متميزة. واتبع في كتابه «صورة الأرض» المنهج نفسه الذي سار عليه الاصطخري في تصنيفه الإقليمي، وتقسيمه العالم الإسلامي إلى عشرين إقليماً، وزاد عليه إقليمين؛ هما إقليم الأندلس وإقليم صقلية. كما أضاف مناطق أخرى لبعض أقاليم الاصطخري، فسمَّى إقليم أرمينية وأذربيجان بإقليم أرمينية وأذربيجان والران، وسمى إقليم الديلم باسم إقليم الدَّيلم وطبرستان، وسمى مفازة خراسان باسم مفازة خراسان وفارس. ومن الواضح أنه التزم في بعض أقسامه الإقليمية بالعامل السياسي والإداري أكثر من التزامه بالعامل الطبيعي، مما جعل أقاليمه أقرب إلى الوحدات السياسية.
وقد سلك ابن حوقل أيضاً المنهج نفسه الذي سار عليه الاصطخري، في وضع الخريطة (المصور) في صدر بحثه عن كل إقليم، وبذلك تصبح الخريطة أساساً للدراسة الجغرافية، وأهميتها كوسيلة لتوضيح المعلومات الجغرافية، أدركها العلماء المسلمون قبل الإدريسي،وارتبطت جغرافيتهم الإقليمية منذ بدايتها برسم الخريطة التي اطلقوا عليها مصطلحات «الرسم» و «الصورة». ولم يستعمل مصطلح الخريطة إلا في القرن التاسع عشر.
ولعل شغف ابن حوقل، منذ حداثته بأخبار البلاد، والوقوف على أحوال الأمصار، قد حدد منهجه. فهذه أمور جعلته كثير الاستعلام والاستخبار من المسافر والتاجر، وقراءة الكتب لتحقيق غايته. وكل ذلك فسره في كتابه، وكان لأسفاره الأثر الكبير في كتاباته، وهذا ما يؤكده بقوله: إنه كان يسأل الرجل الصادق الذي يشعر بصدقه، وكان يجمع ما يأخذ منه برواية ثان وثالث، مؤكداً ذلك بقوله: «... تتنافر الأقوال وتتنافى الحكايات، وكان ذلك داعية إلى ما كنت أحسّه في نفسي بالقوة على الأسفار وركوب الأخطار، ومحبة تصوير المدن وكيفية مواقع الأمصار، وتجاور الأقاليم والأصقاع».
ومجال الجغرافية الإقليمية في منهج ابن حوقل واضح، يحدده إذ يقول: «وقد عملت كتابي هذا بصفة أشكال الأرض، ومقدارها في الطول والعرض، وأقاليم البلدان، ومحل الغامر منها والعمران.. ثم ذكرت ما يحيط (بالأقاليم) من الأماكن والبقاع، وما في أضعافها من المدن والأصقاع، ومالها من القوانين والارتفاع، وما فيها من الأنهار والبحار...».
ويتحدث ابن حوقل في مقدمته عن منهجه، فيستخدم تعبير «صوَّرت» أو أعقبت ذلك بصورة العراق.. ثم صوَّرت بلاد السند.. ثم صوَّرت الجبال وأعمالها.. مما يدل على أن ابن حوقل اعتمد اعتماداً كاملاً على الخرائط والمصورات. وهذا تقليد اتبعته المدرسة الجغرافية العربية الإسلامية في رسم «أطلس الإسلام»
ونصَّ ابن حوقل على أهمية المصور في كتابه، فذكر في المقدمة قائلاً: «قد جعلت لكل قطعة أفردتها تصويراً يحكي موضع الإقليم، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن والبقاع، وما في أضعافها من المدن والأصقاع... واستوفيت صور المدن وسائر ما وجب ذكره... وأعربت عن مكان كل إقليم مما ذكرته، واتصال بعضها ببعض، ومقدار كل ناحية في سعتها، وصورتها من مقدار الطول والعرض والاستدارة والتربيع والتثليث، وسائر ما يكون عليه أشكال تلك الصور».
وباختصار، يلحظ في كتاب ابن حوقل «صورة الأرض» نبضات الحياة في جسم دار الإسلام الكبير الذي تجزأ سياسياً، وبقي حياً اقتصادياً وثقافياً، حتى ولو مالت حياته إلى الظهور على الأطراف عوضاً عن القلب.
على أن أصالة ابن حوقل التامة الشاملة إنما تتجلى في وصف المغرب الذي يجدد فيه فعلاً، إلا أن هذا الوصف ليس سوى وجه واحد، لأن الاهتمام بما وراء النهر، في الطرف الآخر من دار الإسلام، لا يقل عند ابن حوقل أهمية.
وقد ترسَّم ابن حوقل خطا السابقين له في تنظيم كتابه، ولكن مادة الكتاب نفسها معروضة عرضاً دقيقاً مفصلاً، وهذا ما يتضح من قوله: «وقد فصلت بلاد الإسلام إقليماً إقليماً، وصقعاً صقعاً، وكورة كورة لكل عمل، وبدأت بذكر ديار العرب فجعلتها إقليماً واحداً، لأن الكعبة فيها، ومكة أم القرى، وهي واسطة هذه الأقاليم عندي...».
وهكذا، فقد اتبع ابن حوقل منذ البداية - كغيره من الجغرافيين العرب المسلمين - الأسلوب الصحيح في كتابة الجغرافية الوصفية التي تعتمد أسلوب المشاهدة والدراسة الميدانية. وهي تركز في معظمها على الجوانب البشرية أكثر من تركيزها على الجوانب الطبيعية؛ فتناول بالوصف مختلف نواحي الحياة البشرية، متحدثاً عن العادات والتقاليد والحرف والأديان، والطبقات الاجتماعية، والمأكل والملبس، إلى آخر ما يتصل بحياة الإنسان.
ولاشك في أن ازدهار الجغرافية في المنطقة العربية إنما يدل على مكانة هذا العلم في إدارة شؤون الدولة الناشئة، ومعرفة أحوالها وثرواتها ووجوه أموالها وهذا ما أشار إليه ابن حوقل في مقدمة كتابه «صورة الأرض» بقوله: «إنه علم يتفرد به الملوك الساسة، وأهل المروات والسادة من جميع الطبقات».
وتبرز الميول السياسية لابن حوقل من وقت لآخر جلية للعيان، وبذلك يبدو صاحب كتاب «صورة الأرض» شخصية جديدة، هي شخصية التاجر الداعية، فهو النموذج المثالي لدعاة المذاهب، الذين يتجولون في دار الإسلام في القرن الرابع الهجري، ويتحدثون حسبما تسمح به أسفارهم وصفقاتهم التجارية عن إسلام متعدد المذاهب.
صفوح خير
Ibn Hawqal - Ibn Hawqal
ابن حوقل
(…-367هـ/…- 977م)
أبو القاسم محمد بن علي الموصلي البغدادي المعروف بابن حوقل، رحالة من بلدة نصيبين بالجزيرة. اتخذ التجارة مهنة له، وبدأ تجواله من بغداد عام 331هـ/943م. فحملته أسفاره إلى شمالي إفريقية والأندلس، وزار نابولي وباليرمو في إيطالية، وعرف العراق وإيران وجزءاً من الهند عن كثب، وعاد من أسفاره عام 362هـ/973م. وهذا يعني أنه قضى في الترحال نحو ثلاثين عاماً.
عاش ابن حوقل طويلاً في قرطبة، في عهد عبد الرحمن الثالث؛ أي في عهد ازدهار خلافة الأمويين في الأندلس، والتقى الاصطخري عام 340هـ/951م، فأعجب به الاصطخري وسأله إصلاح كتابه «المسالك والممالك»، وقال: «قد نظرت في مولدك وأثرك، وأنا أسألك إصلاح كتابي هذا حيث ضللت...».
وقد ذكر ابن حوقل هذا اللقاء بقوله: «ولقد لقيت أبا إسحاق الفارسي (الاصطخري). وقد صور هذه الصورة لأرض السند فخلطها، وصور فارس فجوَّزها. وكنت قد صورت أذربيجان التي في هذه الصفحة فاستحسنها، والجزيرة فاستجادها...».
وابن حوقل واحد من أولئك التجار الرحالة، الذين اتخذوا التجارة وسيلة لتعرف خصائص الأقاليم وطبائع الشعوب، وتدوين ما يتعرفونه من ميزات الناس ونوادرهم وغرائبهم، وقد حصر اهتمامه - على وجه التقريب - في وصف دار الإسلام، شأنه في ذلك شأن بقية ممثلي المدرسة الكلاسيكية، وإن كان يتجاوز في حالات معينة نطاق العالم الإسلامي.
ومن الجدير بالذكر، أن ابن حوقل من أوائل الذين خرجوا على المنهج اليوناني في تقسيمه الأرض إلى الأقاليم السبعة، وتخيروا مناطق محددة كوحدات جغرافية متميزة. واتبع في كتابه «صورة الأرض» المنهج نفسه الذي سار عليه الاصطخري في تصنيفه الإقليمي، وتقسيمه العالم الإسلامي إلى عشرين إقليماً، وزاد عليه إقليمين؛ هما إقليم الأندلس وإقليم صقلية. كما أضاف مناطق أخرى لبعض أقاليم الاصطخري، فسمَّى إقليم أرمينية وأذربيجان بإقليم أرمينية وأذربيجان والران، وسمى إقليم الديلم باسم إقليم الدَّيلم وطبرستان، وسمى مفازة خراسان باسم مفازة خراسان وفارس. ومن الواضح أنه التزم في بعض أقسامه الإقليمية بالعامل السياسي والإداري أكثر من التزامه بالعامل الطبيعي، مما جعل أقاليمه أقرب إلى الوحدات السياسية.
وقد سلك ابن حوقل أيضاً المنهج نفسه الذي سار عليه الاصطخري، في وضع الخريطة (المصور) في صدر بحثه عن كل إقليم، وبذلك تصبح الخريطة أساساً للدراسة الجغرافية، وأهميتها كوسيلة لتوضيح المعلومات الجغرافية، أدركها العلماء المسلمون قبل الإدريسي،وارتبطت جغرافيتهم الإقليمية منذ بدايتها برسم الخريطة التي اطلقوا عليها مصطلحات «الرسم» و «الصورة». ولم يستعمل مصطلح الخريطة إلا في القرن التاسع عشر.
ولعل شغف ابن حوقل، منذ حداثته بأخبار البلاد، والوقوف على أحوال الأمصار، قد حدد منهجه. فهذه أمور جعلته كثير الاستعلام والاستخبار من المسافر والتاجر، وقراءة الكتب لتحقيق غايته. وكل ذلك فسره في كتابه، وكان لأسفاره الأثر الكبير في كتاباته، وهذا ما يؤكده بقوله: إنه كان يسأل الرجل الصادق الذي يشعر بصدقه، وكان يجمع ما يأخذ منه برواية ثان وثالث، مؤكداً ذلك بقوله: «... تتنافر الأقوال وتتنافى الحكايات، وكان ذلك داعية إلى ما كنت أحسّه في نفسي بالقوة على الأسفار وركوب الأخطار، ومحبة تصوير المدن وكيفية مواقع الأمصار، وتجاور الأقاليم والأصقاع».
ومجال الجغرافية الإقليمية في منهج ابن حوقل واضح، يحدده إذ يقول: «وقد عملت كتابي هذا بصفة أشكال الأرض، ومقدارها في الطول والعرض، وأقاليم البلدان، ومحل الغامر منها والعمران.. ثم ذكرت ما يحيط (بالأقاليم) من الأماكن والبقاع، وما في أضعافها من المدن والأصقاع، ومالها من القوانين والارتفاع، وما فيها من الأنهار والبحار...».
ويتحدث ابن حوقل في مقدمته عن منهجه، فيستخدم تعبير «صوَّرت» أو أعقبت ذلك بصورة العراق.. ثم صوَّرت بلاد السند.. ثم صوَّرت الجبال وأعمالها.. مما يدل على أن ابن حوقل اعتمد اعتماداً كاملاً على الخرائط والمصورات. وهذا تقليد اتبعته المدرسة الجغرافية العربية الإسلامية في رسم «أطلس الإسلام»
ونصَّ ابن حوقل على أهمية المصور في كتابه، فذكر في المقدمة قائلاً: «قد جعلت لكل قطعة أفردتها تصويراً يحكي موضع الإقليم، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن والبقاع، وما في أضعافها من المدن والأصقاع... واستوفيت صور المدن وسائر ما وجب ذكره... وأعربت عن مكان كل إقليم مما ذكرته، واتصال بعضها ببعض، ومقدار كل ناحية في سعتها، وصورتها من مقدار الطول والعرض والاستدارة والتربيع والتثليث، وسائر ما يكون عليه أشكال تلك الصور».
وباختصار، يلحظ في كتاب ابن حوقل «صورة الأرض» نبضات الحياة في جسم دار الإسلام الكبير الذي تجزأ سياسياً، وبقي حياً اقتصادياً وثقافياً، حتى ولو مالت حياته إلى الظهور على الأطراف عوضاً عن القلب.
على أن أصالة ابن حوقل التامة الشاملة إنما تتجلى في وصف المغرب الذي يجدد فيه فعلاً، إلا أن هذا الوصف ليس سوى وجه واحد، لأن الاهتمام بما وراء النهر، في الطرف الآخر من دار الإسلام، لا يقل عند ابن حوقل أهمية.
وقد ترسَّم ابن حوقل خطا السابقين له في تنظيم كتابه، ولكن مادة الكتاب نفسها معروضة عرضاً دقيقاً مفصلاً، وهذا ما يتضح من قوله: «وقد فصلت بلاد الإسلام إقليماً إقليماً، وصقعاً صقعاً، وكورة كورة لكل عمل، وبدأت بذكر ديار العرب فجعلتها إقليماً واحداً، لأن الكعبة فيها، ومكة أم القرى، وهي واسطة هذه الأقاليم عندي...».
وهكذا، فقد اتبع ابن حوقل منذ البداية - كغيره من الجغرافيين العرب المسلمين - الأسلوب الصحيح في كتابة الجغرافية الوصفية التي تعتمد أسلوب المشاهدة والدراسة الميدانية. وهي تركز في معظمها على الجوانب البشرية أكثر من تركيزها على الجوانب الطبيعية؛ فتناول بالوصف مختلف نواحي الحياة البشرية، متحدثاً عن العادات والتقاليد والحرف والأديان، والطبقات الاجتماعية، والمأكل والملبس، إلى آخر ما يتصل بحياة الإنسان.
ولاشك في أن ازدهار الجغرافية في المنطقة العربية إنما يدل على مكانة هذا العلم في إدارة شؤون الدولة الناشئة، ومعرفة أحوالها وثرواتها ووجوه أموالها وهذا ما أشار إليه ابن حوقل في مقدمة كتابه «صورة الأرض» بقوله: «إنه علم يتفرد به الملوك الساسة، وأهل المروات والسادة من جميع الطبقات».
وتبرز الميول السياسية لابن حوقل من وقت لآخر جلية للعيان، وبذلك يبدو صاحب كتاب «صورة الأرض» شخصية جديدة، هي شخصية التاجر الداعية، فهو النموذج المثالي لدعاة المذاهب، الذين يتجولون في دار الإسلام في القرن الرابع الهجري، ويتحدثون حسبما تسمح به أسفارهم وصفقاتهم التجارية عن إسلام متعدد المذاهب.
صفوح خير