الحكمة wisdom في اللغة هي «إتقان الفعل والقول، وإحكامهما»

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحكمة wisdom في اللغة هي «إتقان الفعل والقول، وإحكامهما»

    حكمه

    Wisdom - Sagesse

    الحكمة

    الحكمة wisdom في اللغة هي «إتقان الفعل والقول، وإحكامهما»، ومعرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، وهي النفاذ إلى باطن الأمور وحسن تدبّرها، والمعرفة الأتم، والتبصّر الثاقب. إنها العلم والفقه، والاتزان في الفكر والسلوك، وهي اعتدال وتوسط بين طرفين متناقضين: الإفراط والتفريط. فالحكمة صفة العقل المتعمق الرزين وكمال النفس الناطقة، وبذلك فهي فضيلة عقلية وأخلاقية معاً.
    وقد لازمت الحكمة أصلاً العلم والفلسفة؛ فكانت علم العلوم، وحكمة الحكم، وصناعة الصناعات. والحكمة (صوفيا باليونانية) هي الاسم القديم للفلسفة عند اليونانيين، وتعني العلم أو العلوم مجتمعة في وحدة غير متميزة. وقد أظهرت الحكمة نظرة روحانية شاملة للعالم والإنسان، دلّت على معان لا تبتعد عن الأخلاق والمعايير السلوكية الإنسانية، فكانت بذلك أصل العلوم جميعاً. وعلى هذا الأساس سمي من يختص بالعلوم كلها، بما فيها الطب، حكيماً. وما يزال هذا الاستعمال دارجاً إلى اليوم. فالحكيم طبيب البدن والنفس، لهذا لم يفرق القدماء بين الأطباء والحكماء والمفكرين الكبار. والجدير بالذكر أن كلمة الحكمة طالت أيضاً العمل في العلوم السحرية، وفي تحويل المعادن، والبحث عن الحجر الفلسفي، وإكسير الحياة.
    واتخذت الحكمة عند القدماء معاني دينية، تمثلت في التراثات السومرية والبابلية والمصرية والصينية والهندية، فعرف السومريون كثيراً من الأمثال، والقواعد الحكمية البليغة الموجهة للتعامل الاجتماعي. وقد شاع ذلك النوع في بلاد ما بين النهرين وسورية ومصر الفرعونية (حكمة بتاح حوتب نحو 2500ق.م). وقد انتفع العهد القديم عند العبرانيين من تلك الأمثال، وأشار إليها في أكثر من موضع، كسفر الحكمة المنسوب إلى سليمان الملك وأسفار أيوب والمزامير المنسوبة لداود، وصاغها صياغة هلنستية. وأصبحت الحكمة لاحقاً تعني في الدين المسيحي الكلمة الإلهية، وهي هنا حدسية، تأخذ صفة صوفية، وطابعاً دينياً. وقد أعجب اليونان أيضاً بذلك اللون من الحكمة وصياغتها، فصورها هزيود (القرن الثامن ق.م)، وثيوجينس (القرن السادس ق.م) شعراً، كما نقل «صولون»، أحد الحكماء السبع، والمشرع اليوناني الشهير، الكثير من الحكم الشرقية، وخاصة حكمة حمورابي.
    وقد صاغت حضارات الأمم القديمة ألواناً من التجارب بلغة أدبية ودينية وأسطورية، تمثلت عند الصينيين بكتابات كونفوشيوس (القرن السادس ق.م)، ومينشيوس (القرن الرابع ق.م)، التي حرصوا على تلاوتها وتسجيلها على جدران المعابد والكهوف. بينما امتاز الفكر الهندي، سلوكاً ونظراً، بأخذه الحكمة على أنها الابتعاد عن المجتمع والانقطاع والتخلي وأسلوب العيش الذي يقوم على التشظّف وتسفيل الجسم في الإنسان والسعي لجعل النفس الفردية تدخل البراهما، وبذلك يتخلص الإنسان من الألم والتقمصات المستمرة، ويسعى للتطهر، وبلوغ الخلاص.
    ولما كانت الحكمة في الفكر اليوناني هي الفلسفة، فقد وضع «محب الحكمة» - الفيلسوف - في مقابل «السفسطائي» الذي كان يدعى أنه حكيم ويعلّم الحكمة للناشئة. وحصرت الحكمة بالآلهة فقط؛ وأخذت الفلسفة على أنها حب الحكمة، والرغبة فيها، والسير في طريقها للنقد والمحاكمة.
    وكان سقراط أول من صاغ تصوراً كاملاً لحكمة الإغريق، فقرن بين المعرفة والفضيلة، وأرجع الفشل في الحياة إلى الجهل بمعنى المعرفة. وتطابق مفهوم الحكمة مع مفهوم العلم عند فلاسفة اليونان مثل «هيراقليطس»، كما طابق فيثاغورث الحكمة مع الحقيقة الكلية الثابتة والمطلقة، وعدَّها خاصة تنفرد بها الآلهة فقط، وعدَّ نفسه محباً للحكمة لا حكيماً. أما أفلاطون فقد وصف الحكمة بأنها العيش بمقتضى العقل، وارتبطت عنده بمفهوم العدالة والشجاعة والفصاحة وغيرها من القيم، فكان له الدور الأكبر في إيصال هذه الحكم إلى الناس بأقوال موجزة مثل: لا تسرق، لا تزن، لا تسرف، لا تقطع غصناً أخضر، وغيرها الكثير مما لا تزال تتناقله الألسن حتى اليوم.
    كما قسم أرسطو الحكمة إلى حكمة نظرية وحكمة عملية، وفقاً للغاية التي ينتهي إليها كل علم. فكان موضوع الحكمة النظرية هو العلم الطبيعي (الوجود المحسوس)، والعلم الميتافيزيقي (علم ما بعد الطبيعة والإلهيات)، لأنه ينتهي إلى المعرفة وإصابة الحق. أما موضوع الحكمة العملية فكان الأخلاق والسياسة والمجتمع، لأنها ترمي إلى تدبير الأفعال الإنسانية وتحقيق الخير والعدل والحق. واقتدت الرواقية بهذا التيار العملي، فقرنت الحكمة بالأخلاق: أي الفضيلة، والسعادة.
    وكان اسبينوزا خير ممثل للحكمة العقلية، فأقام الحكمة الأرفع على «محبة الله العقلية»، وعلى التطابق بالفكر الفردي مع الفكر الخالد والنظام الكوني. وتحدث عنها في كتابه «الأخلاق»، ووصفها بأنها: «إعمال الفكر والنظر في الحياة لا في الموت. وللحكيم أن يفكر في العيش، والتحرك، والمحافظة على وجوده، بمقدار متزن، لا أن يغرق في الإماتة والتشظُف. وستكون الغبطة لا مكفأة له، بل ستكون الفضيلة عينها». أما ديكارت فكانت الحكمة عنده تعني المعرفة الكاملة، بكل ما يمكن معرفته لتدبير الحياة وحفظ الصحة واختراع الصناعات.
    وتعني الحكمة في القرآن التعقل، والعلم، والخير الأسمى الذي يجمع الفضيلة والمعرفة في آن واحد. وتشمل الحكمة بذلك معرفة القواعد السلوكية الموافقة لأوامر الدين ونواهيه، وتطبيقها حسب معايير الشريعة وقيمها. وبذلك تكون الحكمة هي الفقه، والعلم الديني، وترد مرتبطة مع كلمة الكتاب والتوراة والإنجيل، وبآيات الله، والعلم، والملك، والخير الكثير ﴿وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (المائدة110). كما تتجاور الحكمة مع «الموعظة الحسنة»، قال تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة (النحل 125)، «فصل الخطاب»، وفي سياق تبيان مواضع الاختلافات. وقد ألهمت هذه الدلالات النظر المتدين في الفكر العربي، ورسمت له خطوط مجاله بأن رأس الحكمة هي معرفة الله الحقة، ومعرفة الحكمة الإلهية الخالدة بوصفها علماً من أشرف أنواع العلوم، لأنه يقذف في النفس والقلب بطريق الكشف والإلهام بفعل المواظبة على العبادة أو بالمكابدة وقهر النفس والجسد، قال تعالى: ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً (البقرة 269). فالحكمة هنا تجربة لا تحليل أو استقراء أو برهان، الحكمة ذوق، وعرفان، وحدسيات. إنها لَدُنِيَّة، ونور يهيأ له ممارسات معينة للفكر والسلوك. وقد أكثر الصوفيون والحكماء والإشراقيون والعارفون من إبراز أصالة وتميز هذه الحكمة التي دعيت «الحكمة الإشراقية» حيث الحقيقة وعلوم الباطن وعلوم الأحوال وعلوم الأسرار وعلم الحقائق وعلم المشاهدات والإشارات[ر. التصوف].
    كما دلّ مصطلح الحكمة في أدب الفكر العربي الإسلامي على مجموع الأقوال الحكمية الهادفة إلى رسم التعامل الأمثل للإنسان في علائقه، وتقديم الخبرات مجسدة في أحكام، واستخلاص العبر، والأمثال والوصايا والآداب. وهذا ما قام به مسكويه في كتابه «الحكمة الخالدة»، وابن المقفع، والنديم في آدابهما، وكذلك حنين بن إسحاق في كتابه الجامع «آداب الفلاسفة»، والسجستاني في كتاب «صوان الحكمة».
    ودلت الحكمة أيضاً، في الفلسفة العربية الإسلامية، على العلوم التي تنظر إلى العالم والإنسان نظرة غير مستمدة من الدين والفقه. من قوله صلى الله عليه وسلم «الحكمة ضالة المؤمن» فوصفها الفلاسفة المسلمون أنها أسمى ما يبلغه المرء، لأنها المعرفة بأفضل العلوم لأفضل الأشياء، فهي العلم بحقائق الأشياء وأوصافها وخواصها وأحكامها على ما هي عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية، وارتباط الأسباب بالمسببات، وأسرار انضباط نظام الموجودات والعمل بمقتضاه؛ فهي علم نظري، غير آلي. وهذا ما أخذ به الفارابي في محاولته التوفيقية للجمع بين آراء الحكيمين المقدمين أفلاطون وأرسطو في كتابه «الجمع بين رأيي الحكيمين». وكذلك ابن سينا الذي أظهر، في كتابه «تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات»، أنه لاشيء في الحكمة يخالف الشرع، وذلك بعد أن قسم الحكمة إلى قسمين: نظري مجرد، وعملي. إذ تشمل الحكمة النظرية العلم الطبيعي والعلم الرياضي والعلم الإلهي؛ أما الحكمة العملية فتضم الحكمة الأخلاقية والحكمة المنزلية والحكمة المدنية. وهذا أيضاً ما عبر عنه ابن رشد في كتابه «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال»[ر. التأويل].
    وبهذا المنظور كانت الحكمة هدفاً للإنسان، عقلاً وسلوكاً، وللأمم والحضارات. تحمل الصفات المثلى في الأحكام، وفي الأفعال، لأنها نداءات للفرد، وللجماعة، باتجاه الأرفع والأشجع والأكثر عقلانية وتفطناً. وتدعو لجعل الإنسان في عيشٍ أفضل، وأسعد، وأكثر أخلاقية وتعقلاً؛ في حرية متعاونة، وفي واقع غير جارح، وفي إنسانية متصالحة مع نفسها وقيمها.
    عدنان ملحم
يعمل...
X