حق
Right - Droit
الحق
للحق في الاصطلاح معنيان:
الأول: النص التشريعي الملزم: وهو بهذا المعنى قريب من مفهوم «الحكم» في اصطلاح علماء الأصول في الإسلام. وهو ذاته معنى «القانون» في اصطلاح علماء القانون، وهو المراد من قولهم «الحقوق المدنية» و«الحقوق الدستورية» وغيرها. وينقسم عندهم إلى قسمين:
1- الحقوق العامة: وهي مجموعة القواعد القانونية المنظمة للعلاقات التي تكون الدولة، بصفتها صاحبة السيادة والسلطان،طرفاً فيها. وتندرج في هذا القسم عدة قوانين كالقانون الدستوري، والقانون الإداري، والقانون الدولي العام، وقانون العقوبات، وقانون أصول المحاكمات الجزائية وغيرها.
2- الحقوق الخاصة: وهي مجموعة القواعد القانونية المنظمة للعلاقات التي لا تكون الدولة، بصفتها صاحبة السيادة والسلطان، طرفاً فيها. وتندرج في هذا القسم عدة قوانين كالقانون المدني، وقانون التجارة، وقانون الأحوال الشخصية، وقانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية والقانون الدولي الخاص، وغيرها.
الثاني: الاختصاص، أو المَكِنَة المشروعة، أي المطلب الذي يقرره التشريع لشخص على آخر. وهذا المعنى متفق عليه بين فقهاء الشريعة الإسلامية ورجال القانون الوضعي. وهو المراد من قولهم: «إن للمشتري الحق في رد المبيع بالعيب الجسيم» و«إن التصرف على الصغير حق لوليّه أو وصيّه». ونحو ذلك. وهذا المعنى الثاني هو المعنى الغالب في الاستعمال، وهو المتبادر أصلاً عند ذكر كلمة «الحق».
وفكرة الحق في ذاتها هي ثمرة التفكير الاجتماعي في الرأي العام البشري.فالإنسان مدني بطبعه، وهو مفطور على الحياة الاجتماعية. والجماعات البشرية، منذ عهد الإنسان الأول، تتكل على نفسها، وتعيش عيشة مشتركة متعاونة، وتسعى لتلبية حاجات أفرادها الدائمة والمؤقتة.
إلا أن حاجات الناس تتصادم، وينشأ عن ذلك تعارض الإرادات في اكتساب ما يقوم بوفاء تلك الحاجات. ولقد كان هذا التصادم، وما ينشأ عنه من تعارض، هو العامل الأساس في الشعور بضرورة وضع النظام بجانب الحاجات، كي لا تطغى حاجة إنسان على حاجة غيره، ولا تصطدم إرادته أو حريته بإرادة أو حرية سواه. وليس هذا النظام الذي شعرت البشرية جمعاء بالحاجة إليه منذ أقدم عصورها سوى «الحق» الذي يبيّن ما يختص به كل إنسان من مكنات وسلطات من جهة، ويضع حداً يحجز بين حريات الناس أن تلتهم إحداها الأخرى من جهة أخرى. وبهذا المفهوم يكون الحق اختصاصاً يقرر به الشرع للشخص سلطة أو تكليفاً.
وبدهي أنه لا معنى للحق إلا عندما تتصّور فيه ميّزة ما ممنوحة لصاحبه، وممنوعة عن غيره. كالثمن يختص به البائع، وممارسة الولاية يختص بها الولي، وغير ذلك، فلا وجود للحق إلا بوجود الاختصاص الذي هو قوامه وحقيقته. أما السلطة فهي وسيلة الوصول إلى الحق، وأما المصلحة فهي الثمرة التي تنتج من الوصول إلى الحق. وبدهي بعد ذلك أن السلطة والمصلحة لا يعبّران عن جوهر الحق وماهيته.
ويتصل بالحق عدة أمور هي:
أولاً: مصدر الحق
يختلف الباحثون في الحق حول مصدره على رأيين اثنين:
فيذهب فريق إلى أن الحق مفهوم فطري المصدر، مستمد في وجوده من الإنسان نفسه، وأن العقل السليم يكشف عنه. كالحق في الحياة، والحرية، والعمل، والأمن على النفس والأهل والمال، ونحو ذلك. وهم يرون أن هذه الحقوق وأمثالها ملازمة للصفة الإنسانية ولا يجوز لأحد، بما في ذلك المشرع، أن يلغي هذه الحقوق أو يتعدى عليها، لأنها مفاهيم وقواعد مثالية سامية تفرضها طبائع الأشياء. ويقولون إن فروع هذه الحقوق تتنوع، وتتطور مع الزمن لتحقيق الحرية الفردية من جهة، والتضامن الاجتماعي من جهة أخرى.
أما الفريق الآخر فيذهب إلى أن الله تعالى هو مصدر الحق، وأنه ليس للناس على الله - وهم جميعاً عباده - أي حق، وإنما الحق منحة منه بمحض تفضل وإحسان. ويقولون إن الله وحده هو الحاكم على الناس، وإليه الحكم بينهم، ولا يصح التشريع إلا منه وحده. وأن مما قضى به أن يكون للناس مجال واسع للتشريع يشمل معظم المصالح الدنيوية المتعلقة بالتعايش الاجتماعي والمعاملات. وقد منحهم الحق بسن التشريعات اللازمة لتحقيق هذه المصالح بما لا يخالف أوامره ونواهيه، وبما ينصب على حسن تطبيق هذه الأوامر والنواهي، وأن هذا التشريع الإنساني على تنوعه قابل للتطور مع الزمن لتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ثانياً: أركان الحق
للحق أركان خمسة هي:
1- الأطراف: وهم الذين تكون العلاقة الحقوقية قائمة بينهم. ففي العلاقة بين الإنسان وخالقه يكون الله تعالى هو الطرف الأول. والإنسان هو الطرف الآخر. أما في العلاقات الإنسانية فإن أطراف الحق هم الأشخاص سواء أكانوا أشخاصاً طبيعيين أم معنويين، لأنهم هم أصحاب الحقوق. ويلاحظ أن أطراف الحقوق على نوعين: أطراف إيجابيون وهم أصحاب الحقوق، وأطراف سلبيون وهم الذين تقع عليهم الالتزامات المقابلة لهذه الحقوق. وكل حق أياً كان نوعه لابد وأن يقابله واجب.
2- المحل: وهو الشيء المادي أو المعنوي الذي يتعلق به هذا الحق. فمحل الحق بالنسبة للمالك مثلاً هو الشيء المادي الذي تقع عليه ملكيته كالأرض، أو الكتاب، ونحو ذلك. وقد يكون محل الحق ـ في الحقوق الشخصية ـ القيام بعمل أو الامتناع عن عمل لمصلحة صاحب الحق.
3- المضمون: وهو السلطة التي يخولها الحق لصاحبه، وهو في حق الملكية مثلاً سلطة استعمال الشيء المملوك واستغلاله والتصرف فيه. وهو في عقد القرض مثلاً سلطة إجبار المدين على وفاء الدين.
4- السبب: وهو التصرف أو الواقعة القانونية التي يتولد عنها الحق. فالولادة سبب لنشوء حق المولود بلقب أبيه، والفعل الضار سبب لنشوء حق المتضرر بالتعويض. والوفاة سبب لنشوء حق الوارث بالميراث. وعقد البيع سبب لنشوء حق المشتري باستلام المبيع. وهكذا.
5- المؤيد: وهو نظام الحماية التي يسبغها التشريع على الحق ليتمكن صاحبه من التمتع به من جهة، وليمنع الغير من الاعتداء عليه من جهة أخرى. فالعقوبة على القتل هي المؤيد للحق في الحياة. والالتزام بضمان عيوب البيع الخفية هو المؤيد لحق المشتري في الانتفاع بالمبيع على أتم وجه. والثواب والعقاب في الآخرة هما المؤيد لحقوق الله على عباده. وهكذا.
ثالثاً: أقسام الحق
ينقسم الحق بمعناه العام إلى قسمين رئيسين:
1- حق الله: وهو ما أمر الله تعالى به عباده من أفعال، أو نهاهم عنه. كفروضه من صلاة وصيام وزكاة وحج ومحرماته من شرك وقتل ونهب وغير ذلك.
2- حق العباد: وهو ينقسم بدوره إلى قسمين:
أ ـ حق غير مالي: كالحقوق السياسية مثل حق تولي الوظائف العامة، وحق الانتخاب، وحق المشاركة في رسم سياسة الدولة وفقاً للأنظمة والقوانين. وكحقوق الإنسان الأساسية مثل الحق في الحياة والحرية والعمل والأمن ونحوها. وكالحقوق الأسرية مثل الزواج والطلاق والنفقة والنسب والحضانة والإرث وطاعة الولد لوالده والزوجة لزوجها بالمعروف.
ب ـ حق مالي: وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
ـ الحق الشخصي: وهو مطلب يقرّه التشريع لشخص على آخر. سواء أكان قياماً بعمل أم امتناعاً عن عمل. وذلك كحق كل من المتبايعين على الآخر. فإن البائع يستحق أداء الثمن إليه من المشتري. والمشتري يستحق تسليم المبيع إليه من البائع، وكل من هذين الحقين «عمل» وكذا حق المودع على الوديع في ألا يستعمل الوديعة، وهذا الحق «امتناع عن عمل».
ـ الحق العيني: وهو سلطة يقرّها التشريع لشخص على شيء معين. وهو إما أصلي أو تبعي.
فالأصلي هو الذي له مفهوم ووجود مستقل يتحقق بمجرد وجود الشيء المعين وصاحبه. كحق الملكية والانتفاع والارتفاق والوقف والسطحية، والأفضلية على الأراضي الخالية المباحة، والخيار الناتج من الوعد بالبيع.
أما التبعي فهو توثيقي. يثبت ويقرر لشخص دائن على مالٍ معين مملوك لشخص آخر هو المدين، ليتمكن الدائن من استيفاء دينه منه عند عدم وفاء المدين بالتزامه. كحق الاحتباس والرهن والتأمين العيني والامتياز.
ـ الحق الذهني: «الابتكار» وهو حق حديث نسبياً أوجدته أوضاع الحياة المدنية الحديثة ونظمته القوانين المعاصرة. والاتفاقات الدولية. كحق المخترع، والمؤلف، وكل منتج لأثر فني أو صناعي مبتكر. فإن لهؤلاء حقاً في الاحتفاظ بنسبة ما اخترعوه أو ألفوه أو أنتجوه إليهم من جهة المنفعة المالية أو الأدبية. ومثله العلامات الصناعية الفارقة، والعناوين التجارية، وكل ذلك ضمن شروط وحدود تنظمها القوانين الوطنية، والاتفاقات الدولية.
رابعاً: التعسف في استعمال الحق
يستطيع صاحب الحق، من حيث المبدأ، أن يستعمل حقه الممنوح له بالشكل الذي يراه مناسباً دون أن يكون مسؤولاً عما ينجم عن ذلك من ضرر للآخرين. ما دام لا يتعدى حدود حقه، ولا يتجاوز نطاقه المشروع. وهذا هو معنى قولهم: « الجواز الشرعي ينافي الضمان».
إلا أن هذا المبدأ لا يمكن العمل به على إطلاقه؛ ففي بعض الحالات، وعلى الرغم من عدم التعدي، تنتج من استعمال الحق بطريقة تعسفية، نتائج ضارة بالآخرين أو بالمجتمع مما يأباه النظر الحقوقي السليم.
ويلاحظ هنا أن المتعسف إنما يعمل في حدود دائرة حقّه لا يتعداها، ومع ذلك يعد مسؤولاً عن هذا التعسف، شأنه شأن المعتدي الذي تجاوز حدود حقه إلى حقوق الآخرين. وفكرة التعسف في استعمال الحق تمليها فكرة الوظيفة الاجتماعية للحق والتي تقضي بضرورة استعمال الحق استعمالاً يحقق الخير والصالح العام، من دون أن يترتب عليه ضرر للآخرين.
ويعد الشخص متعسفاً في استعمال حقه، وبالتالي عرضة للمسؤولية أمام التشريع في الحالات الآتية:
1ـ إذا لم يقصد سوى الإضرار بالغير. كمن يبني في أرضه جداراً مرتفعاً جداً لا حاجة له به ليمنع عن جاره النور والهواء.
2ـ إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية، بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها. كمن يعمد إلى ممارسة هوايته في تربية الحمام وسط بيوت الجيران بحيث يتأذى الناس من مخلفاتها التي تصيب أطعمتهم وحبوبهم المكشوفة أو ثيابهم أو ملابسهم.
3ـ إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة. كمن يجعل من داره نادياً للقمار أو الدعارة.
خامساً: التنازل عن الحق
يملك صاحب الحق ـ من حيث الأصل ـ مطلق الحرية في التنازل عن حقه، ويتم هذا التنازل بعوض عن طريق البيع مثلاً، أو من دون عوض عن طريق الهبة وأمثالها.
وقد يقع التنازل أحياناً في دعوى منظورة أمام القضاء كالتنازل عن الحق المدعى به، وقد يقع بعد صدور حكم فيها كالتنازل عن الحكم.
على أن هناك حقوقاً لا تقبل التنازل عنها للغير بطبيعتها. كالحق في لقب العائلة والنسب، وكثير من الحقوق الزوجية، وكذلك بعض الحقوق السياسية كالانتخاب مثلاً، ومثلها عدد من حقوق الإنسان كالحق في الحياة.
سادساً: سقوط الحق
قد يحدث أن يسقط الحق بعد ثبوته فيغدو كأن لم يكن، وقد يكون هذا السقوط اختيارياً كمن يسقط حقه في طلب التعويض عما أصابه من ضرر، وقد يكون بحكم القانون كما هو الحال في التقادم[ر]. وتذهب بعض التشريعات في بعض الحالات إلى الحكم بسقوط الحق في الشيء بعدم استعماله فيما أُعِد له. كمن يترك زراعة أرضه مدة من الزمن، فيؤدي هذا إلى مصادرة أرضه ونزع ملكيته عنها وسقوط حقه بها.
محمد وفا ريشي
Right - Droit
الحق
للحق في الاصطلاح معنيان:
الأول: النص التشريعي الملزم: وهو بهذا المعنى قريب من مفهوم «الحكم» في اصطلاح علماء الأصول في الإسلام. وهو ذاته معنى «القانون» في اصطلاح علماء القانون، وهو المراد من قولهم «الحقوق المدنية» و«الحقوق الدستورية» وغيرها. وينقسم عندهم إلى قسمين:
1- الحقوق العامة: وهي مجموعة القواعد القانونية المنظمة للعلاقات التي تكون الدولة، بصفتها صاحبة السيادة والسلطان،طرفاً فيها. وتندرج في هذا القسم عدة قوانين كالقانون الدستوري، والقانون الإداري، والقانون الدولي العام، وقانون العقوبات، وقانون أصول المحاكمات الجزائية وغيرها.
2- الحقوق الخاصة: وهي مجموعة القواعد القانونية المنظمة للعلاقات التي لا تكون الدولة، بصفتها صاحبة السيادة والسلطان، طرفاً فيها. وتندرج في هذا القسم عدة قوانين كالقانون المدني، وقانون التجارة، وقانون الأحوال الشخصية، وقانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية والقانون الدولي الخاص، وغيرها.
الثاني: الاختصاص، أو المَكِنَة المشروعة، أي المطلب الذي يقرره التشريع لشخص على آخر. وهذا المعنى متفق عليه بين فقهاء الشريعة الإسلامية ورجال القانون الوضعي. وهو المراد من قولهم: «إن للمشتري الحق في رد المبيع بالعيب الجسيم» و«إن التصرف على الصغير حق لوليّه أو وصيّه». ونحو ذلك. وهذا المعنى الثاني هو المعنى الغالب في الاستعمال، وهو المتبادر أصلاً عند ذكر كلمة «الحق».
وفكرة الحق في ذاتها هي ثمرة التفكير الاجتماعي في الرأي العام البشري.فالإنسان مدني بطبعه، وهو مفطور على الحياة الاجتماعية. والجماعات البشرية، منذ عهد الإنسان الأول، تتكل على نفسها، وتعيش عيشة مشتركة متعاونة، وتسعى لتلبية حاجات أفرادها الدائمة والمؤقتة.
إلا أن حاجات الناس تتصادم، وينشأ عن ذلك تعارض الإرادات في اكتساب ما يقوم بوفاء تلك الحاجات. ولقد كان هذا التصادم، وما ينشأ عنه من تعارض، هو العامل الأساس في الشعور بضرورة وضع النظام بجانب الحاجات، كي لا تطغى حاجة إنسان على حاجة غيره، ولا تصطدم إرادته أو حريته بإرادة أو حرية سواه. وليس هذا النظام الذي شعرت البشرية جمعاء بالحاجة إليه منذ أقدم عصورها سوى «الحق» الذي يبيّن ما يختص به كل إنسان من مكنات وسلطات من جهة، ويضع حداً يحجز بين حريات الناس أن تلتهم إحداها الأخرى من جهة أخرى. وبهذا المفهوم يكون الحق اختصاصاً يقرر به الشرع للشخص سلطة أو تكليفاً.
وبدهي أنه لا معنى للحق إلا عندما تتصّور فيه ميّزة ما ممنوحة لصاحبه، وممنوعة عن غيره. كالثمن يختص به البائع، وممارسة الولاية يختص بها الولي، وغير ذلك، فلا وجود للحق إلا بوجود الاختصاص الذي هو قوامه وحقيقته. أما السلطة فهي وسيلة الوصول إلى الحق، وأما المصلحة فهي الثمرة التي تنتج من الوصول إلى الحق. وبدهي بعد ذلك أن السلطة والمصلحة لا يعبّران عن جوهر الحق وماهيته.
ويتصل بالحق عدة أمور هي:
أولاً: مصدر الحق
يختلف الباحثون في الحق حول مصدره على رأيين اثنين:
فيذهب فريق إلى أن الحق مفهوم فطري المصدر، مستمد في وجوده من الإنسان نفسه، وأن العقل السليم يكشف عنه. كالحق في الحياة، والحرية، والعمل، والأمن على النفس والأهل والمال، ونحو ذلك. وهم يرون أن هذه الحقوق وأمثالها ملازمة للصفة الإنسانية ولا يجوز لأحد، بما في ذلك المشرع، أن يلغي هذه الحقوق أو يتعدى عليها، لأنها مفاهيم وقواعد مثالية سامية تفرضها طبائع الأشياء. ويقولون إن فروع هذه الحقوق تتنوع، وتتطور مع الزمن لتحقيق الحرية الفردية من جهة، والتضامن الاجتماعي من جهة أخرى.
أما الفريق الآخر فيذهب إلى أن الله تعالى هو مصدر الحق، وأنه ليس للناس على الله - وهم جميعاً عباده - أي حق، وإنما الحق منحة منه بمحض تفضل وإحسان. ويقولون إن الله وحده هو الحاكم على الناس، وإليه الحكم بينهم، ولا يصح التشريع إلا منه وحده. وأن مما قضى به أن يكون للناس مجال واسع للتشريع يشمل معظم المصالح الدنيوية المتعلقة بالتعايش الاجتماعي والمعاملات. وقد منحهم الحق بسن التشريعات اللازمة لتحقيق هذه المصالح بما لا يخالف أوامره ونواهيه، وبما ينصب على حسن تطبيق هذه الأوامر والنواهي، وأن هذا التشريع الإنساني على تنوعه قابل للتطور مع الزمن لتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ثانياً: أركان الحق
للحق أركان خمسة هي:
1- الأطراف: وهم الذين تكون العلاقة الحقوقية قائمة بينهم. ففي العلاقة بين الإنسان وخالقه يكون الله تعالى هو الطرف الأول. والإنسان هو الطرف الآخر. أما في العلاقات الإنسانية فإن أطراف الحق هم الأشخاص سواء أكانوا أشخاصاً طبيعيين أم معنويين، لأنهم هم أصحاب الحقوق. ويلاحظ أن أطراف الحقوق على نوعين: أطراف إيجابيون وهم أصحاب الحقوق، وأطراف سلبيون وهم الذين تقع عليهم الالتزامات المقابلة لهذه الحقوق. وكل حق أياً كان نوعه لابد وأن يقابله واجب.
2- المحل: وهو الشيء المادي أو المعنوي الذي يتعلق به هذا الحق. فمحل الحق بالنسبة للمالك مثلاً هو الشيء المادي الذي تقع عليه ملكيته كالأرض، أو الكتاب، ونحو ذلك. وقد يكون محل الحق ـ في الحقوق الشخصية ـ القيام بعمل أو الامتناع عن عمل لمصلحة صاحب الحق.
3- المضمون: وهو السلطة التي يخولها الحق لصاحبه، وهو في حق الملكية مثلاً سلطة استعمال الشيء المملوك واستغلاله والتصرف فيه. وهو في عقد القرض مثلاً سلطة إجبار المدين على وفاء الدين.
4- السبب: وهو التصرف أو الواقعة القانونية التي يتولد عنها الحق. فالولادة سبب لنشوء حق المولود بلقب أبيه، والفعل الضار سبب لنشوء حق المتضرر بالتعويض. والوفاة سبب لنشوء حق الوارث بالميراث. وعقد البيع سبب لنشوء حق المشتري باستلام المبيع. وهكذا.
5- المؤيد: وهو نظام الحماية التي يسبغها التشريع على الحق ليتمكن صاحبه من التمتع به من جهة، وليمنع الغير من الاعتداء عليه من جهة أخرى. فالعقوبة على القتل هي المؤيد للحق في الحياة. والالتزام بضمان عيوب البيع الخفية هو المؤيد لحق المشتري في الانتفاع بالمبيع على أتم وجه. والثواب والعقاب في الآخرة هما المؤيد لحقوق الله على عباده. وهكذا.
ثالثاً: أقسام الحق
ينقسم الحق بمعناه العام إلى قسمين رئيسين:
1- حق الله: وهو ما أمر الله تعالى به عباده من أفعال، أو نهاهم عنه. كفروضه من صلاة وصيام وزكاة وحج ومحرماته من شرك وقتل ونهب وغير ذلك.
2- حق العباد: وهو ينقسم بدوره إلى قسمين:
أ ـ حق غير مالي: كالحقوق السياسية مثل حق تولي الوظائف العامة، وحق الانتخاب، وحق المشاركة في رسم سياسة الدولة وفقاً للأنظمة والقوانين. وكحقوق الإنسان الأساسية مثل الحق في الحياة والحرية والعمل والأمن ونحوها. وكالحقوق الأسرية مثل الزواج والطلاق والنفقة والنسب والحضانة والإرث وطاعة الولد لوالده والزوجة لزوجها بالمعروف.
ب ـ حق مالي: وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
ـ الحق الشخصي: وهو مطلب يقرّه التشريع لشخص على آخر. سواء أكان قياماً بعمل أم امتناعاً عن عمل. وذلك كحق كل من المتبايعين على الآخر. فإن البائع يستحق أداء الثمن إليه من المشتري. والمشتري يستحق تسليم المبيع إليه من البائع، وكل من هذين الحقين «عمل» وكذا حق المودع على الوديع في ألا يستعمل الوديعة، وهذا الحق «امتناع عن عمل».
ـ الحق العيني: وهو سلطة يقرّها التشريع لشخص على شيء معين. وهو إما أصلي أو تبعي.
فالأصلي هو الذي له مفهوم ووجود مستقل يتحقق بمجرد وجود الشيء المعين وصاحبه. كحق الملكية والانتفاع والارتفاق والوقف والسطحية، والأفضلية على الأراضي الخالية المباحة، والخيار الناتج من الوعد بالبيع.
أما التبعي فهو توثيقي. يثبت ويقرر لشخص دائن على مالٍ معين مملوك لشخص آخر هو المدين، ليتمكن الدائن من استيفاء دينه منه عند عدم وفاء المدين بالتزامه. كحق الاحتباس والرهن والتأمين العيني والامتياز.
ـ الحق الذهني: «الابتكار» وهو حق حديث نسبياً أوجدته أوضاع الحياة المدنية الحديثة ونظمته القوانين المعاصرة. والاتفاقات الدولية. كحق المخترع، والمؤلف، وكل منتج لأثر فني أو صناعي مبتكر. فإن لهؤلاء حقاً في الاحتفاظ بنسبة ما اخترعوه أو ألفوه أو أنتجوه إليهم من جهة المنفعة المالية أو الأدبية. ومثله العلامات الصناعية الفارقة، والعناوين التجارية، وكل ذلك ضمن شروط وحدود تنظمها القوانين الوطنية، والاتفاقات الدولية.
رابعاً: التعسف في استعمال الحق
يستطيع صاحب الحق، من حيث المبدأ، أن يستعمل حقه الممنوح له بالشكل الذي يراه مناسباً دون أن يكون مسؤولاً عما ينجم عن ذلك من ضرر للآخرين. ما دام لا يتعدى حدود حقه، ولا يتجاوز نطاقه المشروع. وهذا هو معنى قولهم: « الجواز الشرعي ينافي الضمان».
إلا أن هذا المبدأ لا يمكن العمل به على إطلاقه؛ ففي بعض الحالات، وعلى الرغم من عدم التعدي، تنتج من استعمال الحق بطريقة تعسفية، نتائج ضارة بالآخرين أو بالمجتمع مما يأباه النظر الحقوقي السليم.
ويلاحظ هنا أن المتعسف إنما يعمل في حدود دائرة حقّه لا يتعداها، ومع ذلك يعد مسؤولاً عن هذا التعسف، شأنه شأن المعتدي الذي تجاوز حدود حقه إلى حقوق الآخرين. وفكرة التعسف في استعمال الحق تمليها فكرة الوظيفة الاجتماعية للحق والتي تقضي بضرورة استعمال الحق استعمالاً يحقق الخير والصالح العام، من دون أن يترتب عليه ضرر للآخرين.
ويعد الشخص متعسفاً في استعمال حقه، وبالتالي عرضة للمسؤولية أمام التشريع في الحالات الآتية:
1ـ إذا لم يقصد سوى الإضرار بالغير. كمن يبني في أرضه جداراً مرتفعاً جداً لا حاجة له به ليمنع عن جاره النور والهواء.
2ـ إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية، بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها. كمن يعمد إلى ممارسة هوايته في تربية الحمام وسط بيوت الجيران بحيث يتأذى الناس من مخلفاتها التي تصيب أطعمتهم وحبوبهم المكشوفة أو ثيابهم أو ملابسهم.
3ـ إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة. كمن يجعل من داره نادياً للقمار أو الدعارة.
خامساً: التنازل عن الحق
يملك صاحب الحق ـ من حيث الأصل ـ مطلق الحرية في التنازل عن حقه، ويتم هذا التنازل بعوض عن طريق البيع مثلاً، أو من دون عوض عن طريق الهبة وأمثالها.
وقد يقع التنازل أحياناً في دعوى منظورة أمام القضاء كالتنازل عن الحق المدعى به، وقد يقع بعد صدور حكم فيها كالتنازل عن الحكم.
على أن هناك حقوقاً لا تقبل التنازل عنها للغير بطبيعتها. كالحق في لقب العائلة والنسب، وكثير من الحقوق الزوجية، وكذلك بعض الحقوق السياسية كالانتخاب مثلاً، ومثلها عدد من حقوق الإنسان كالحق في الحياة.
سادساً: سقوط الحق
قد يحدث أن يسقط الحق بعد ثبوته فيغدو كأن لم يكن، وقد يكون هذا السقوط اختيارياً كمن يسقط حقه في طلب التعويض عما أصابه من ضرر، وقد يكون بحكم القانون كما هو الحال في التقادم[ر]. وتذهب بعض التشريعات في بعض الحالات إلى الحكم بسقوط الحق في الشيء بعدم استعماله فيما أُعِد له. كمن يترك زراعة أرضه مدة من الزمن، فيؤدي هذا إلى مصادرة أرضه ونزع ملكيته عنها وسقوط حقه بها.
محمد وفا ريشي