الطبال المنتحر
محمد محسن 21 مارس 2023
سير
"الانتحار" (ArtStation)
شارك هذا المقال
حجم الخط
"كل أعضائي هادئة باستثناء العراق"- هيالجملة التي صعقتني عندما وجدت أدرانها القديمة ملطخة بدم شاعرها الشاب قاسم جبارة، الشاعر المنتحر، والمهندس الحالم الذي لم يكمل دراسة الهندسة.
جاء من الجنوب كعادة ذلك الجنوب الذي لا يعرف الهدنة، يُقيم أضحية، لكن الحزن الكوني على روح الحلم المُشع في عيون أبنائه، العراق، العضو المتورم لدى قاسم، حيث أخذ يكبر ويكبر حتى غرق فكره بالوحل والخوف الدائم على العراق. العراق لا يشبه أحدًا... خوف دائم حتى الانتحار... ذلك ما قاله لنا قاسم بمسدس غجري.
هرب جبارة من بغداد إلى النمسا بسبب سطوة الحزب البعثي حينها. كان يظن فيينا مدينة الهواء الجميل والنسيم العليل، وبالفعل أخذ العلة فقط من الوجود الفسيح والضيق اللانهائي حتى الشلل والموت. أمجاد رئتيه المتنفسة بعد القمع الشعوري عن كل متنفس، فيينا مدينة الرصاصة بالنسبة إليه.
ماذا يفعل عامل صحون في القارةِ العجوز برأسهِ الشاعري والهندسي؟ كم عليه أن يتفنن بالماءِ قبل تنظيف بقايا العوز الجنوبي؟ كم عليه أن يغسل بقصائدهِ أفواهًا خاطفة لا تبصر غير الجوع المادي والبصر المحسوس على الموائد؟ كم تمنى الشاعر تحرير رأسه من العراق. في النقطة البعيدة ظلت عيناه ترنو نحو الحنين غير المرئي الذي يدور عند القصب الجنوبي وأبواب العاصمة المرعبة، لكن ذلك محال. على يقين لو كان الشاعر يعرف نظام "الفرمته" في زمانه لما تردد في محو نصف خوفه على الأقل من كل حواسيب العراق. ذلك الخوف الذي يعرفه أرسطو "الخوف ألم نابع من توقع الشر"، إذًا على الشاعر أن يتوقع الشر بهذا العالم؟ الشاعر لا يتوقع شيئًا، بل هو الشر نفسه، شرّ الذكرى، شرّ الحس الفتاك قبل اختراع النووي... الشاعر اخترع من رأسهِ قنبلة يطورها في كل قصيدة ولا تخصيب محددًا لكلِ برنامجه المحاط بالنكسة.
قاسم سليل القصب وصاحب ديوان "طبال الليل" الذي قام بجمعه الشاعر والمترجم المغترب جمال جمعة. يدرك ذلك طبال الصحون وتوزيع الإعلانات وبيع الصحف أن محاولة زوجته النمساوية الفاشلة في الانتحار عبارة عن أمل في الموت.
حياتنا رخيصة مثل موتنا... قرر الموت الرخيص أن يذهب إلى غجري يبيع الخرداوات واشترى مسدسًا يجرب به حياته في مكان آخر... الغريب أن محاولاته تلك فشلت فلم يُحسن التصويب... يبدو لم يدرس الهندسة بشكلٍ جيد أو أن رأسه أكبر من الرصاصة... في النهاية وقع مشلولًا... كان عليه طاعة أصابعه المرتجفة التي لا تشتاق التراب الآن. توفي بعد فترة قصيرة. ظل يناغي السقوف المطلية بروائح المرضى والحنين الأول ودُفن بمقبرةٍ جماعية لمن لا يملك أرضًا خاصة دون شاهدة قبر...
لا أحد يستطيع العيش والموت بسرية مثلما فعل قاسم، يخاف من أن يستفرد به رجالات الأمن، لذلك قرر الحياة برقبة طويلة تتلفّت على الدوام، وقرر الموت بمقبرة جماعية خشية الوشاية به من الديدان التي لن تميّز بين اللحوم العديدة.
بعض نصوص الشاعر قاسم جبارة:
راض بالصمت
وبالثرثرة العظمى
بالهذيان الهائل
بالذكرى إذ تسقط في بئر سوداء
باللحية والشعر الكث
وبالجلد المدبوغ
وبمسح صحون القوادين
بنشيد الصف الثالث
بصديقة الملاية
بالقرآن
بتنزيلات السوق
أغنية الطفل الأصم
لا أريد الفراشة، عندي على المنضدة
قارب وشموع
لا أريد الفراشة، عندي هلال حديد
وعندي صوتي الذي ابتلعته النجوم
لا أريد الفراشة، عندي نافذة
وأغان على بركة في الجدار
كلما سقطت نجمة وسطها
تحركت نحوي دوائرها
دائرة دائرة دائرة
لا أريد الفراشة
لا أريد الفراشة
لا أريد سوى نجمة واحدة
لتحوّل الفضاء فضة
والشموع غيمة
ومنضدتي بركة ثانية.
سياحة بحرية
التوهج يحمل زرقته
ويواصل تجميعها في الضفاف
ثم يطفئها في الخواتم
في صمت بوصلة
في حكاية أبكم، أو
في سوار نزيل
المراكب عائدة دون أشرعة
والمظلات مغمورة بالمياه
في الحديقة يوقفني فجأة
مشهد جاموسة
تمخر البحر نحو الضفاف.
*كاتب من العراق.
محمد محسن 21 مارس 2023
سير
"الانتحار" (ArtStation)
شارك هذا المقال
حجم الخط
"كل أعضائي هادئة باستثناء العراق"- هيالجملة التي صعقتني عندما وجدت أدرانها القديمة ملطخة بدم شاعرها الشاب قاسم جبارة، الشاعر المنتحر، والمهندس الحالم الذي لم يكمل دراسة الهندسة.
جاء من الجنوب كعادة ذلك الجنوب الذي لا يعرف الهدنة، يُقيم أضحية، لكن الحزن الكوني على روح الحلم المُشع في عيون أبنائه، العراق، العضو المتورم لدى قاسم، حيث أخذ يكبر ويكبر حتى غرق فكره بالوحل والخوف الدائم على العراق. العراق لا يشبه أحدًا... خوف دائم حتى الانتحار... ذلك ما قاله لنا قاسم بمسدس غجري.
هرب جبارة من بغداد إلى النمسا بسبب سطوة الحزب البعثي حينها. كان يظن فيينا مدينة الهواء الجميل والنسيم العليل، وبالفعل أخذ العلة فقط من الوجود الفسيح والضيق اللانهائي حتى الشلل والموت. أمجاد رئتيه المتنفسة بعد القمع الشعوري عن كل متنفس، فيينا مدينة الرصاصة بالنسبة إليه.
ماذا يفعل عامل صحون في القارةِ العجوز برأسهِ الشاعري والهندسي؟ كم عليه أن يتفنن بالماءِ قبل تنظيف بقايا العوز الجنوبي؟ كم عليه أن يغسل بقصائدهِ أفواهًا خاطفة لا تبصر غير الجوع المادي والبصر المحسوس على الموائد؟ كم تمنى الشاعر تحرير رأسه من العراق. في النقطة البعيدة ظلت عيناه ترنو نحو الحنين غير المرئي الذي يدور عند القصب الجنوبي وأبواب العاصمة المرعبة، لكن ذلك محال. على يقين لو كان الشاعر يعرف نظام "الفرمته" في زمانه لما تردد في محو نصف خوفه على الأقل من كل حواسيب العراق. ذلك الخوف الذي يعرفه أرسطو "الخوف ألم نابع من توقع الشر"، إذًا على الشاعر أن يتوقع الشر بهذا العالم؟ الشاعر لا يتوقع شيئًا، بل هو الشر نفسه، شرّ الذكرى، شرّ الحس الفتاك قبل اختراع النووي... الشاعر اخترع من رأسهِ قنبلة يطورها في كل قصيدة ولا تخصيب محددًا لكلِ برنامجه المحاط بالنكسة.
قاسم سليل القصب وصاحب ديوان "طبال الليل" الذي قام بجمعه الشاعر والمترجم المغترب جمال جمعة. يدرك ذلك طبال الصحون وتوزيع الإعلانات وبيع الصحف أن محاولة زوجته النمساوية الفاشلة في الانتحار عبارة عن أمل في الموت.
حياتنا رخيصة مثل موتنا... قرر الموت الرخيص أن يذهب إلى غجري يبيع الخرداوات واشترى مسدسًا يجرب به حياته في مكان آخر... الغريب أن محاولاته تلك فشلت فلم يُحسن التصويب... يبدو لم يدرس الهندسة بشكلٍ جيد أو أن رأسه أكبر من الرصاصة... في النهاية وقع مشلولًا... كان عليه طاعة أصابعه المرتجفة التي لا تشتاق التراب الآن. توفي بعد فترة قصيرة. ظل يناغي السقوف المطلية بروائح المرضى والحنين الأول ودُفن بمقبرةٍ جماعية لمن لا يملك أرضًا خاصة دون شاهدة قبر...
لا أحد يستطيع العيش والموت بسرية مثلما فعل قاسم، يخاف من أن يستفرد به رجالات الأمن، لذلك قرر الحياة برقبة طويلة تتلفّت على الدوام، وقرر الموت بمقبرة جماعية خشية الوشاية به من الديدان التي لن تميّز بين اللحوم العديدة.
بعض نصوص الشاعر قاسم جبارة:
راض بالصمت
وبالثرثرة العظمى
بالهذيان الهائل
بالذكرى إذ تسقط في بئر سوداء
باللحية والشعر الكث
وبالجلد المدبوغ
وبمسح صحون القوادين
بنشيد الصف الثالث
بصديقة الملاية
بالقرآن
بتنزيلات السوق
أغنية الطفل الأصم
لا أريد الفراشة، عندي على المنضدة
قارب وشموع
لا أريد الفراشة، عندي هلال حديد
وعندي صوتي الذي ابتلعته النجوم
لا أريد الفراشة، عندي نافذة
وأغان على بركة في الجدار
كلما سقطت نجمة وسطها
تحركت نحوي دوائرها
دائرة دائرة دائرة
لا أريد الفراشة
لا أريد الفراشة
لا أريد سوى نجمة واحدة
لتحوّل الفضاء فضة
والشموع غيمة
ومنضدتي بركة ثانية.
سياحة بحرية
التوهج يحمل زرقته
ويواصل تجميعها في الضفاف
ثم يطفئها في الخواتم
في صمت بوصلة
في حكاية أبكم، أو
في سوار نزيل
المراكب عائدة دون أشرعة
والمظلات مغمورة بالمياه
في الحديقة يوقفني فجأة
مشهد جاموسة
تمخر البحر نحو الضفاف.
*كاتب من العراق.