الفلسطينيون والمخيم: قصة ألم وقصة حب
سمير الزبن 4 مارس 2023
سير
(تمام الأكحل)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يشغل سؤال الهوية الجميع، من أنا بالمعنى الفردي، ومن نحن كجماعة، أو كجماعات، ومن نكون بالنسبة للآخرين؟ ويبدو أنه سؤال لا ينضب.
الفلسطينيون مثل الجميع، ليسوا بعيدين عن هذا السؤال، ولأنهم يعيشون حالة من الشتات، فإن السؤال بالنسبة لهم أكثر إلحاحًا وتعقيدًا، ما الذي يجمع الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم؟ وهل هنالك جامع حقيقي وهوية وطنية تجمعهم في كل أماكن تواجدهم؟ وكيف تشكلت هذه الهوية؟
يختصر المنفى حياة الفلسطينيين الحديثة، لكنه منفى من نوع خاص، فقد عاشوه على مستويين مندمجين، كمنفى جماعي، وكمنفى فردي. فكان الانقطاع استمرارًا للعلاقة مع الوطن، فلا هو يعيش هناك، ولا يكف عن الانتماء إلى هناك في الوقت ذاته، فما تُرك هناك سيستعاد يومًا، وهذا هو الحلم الفلسطيني الذي لا يزال مستمرًا برغم كل النكبات التي تعرض الفلسطينيون لها في تاريخهم الحديث.
طوال العقود المنصرمة، عاش الفلسطيني في دول الجوار بما يذكره بعدم انتمائه إلى المكان، ما شكل أحد الأسباب التي جعلته غير قادر على الانسجام مع المحيط الجديد. وعمل الضغط الخارجي من الدول المضيفة بعدم الرغبة به، كعامل إضافي لإنتاج "المخيم" الفلسطيني والحفاظ على استمراره بأشكال مختلفة.
أعادت تجربة اللجوء تشكيل الفلسطينيين بوصفهم غرباء في أوطان الأخوة، لكنهم في انتظار العودة إلى وطنهم. وهو ما أنتج ثقافة فلسطينية تقوم على الموقت، بوصفه الثابت الوحيد في حياتهم، طالما أن حلمهم بالعودة إلى وطنهم لم يتحقق. وأصبح عليهم مع طول فترة المكوث في المنافي، إدماج هذا المنفى في حياتهم والتصالح معه إلى حد ما. ومع مرور الزمن، تعمق المنفى وانتقل من تجلياته كحالة جماعية، وأخذ طريقه إلى الحالة الفردية، وأصبح هناك أبناء منفى، ليس بمعنى الانتماء فحسب، بل بالولادة أيضًا. تشتت الفلسطينيون عام 1948 في الدول المجاورة، التي استضافتهم على مضض، وعلى أساس موقت. وهكذا تغيرت طبيعة الجماعة الفلسطينية بشكل متزايد مع تغيّر المكان الذي يعيشون به، وبات عليهم أن يخترعوا حياتهم ووطنهم من تشظي المنافي وتناثر السكان، فعندما اختفى الوطن بات على الفلسطينيين أن يكونوا بديلًا من بلادهم التي اختفت تحت مسمى "إسرائيل" أيضًا.
لأن الاقتلاع شتت الفلسطينيين، كان عليهم استبدال الجغرافيا بالخيال، ليعيدوا صناعة فلسطين في أماكن لجوئهم، لم تكن وظيفة هذا الخيال الإبداعية الحفاظ على الوطن السليب من النسيان فحسب، مع أن هذه كانت إحدى مهماته التاريخية الكبرى، بل كان على هذا الخيال (وعلى الرغم من اختفاء الوطن الفلسطيني) أن يشتق المستقبل الفلسطيني أيضًا. أعادت التجمعات الفلسطينية تشكيل نفسها كمجتمع واحد في المنافي بوصفه مجتمعًا جديدًا وحديثًا، وبنى مشروعه الوطني بالتضاد مع المنفى. وبذلك تحول من ضحية عارية في منفى نهائي، إلى ضحية صاحبة مشروع تاريخي تستحق استعادة حقوقها.
هذا لا يعني أن المنفى لم يكن كارثة على الفلسطينيين، فقد فقدوا القدرة على الإمساك بحياتهم منذ فقدانهم وطنهم، وباتوا يعيشون في بلاد الآخرين، ولو كان هؤلاء أخوة وأشقاء. ولا نبالغ إذا قلنا إن الهوية الوطنية الفلسطينية كانت أكثر تبلورًا من شقيقتها العربيات بحكم هذا الاقتلاع. وليس بسبب ميزات في العيش الفلسطيني، بقدر ما هو بسبب عيب في هذا العيش الذي أنتجه المنفى، فبات على الفلسطينيين أن ينتجوا علاقة مع وطنهم المسلوب أكثر وضوحًا من البلاد العربية التي لم تُسلب من سكانها، ما جعل رابطها الوطني أقل تبلورًا بحكم غياب التهديد الوجودي الذي تعرض له الفلسطينيون، ما جعل علاقتهم ببلادهم أكثر وضوحًا. فالحياة الثابتة والمستقرة والمتجانسة التي عاشها الفلسطينيون في وطنهم قبل الاقتلاع باتت أوضح في المنافي، وإذا كانت الجغرافيا قد اختفت، فهي لم تغب من حياة الفلسطينيين في المنافي. الاستقرار الذي لم ينتبه الفلسطينيون له وهم يعيشون في بلادهم، باتوا يدركونه عندما فقدوها، فما كان منهم إلا أن أدمجوا الوطن المستقر في المنفى القلق. لقد استطاع الفلسطينيون عبر هذه العملية أن يُرقعوا المنفى بقطع الوطن التي استعادوها في منفاهم، حتى يصبح المنفى قابلًا للاحتمال. لذلك أخذت الحارات والمحلات التجارية الصغيرة والبائسة في المخيمات أسماء المدن والقرى والجغرافيا الفلسطينية. بذلك أخذت الأشياء الصغيرة في الحياة الفلسطينية معناها المتجاوز لقيمتها، وأخذت دلالات ما ورائية، الصور الفوتوغرافية، الملابس، الأشياء المنتزعة من مكانها الأصلي، طقوس الكلام والعادة. و"جميعها أعيد إنتاجها بكثرة وكبرت، وحولت إلى فكرة أساسية، وطرزت وتنوقلت كخيوط في نسيج العلاقات التي نستعملها، نحن الفلسطينيين، لنربط أنفسنا بهويتنا، ولنربط الواحد بالآخر". لقد أدى ضياع "ثبات الجغرافيا" وضياع "تواصل الأرض" إلى ضياع قدرة الفلسطينيين على أن يتشابهوا إلا بوصفهم "منفيين"، على حد تعبير إدوارد سعيد.
استهلك المخيم الموقت حيوات أجيال كاملة من الفلسطينيين، وأصبح له تكوينه التاريخي والاجتماعي والسياسي الخاص، وبات سردية كبرى من سرديات التجربة الفلسطينية، ليست سردية لموقت يتلاشى سريعًا في منفى لا يريد أن ينتهي، وليس سردية موقت في انتظار وطن تحققت العودة له، فبات تاريخًا وذكرى. في هذا الانتظار الطويل، تحول المخيم إلى وطن ثانٍ، وبات امتدادًا لفلسطين، فقد أصبح للفلسطينيين وطن من طابقين، إذا جاز التعبير، وطن اليوم، وهو المخيم، ووطن الحق التاريخي، وهو فلسطين؛ لأن الفلسطينيين لم يعترفوا بأن الوجود الطويل في أرض الآخرين يحولهم إلى ناس آخرين، ينتمون إلى غير البلاد المسلوبة، ويفقدهم الصلة بوطن سينتظرونه، لأن لا وطن لهم غيره. يعد أهالي المخيم أنفسهم نسل فلسطين، وليسوا نسل آبائهم، الذين كانوا الوسيلة لجعلهم ينتمون إلى مكان لم يولدوا فيه، ولدوا بعيدًا عنه، لكنهم ولدوا منه على بقعة خارجية تنتمي إليه كأي بلدة، أو قرية، أو مدينة فلسطينية، هذه البقعة هي: المخيم.
عاش الفلسطينيون مفارقة قاسية كلاجئين تختلف قضيتهم عن قضايا اللجوء الأخرى، ويتمثل الخلاف بأن كل النزاعات والصراعات والحروب التي أفرزت قضايا لاجئين، سُمح لهؤلاء بالعودة إلى ديارهم بعد انتهاء الصراع أو الحرب، بينما مُنع اللاجئون الفلسطينيون من العودة إلى ديارهم التي هُجروا منها.
وسم التعقيد التاريخي لتجربة اللجوء الفلسطيني بخاصية لم توجد في تجارب اللجوء الأخرى، إذ لطالما كان اللجوء تجربة على هامش تجربة كبرى، كالحرب والصراع ببن الدول، على سبيل المثال، أي أنه عارض من عوارض المشكلة الأساسية. لكن في تجربة احتلال فلسطين كان إنجاز الاقتلاع هدفًا أساسيًا من أهداف الصراع، بوصف إسرائيل مشروعًا اقتلاعيًا للاجئين، كهدف أساسي لتفريغ الأرض من سكانها. وهذا ما وضع على الفلسطينيين عبء إعلان وجودهم في المخيمات التي وجدوا أنفسهم مطرودين إليها من ديارهم، وبذلك بات إعلان وجودهم مقلقًا للأساس المكوّن لإسرائيل.
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن الوطنية الفلسطينية الحديثة ولدت من الانقطاع التاريخي الذي تسبب فيه إعلان دولة إسرائيل، ودخول الفلسطينيين تجربة الاقتلاع من الوطن، أي أن الوطنية الفلسطينية وُلدت بعد غياب الوطن عن الخارطة السياسية، وبعد غياب أصحاب الوطن عن أرض وطنهم. ويمكن النظر إلى هذا الانقطاع في التجربة الفلسطينية بوصفه قطيعة نهائية مع التاريخ الفلسطيني السابق للاقتلاع الفلسطيني. بمعنى آخر، لقد ولدت الوطنية الفلسطينية الحديثة بفعل هذا الحدث التأسيسي للتجربة الفلسطينية، وبذلك يكون تشكل الوطنية الفلسطينية الحديثة هو وليد النصف الثاني من القرن العشرين زمنيًا، ووليد نجاح المشروع الصهيوني في بناء دولة إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني، ما عنى غياب الأرض الفلسطينية عن الجغرافيا. وإذا ذهبنا خطوة إضافية إلى الأمام، يمكن القول، وهو ما يحتاج إلى كثير من النقاش، إن الشعب الفلسطيني ولد في هذا السياق الزمني والحدثي، بمعنى أن الشعب الفلسطيني، كما الوطنية الفلسطينية الحديثة، ولد بفعل النكبة التي عاشها من فقدان الوطن، وقيام دولة إسرائيل عليه، وليس قبلها، وشكل المخيم أساسًا مكونًا لهذه الوطنية.
بالنسبة للفلسطيني، المخيم هو المكان الذي صنع فيه وطنه من الحلم في مواجهة الاقتلاع، بالتالي هو المكان الذي اخترع فيه هويته، وأصبح المخيم هو وطن/ الحلم، الذي امتنع عن التحقق في الواقع على مدى عقود، هذا صحيح، لكنه على كل عيوبه هو الذي منح الفلسطيني هويته. لذلك، يمكن القول إن المخيم شكل تجمعًا للحالمين الذي نسجوا وطنًا من الذاكرة، ومن الحلم صنعوا شعبًا في جغرافيا الآخرين مخترعين هويتهم من جديد، هوية أحبوها وتلبسوها، وأصبحت مكوّنهم الأساسي. وشعروا بأن هويتهم مهدّدة عندما يتفكك المخيم ويختفي، بالتالي يتفكك الحلم وتتفكك الهوية الشخصية. ولأنه لم يعد هنالك مكان يجمع الحالمين، لذلك يتمسك الفلسطيني اللاجئ بالمخيم، لا بوصفه مكانًا للبؤس، بل كمكان لصناعة الحياة بوصفها هوية شخصية.
تشكلت الوطنية الفلسطينية الحديثة من خسارة الفلسطينيين لوطنهم، وتحطيم مجتمعهم، وتشردهم في أوطان عدة، بما فيها وطنهم الأصلي، وقد تشاركت تجمعات الفلسطينيين الذين بقوا داخل وطنهم، والذين ذاقوا مرارات اللجوء في صناعة هذه الهوية. فالوطنية الفلسطينية الحديثة تكونت في مواجهة إلغاء وإخفاء شعب في بلده، وهذا هو جوهر المشروع الصهيوني الذي لم يكتفِ باحتلال الأرض والسيطرة عليها وطرد سكانها فحسب، بل يذهب أبعد من ذلك، يريد احتلال التاريخ، من خلال رواية أخرى مختلقة، ومسح آثار شعب بتغيير أسماء الأماكن، على اعتبار أن استخدام أسماء جديدة ينفي عن الأرض صفتها الأصلية، ويعطيها الصفة التي يريدها الاحتلال، بوصف الأرض تنتمي إلى المحتل، ليس بفعل احتلاله، بل بفعل تاريخ طويل مُختلق وكاذب يعود إلى ثلاثة آلاف سنة خلت.
إذا أردت أن أُعطي تعريفًا للمخيم، وأنا ابنه، أقول إنه مكان بناه الغرباء على هامش المدينة، بنوه بإحساس الموقت، بإحساس الضحية التي تتعامل بشكل خاص مع الأماكن التي تمر بها وتسكنها. وعادة ما تتعامل عبر تطرفين: الأول، إما أن لا ترى الضحية المكان نهائيًا، بصفتها عابرة في مكان عابر. الثاني، أن تضفي على المكان روحها، أن تُحمِّل أجمل ما في تجربتها السابقة إلى المكان الجديد، وتبنيه من روحها، وهذا ما يفسر تعلق سكان المخيم بالمكان البائس الذي سكنوه، فهم لا يرون بؤسه، إنما يرون روحهم في المكان، غرباء بنوا مكانًا يشبههم، وجبلوا طينه بروحهم. عندما يبني الغرباء المكان يبنونه مفتوحًا على الخارج، لأن الضحايا تبحث عن ضحايا مثلهم، لا ليشاركونها المكان فقط، بل ليخففوا الألم عن بعضهم بعضًا، وهذا المخيم ببيوته الضيقة كان مفتوحًا على الحارة، على الشارع، على المدينة، وعلى البلد، وعلى العالم.
لا أبالغ إن قلت إن مخيم اليرموك، الذي ولدت وعشت فيه جلّ حياتي، هو قصة حب بين الغرباء والمكان الهامشي في المدينة، أعادوا بناء فلسطينيتهم من أجسادهم الحيّة في هذا الحيز القصي، والتي لم يملكوا غيرها، وكانوا في حد ذاتهم وطنًا يتنقل في أوطان الآخرين. تطابقت حياة الغرباء مع بطاقة بلاستيكية مربعة اخترعتها سلطة جائرة، تقول إنها "بطاقة إقامة موقتة للاجئين الفلسطينيين". تناسل اللاجئون لاجئين، انتموا جميعًا إلى نكبة 1948، حتى الذي ولد عام 2000 كتب في سجلاته "لجأ إلى سورية عام 1948". هذا مجاز الواقع الذي تجاوز كل مجاز شعري. لم يحب الغرباء تعبير "اللاجئ" في الوقت الذي أحبوا تعبير "المخيم"، مع أن الاثنين يقولان شيئًا واحدًا. ليس لأنهم يرغبون في البقاء في أوطان الآخرين، بل لأن كلمة "اللاجئ" عمقت الجرح، وجرحت من ولد بعد اللجوء وانتمى إليه، بينما عني تعبير "المخيم" الموقت الفلسطيني العابر إلى الفردوس المفقود.
عندما عجنت الطائرات "الوطنية" سكان مخيم اليرموك بدمهم، معلنة بدء قيامة لجوء كبرى، في اليوم التالي، ساروا سوية، سوريون يحملون مفاتيح بيوتهم في المخيم، وفلسطينيون يحملون مفاتيح بيوتهم في المخيم ومفاتيح بيوتهم في فردوسهم المفقود. عادوا ليحملوا أحلامهم في صُرر ثيابهم المربوطة على عجل لرحيل جديد. وبات فلسطينيو اليرموك "المنعوفون" في كل أصقاع الأرض، يبحثون عن "مخيم" جديد ليفتحوا صُرر أحلامهم التي لا تنتهي...
سمير الزبن 4 مارس 2023
سير
(تمام الأكحل)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يشغل سؤال الهوية الجميع، من أنا بالمعنى الفردي، ومن نحن كجماعة، أو كجماعات، ومن نكون بالنسبة للآخرين؟ ويبدو أنه سؤال لا ينضب.
الفلسطينيون مثل الجميع، ليسوا بعيدين عن هذا السؤال، ولأنهم يعيشون حالة من الشتات، فإن السؤال بالنسبة لهم أكثر إلحاحًا وتعقيدًا، ما الذي يجمع الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم؟ وهل هنالك جامع حقيقي وهوية وطنية تجمعهم في كل أماكن تواجدهم؟ وكيف تشكلت هذه الهوية؟
يختصر المنفى حياة الفلسطينيين الحديثة، لكنه منفى من نوع خاص، فقد عاشوه على مستويين مندمجين، كمنفى جماعي، وكمنفى فردي. فكان الانقطاع استمرارًا للعلاقة مع الوطن، فلا هو يعيش هناك، ولا يكف عن الانتماء إلى هناك في الوقت ذاته، فما تُرك هناك سيستعاد يومًا، وهذا هو الحلم الفلسطيني الذي لا يزال مستمرًا برغم كل النكبات التي تعرض الفلسطينيون لها في تاريخهم الحديث.
طوال العقود المنصرمة، عاش الفلسطيني في دول الجوار بما يذكره بعدم انتمائه إلى المكان، ما شكل أحد الأسباب التي جعلته غير قادر على الانسجام مع المحيط الجديد. وعمل الضغط الخارجي من الدول المضيفة بعدم الرغبة به، كعامل إضافي لإنتاج "المخيم" الفلسطيني والحفاظ على استمراره بأشكال مختلفة.
أعادت تجربة اللجوء تشكيل الفلسطينيين بوصفهم غرباء في أوطان الأخوة، لكنهم في انتظار العودة إلى وطنهم. وهو ما أنتج ثقافة فلسطينية تقوم على الموقت، بوصفه الثابت الوحيد في حياتهم، طالما أن حلمهم بالعودة إلى وطنهم لم يتحقق. وأصبح عليهم مع طول فترة المكوث في المنافي، إدماج هذا المنفى في حياتهم والتصالح معه إلى حد ما. ومع مرور الزمن، تعمق المنفى وانتقل من تجلياته كحالة جماعية، وأخذ طريقه إلى الحالة الفردية، وأصبح هناك أبناء منفى، ليس بمعنى الانتماء فحسب، بل بالولادة أيضًا. تشتت الفلسطينيون عام 1948 في الدول المجاورة، التي استضافتهم على مضض، وعلى أساس موقت. وهكذا تغيرت طبيعة الجماعة الفلسطينية بشكل متزايد مع تغيّر المكان الذي يعيشون به، وبات عليهم أن يخترعوا حياتهم ووطنهم من تشظي المنافي وتناثر السكان، فعندما اختفى الوطن بات على الفلسطينيين أن يكونوا بديلًا من بلادهم التي اختفت تحت مسمى "إسرائيل" أيضًا.
لأن الاقتلاع شتت الفلسطينيين، كان عليهم استبدال الجغرافيا بالخيال، ليعيدوا صناعة فلسطين في أماكن لجوئهم، لم تكن وظيفة هذا الخيال الإبداعية الحفاظ على الوطن السليب من النسيان فحسب، مع أن هذه كانت إحدى مهماته التاريخية الكبرى، بل كان على هذا الخيال (وعلى الرغم من اختفاء الوطن الفلسطيني) أن يشتق المستقبل الفلسطيني أيضًا. أعادت التجمعات الفلسطينية تشكيل نفسها كمجتمع واحد في المنافي بوصفه مجتمعًا جديدًا وحديثًا، وبنى مشروعه الوطني بالتضاد مع المنفى. وبذلك تحول من ضحية عارية في منفى نهائي، إلى ضحية صاحبة مشروع تاريخي تستحق استعادة حقوقها.
"استهلك المخيم الموقت حيوات أجيال كاملة من الفلسطينيين، وأصبح له تكوينه التاريخي والاجتماعي والسياسي الخاص" |
هذا لا يعني أن المنفى لم يكن كارثة على الفلسطينيين، فقد فقدوا القدرة على الإمساك بحياتهم منذ فقدانهم وطنهم، وباتوا يعيشون في بلاد الآخرين، ولو كان هؤلاء أخوة وأشقاء. ولا نبالغ إذا قلنا إن الهوية الوطنية الفلسطينية كانت أكثر تبلورًا من شقيقتها العربيات بحكم هذا الاقتلاع. وليس بسبب ميزات في العيش الفلسطيني، بقدر ما هو بسبب عيب في هذا العيش الذي أنتجه المنفى، فبات على الفلسطينيين أن ينتجوا علاقة مع وطنهم المسلوب أكثر وضوحًا من البلاد العربية التي لم تُسلب من سكانها، ما جعل رابطها الوطني أقل تبلورًا بحكم غياب التهديد الوجودي الذي تعرض له الفلسطينيون، ما جعل علاقتهم ببلادهم أكثر وضوحًا. فالحياة الثابتة والمستقرة والمتجانسة التي عاشها الفلسطينيون في وطنهم قبل الاقتلاع باتت أوضح في المنافي، وإذا كانت الجغرافيا قد اختفت، فهي لم تغب من حياة الفلسطينيين في المنافي. الاستقرار الذي لم ينتبه الفلسطينيون له وهم يعيشون في بلادهم، باتوا يدركونه عندما فقدوها، فما كان منهم إلا أن أدمجوا الوطن المستقر في المنفى القلق. لقد استطاع الفلسطينيون عبر هذه العملية أن يُرقعوا المنفى بقطع الوطن التي استعادوها في منفاهم، حتى يصبح المنفى قابلًا للاحتمال. لذلك أخذت الحارات والمحلات التجارية الصغيرة والبائسة في المخيمات أسماء المدن والقرى والجغرافيا الفلسطينية. بذلك أخذت الأشياء الصغيرة في الحياة الفلسطينية معناها المتجاوز لقيمتها، وأخذت دلالات ما ورائية، الصور الفوتوغرافية، الملابس، الأشياء المنتزعة من مكانها الأصلي، طقوس الكلام والعادة. و"جميعها أعيد إنتاجها بكثرة وكبرت، وحولت إلى فكرة أساسية، وطرزت وتنوقلت كخيوط في نسيج العلاقات التي نستعملها، نحن الفلسطينيين، لنربط أنفسنا بهويتنا، ولنربط الواحد بالآخر". لقد أدى ضياع "ثبات الجغرافيا" وضياع "تواصل الأرض" إلى ضياع قدرة الفلسطينيين على أن يتشابهوا إلا بوصفهم "منفيين"، على حد تعبير إدوارد سعيد.
استهلك المخيم الموقت حيوات أجيال كاملة من الفلسطينيين، وأصبح له تكوينه التاريخي والاجتماعي والسياسي الخاص، وبات سردية كبرى من سرديات التجربة الفلسطينية، ليست سردية لموقت يتلاشى سريعًا في منفى لا يريد أن ينتهي، وليس سردية موقت في انتظار وطن تحققت العودة له، فبات تاريخًا وذكرى. في هذا الانتظار الطويل، تحول المخيم إلى وطن ثانٍ، وبات امتدادًا لفلسطين، فقد أصبح للفلسطينيين وطن من طابقين، إذا جاز التعبير، وطن اليوم، وهو المخيم، ووطن الحق التاريخي، وهو فلسطين؛ لأن الفلسطينيين لم يعترفوا بأن الوجود الطويل في أرض الآخرين يحولهم إلى ناس آخرين، ينتمون إلى غير البلاد المسلوبة، ويفقدهم الصلة بوطن سينتظرونه، لأن لا وطن لهم غيره. يعد أهالي المخيم أنفسهم نسل فلسطين، وليسوا نسل آبائهم، الذين كانوا الوسيلة لجعلهم ينتمون إلى مكان لم يولدوا فيه، ولدوا بعيدًا عنه، لكنهم ولدوا منه على بقعة خارجية تنتمي إليه كأي بلدة، أو قرية، أو مدينة فلسطينية، هذه البقعة هي: المخيم.
عاش الفلسطينيون مفارقة قاسية كلاجئين تختلف قضيتهم عن قضايا اللجوء الأخرى، ويتمثل الخلاف بأن كل النزاعات والصراعات والحروب التي أفرزت قضايا لاجئين، سُمح لهؤلاء بالعودة إلى ديارهم بعد انتهاء الصراع أو الحرب، بينما مُنع اللاجئون الفلسطينيون من العودة إلى ديارهم التي هُجروا منها.
وسم التعقيد التاريخي لتجربة اللجوء الفلسطيني بخاصية لم توجد في تجارب اللجوء الأخرى، إذ لطالما كان اللجوء تجربة على هامش تجربة كبرى، كالحرب والصراع ببن الدول، على سبيل المثال، أي أنه عارض من عوارض المشكلة الأساسية. لكن في تجربة احتلال فلسطين كان إنجاز الاقتلاع هدفًا أساسيًا من أهداف الصراع، بوصف إسرائيل مشروعًا اقتلاعيًا للاجئين، كهدف أساسي لتفريغ الأرض من سكانها. وهذا ما وضع على الفلسطينيين عبء إعلان وجودهم في المخيمات التي وجدوا أنفسهم مطرودين إليها من ديارهم، وبذلك بات إعلان وجودهم مقلقًا للأساس المكوّن لإسرائيل.
"بالنسبة للفلسطيني، المخيم هو المكان الذي صنع فيه وطنه من الحلم في مواجهة الاقتلاع، بالتالي هو المكان الذي اخترع فيه هويته" |
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن الوطنية الفلسطينية الحديثة ولدت من الانقطاع التاريخي الذي تسبب فيه إعلان دولة إسرائيل، ودخول الفلسطينيين تجربة الاقتلاع من الوطن، أي أن الوطنية الفلسطينية وُلدت بعد غياب الوطن عن الخارطة السياسية، وبعد غياب أصحاب الوطن عن أرض وطنهم. ويمكن النظر إلى هذا الانقطاع في التجربة الفلسطينية بوصفه قطيعة نهائية مع التاريخ الفلسطيني السابق للاقتلاع الفلسطيني. بمعنى آخر، لقد ولدت الوطنية الفلسطينية الحديثة بفعل هذا الحدث التأسيسي للتجربة الفلسطينية، وبذلك يكون تشكل الوطنية الفلسطينية الحديثة هو وليد النصف الثاني من القرن العشرين زمنيًا، ووليد نجاح المشروع الصهيوني في بناء دولة إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني، ما عنى غياب الأرض الفلسطينية عن الجغرافيا. وإذا ذهبنا خطوة إضافية إلى الأمام، يمكن القول، وهو ما يحتاج إلى كثير من النقاش، إن الشعب الفلسطيني ولد في هذا السياق الزمني والحدثي، بمعنى أن الشعب الفلسطيني، كما الوطنية الفلسطينية الحديثة، ولد بفعل النكبة التي عاشها من فقدان الوطن، وقيام دولة إسرائيل عليه، وليس قبلها، وشكل المخيم أساسًا مكونًا لهذه الوطنية.
بالنسبة للفلسطيني، المخيم هو المكان الذي صنع فيه وطنه من الحلم في مواجهة الاقتلاع، بالتالي هو المكان الذي اخترع فيه هويته، وأصبح المخيم هو وطن/ الحلم، الذي امتنع عن التحقق في الواقع على مدى عقود، هذا صحيح، لكنه على كل عيوبه هو الذي منح الفلسطيني هويته. لذلك، يمكن القول إن المخيم شكل تجمعًا للحالمين الذي نسجوا وطنًا من الذاكرة، ومن الحلم صنعوا شعبًا في جغرافيا الآخرين مخترعين هويتهم من جديد، هوية أحبوها وتلبسوها، وأصبحت مكوّنهم الأساسي. وشعروا بأن هويتهم مهدّدة عندما يتفكك المخيم ويختفي، بالتالي يتفكك الحلم وتتفكك الهوية الشخصية. ولأنه لم يعد هنالك مكان يجمع الحالمين، لذلك يتمسك الفلسطيني اللاجئ بالمخيم، لا بوصفه مكانًا للبؤس، بل كمكان لصناعة الحياة بوصفها هوية شخصية.
تشكلت الوطنية الفلسطينية الحديثة من خسارة الفلسطينيين لوطنهم، وتحطيم مجتمعهم، وتشردهم في أوطان عدة، بما فيها وطنهم الأصلي، وقد تشاركت تجمعات الفلسطينيين الذين بقوا داخل وطنهم، والذين ذاقوا مرارات اللجوء في صناعة هذه الهوية. فالوطنية الفلسطينية الحديثة تكونت في مواجهة إلغاء وإخفاء شعب في بلده، وهذا هو جوهر المشروع الصهيوني الذي لم يكتفِ باحتلال الأرض والسيطرة عليها وطرد سكانها فحسب، بل يذهب أبعد من ذلك، يريد احتلال التاريخ، من خلال رواية أخرى مختلقة، ومسح آثار شعب بتغيير أسماء الأماكن، على اعتبار أن استخدام أسماء جديدة ينفي عن الأرض صفتها الأصلية، ويعطيها الصفة التي يريدها الاحتلال، بوصف الأرض تنتمي إلى المحتل، ليس بفعل احتلاله، بل بفعل تاريخ طويل مُختلق وكاذب يعود إلى ثلاثة آلاف سنة خلت.
إذا أردت أن أُعطي تعريفًا للمخيم، وأنا ابنه، أقول إنه مكان بناه الغرباء على هامش المدينة، بنوه بإحساس الموقت، بإحساس الضحية التي تتعامل بشكل خاص مع الأماكن التي تمر بها وتسكنها. وعادة ما تتعامل عبر تطرفين: الأول، إما أن لا ترى الضحية المكان نهائيًا، بصفتها عابرة في مكان عابر. الثاني، أن تضفي على المكان روحها، أن تُحمِّل أجمل ما في تجربتها السابقة إلى المكان الجديد، وتبنيه من روحها، وهذا ما يفسر تعلق سكان المخيم بالمكان البائس الذي سكنوه، فهم لا يرون بؤسه، إنما يرون روحهم في المكان، غرباء بنوا مكانًا يشبههم، وجبلوا طينه بروحهم. عندما يبني الغرباء المكان يبنونه مفتوحًا على الخارج، لأن الضحايا تبحث عن ضحايا مثلهم، لا ليشاركونها المكان فقط، بل ليخففوا الألم عن بعضهم بعضًا، وهذا المخيم ببيوته الضيقة كان مفتوحًا على الحارة، على الشارع، على المدينة، وعلى البلد، وعلى العالم.
لا أبالغ إن قلت إن مخيم اليرموك، الذي ولدت وعشت فيه جلّ حياتي، هو قصة حب بين الغرباء والمكان الهامشي في المدينة، أعادوا بناء فلسطينيتهم من أجسادهم الحيّة في هذا الحيز القصي، والتي لم يملكوا غيرها، وكانوا في حد ذاتهم وطنًا يتنقل في أوطان الآخرين. تطابقت حياة الغرباء مع بطاقة بلاستيكية مربعة اخترعتها سلطة جائرة، تقول إنها "بطاقة إقامة موقتة للاجئين الفلسطينيين". تناسل اللاجئون لاجئين، انتموا جميعًا إلى نكبة 1948، حتى الذي ولد عام 2000 كتب في سجلاته "لجأ إلى سورية عام 1948". هذا مجاز الواقع الذي تجاوز كل مجاز شعري. لم يحب الغرباء تعبير "اللاجئ" في الوقت الذي أحبوا تعبير "المخيم"، مع أن الاثنين يقولان شيئًا واحدًا. ليس لأنهم يرغبون في البقاء في أوطان الآخرين، بل لأن كلمة "اللاجئ" عمقت الجرح، وجرحت من ولد بعد اللجوء وانتمى إليه، بينما عني تعبير "المخيم" الموقت الفلسطيني العابر إلى الفردوس المفقود.
عندما عجنت الطائرات "الوطنية" سكان مخيم اليرموك بدمهم، معلنة بدء قيامة لجوء كبرى، في اليوم التالي، ساروا سوية، سوريون يحملون مفاتيح بيوتهم في المخيم، وفلسطينيون يحملون مفاتيح بيوتهم في المخيم ومفاتيح بيوتهم في فردوسهم المفقود. عادوا ليحملوا أحلامهم في صُرر ثيابهم المربوطة على عجل لرحيل جديد. وبات فلسطينيو اليرموك "المنعوفون" في كل أصقاع الأرض، يبحثون عن "مخيم" جديد ليفتحوا صُرر أحلامهم التي لا تنتهي...