نكبات روح
محمود شريح
سير
عمل للفنانة اللبنانية إيتيل عدنان (1925-2021)
شارك هذا المقال
حجم الخط
مرّ عليّ زمنٌ طويل كنتُ لا أنامُ فيه وإن كنتُ أبقى لساعات مغمّضَ العينين مُستلقيًا في سريري أرقبُ ساعةَ فرج أخلدُ فيها إلى نوم. وكانت تمرُّ عليّ ساعات وأنا مغمضُ العينين قبلَ أن أغفوَ لدقائقَ معدودة ثم فجأة أعودُ إلى أرَقي من لذع مسلّاتٍ على وسادتي فأحاولُ النومَ من جديد وأنا مغمضُ العينين دون نوم وفي بالي على الدوام أبياتُ أُمرؤ القيس في معلّقته حيث ليلٌ طويل لا ينجلي فكأنّ نجومه عُلّقت بأمراس كتّان إلى صمٍّ جندلٍ: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي، فأعودُ وأغفو لدقائق معدودة، ثمّ أصحو فزعًا من هول كابوس إلى أن يطلعَ الصباح عليّ فلا أقوى على مغادرة سريري من إعياءٍ ومن تعبٍ وعبثًا كنتُ أُحاول النومَ من جديد فلم أجنِ من ساعات أرقي سوى أني كنتُ، وأنا مُغمضُ العينين دونَ نوم، أُفكّر بحالي ومآلي، وكيف انتهيتُ إلى من أنا فيه من وخزِ روحي وعذابِ نفسي، أترقّب ما يخبئ لي غدي، فكنتُ أستعيدُ ذكرى طفولتي وصباي وشبابي وكانت لي في هذه الاستعادة سلوة وعزاء، فأكرُّ البصر فيما شاهدتُ وخبرتُ وقرأتُ وحفظتُ، فتمثلُ أمامي شخوصٌ ومناظرُ ومشاهد ونصوص، وأنا شاخصٌ إلى نومٍ هادئ يردّ إليّ توازني، وطامحٌ إلى طمأنينة وسكينة، ولكن عبثٌ تطوافي في بحثي عن هدوء مزاج، فمن حلم مُؤرق إلى كابوس مُفزع.
وللتعويض عن فقداني النوم ليلًا صُرتُ ألجأُ إليه ظهرًا في قيلولتي فإذا الأرقُ نفسه يطالُني فيحاصرُني، بيدَ أني كنت أجدُ لذّة وراحة في نومي لدقائق، فكان في ذلك خلاصٌ لي من بعض محنتي. وسواء كنتُ أغفو ليلًا أو ظهرًا فإنّ كوابيس كانت ترافقني، وإذا لم أغفُ كنتُ أسمع همسًا ووسوسة وتنتابني هلوسة غير صادرةٍ عنّي ما حيّرني في أمري، فأثبُ فَزِعًا مُرهقًا مما رأيتُ أو سمعتُ.
وبقيتُ لزمن على هذا المنوال أتقلّبُ بين غفوة وصحوة ما أدّى إلى تلبّد مزاجي وفقدان توازني فأدركتُ أنّ القول البسيط بأنّ النومَ نعمةٌ لهو قولٌ صائبٌ، ولذا كنتُ متى لم أجد إلى غفوتي سبيلًا أعمدُ إلى الوقوف أمام رفّ كتبي فأختار عنه كتابًا أعتقدُ أنه يطيّبُ نفسي ويهدئ من روعي فأقلّبُ صفحاتِه للوقوف على فقرة تردّني إلى غفوتي الضائعة، فكنتُ كحارثٍ في بحر لا ساحل له.
ثم كنتُ أسائل نفسي طيلةَ زمان أرقي، ولم يكن قصيرًا، ما الذي جلبَ عليّ هذا الويل، ومن أين تهبط عليّ نكبات الرّوح، فاكتشفتُ أنّ كلّ ذلك مرجعه فوضى فكريّة وبلبلة عقائديّة أدركتني منذ صباي فرافقتني مثلَ ظلّي ولزمتني على وسادتي فطارَ النومُ من عيني وكدْتُ أطير معه فمُنعَ الرّقاد، ولعلّي لا أخطئ إذا قلتُ إنّ مأساة النكبة العظمى لبستنا فما خرجْنا منها، لا بل كان خناقها يشتدُّ علينا مُضاعَفًا كلّ عقد، فلم يبدُ لي فرحٌ قريبٌ، بل فجرٌ غَبِشٌ من مُحيط إلى خليج، ومن قرن الهلال الخصيب عند غزّة إلى قرنة عند البصرة، فإذا الهلال مفازةٌ يبابٌ، وإذا أنا معلّق بين أرض وسماء، فانقلبتْ الدنيا عليّ رأسًا على عقب حين رأيتُ أن شعبي المسكين سائرٌ من كبوة إلى نكسة ومن هزيمة إلى نكبة، فكأنّه كُتب عليه العيش في شظف يكلّله الوعد برغدٍ كما في سقي الكمّون بالوعد، ومن هنا على الأرجح أرقي وقلقي ودفعُ النومِ عنّي، فطالَ أساي وتبخّرَ هنائي؛ ثم تبيّنَ لي بعد تبصّر أنّ ما كلّ هذا إلّا من فساد النفوس وإفلاسها الروحي ما مهّد للنزول علينا من نخاريب الإقطاعية وجبّ الظلاميّة، فإذا نحن في دياميس السلفيّة، وكأننا تحوّلنا إلى جلمود صخر فلا حياء مما نحن فيه ولا خجل ممّا أصابنا، لا بل مباهاةٌ بجهلنا وكبرياءٌ بتخلّفنا وفخرٌ بمأساتنا، ثم كان الكيّ آخر الدواء، فبالخطابة داوينا خيبتَنا، فصفعتنا النكباتُ، ولا من حسيب، وها هي عنعناتٌ مذهبية وحزازاتٌ طائفية تسير بنا إلى قاع بلا قرار، وما كلّ هذا إلا من فساد النفوس وإفلاسها الروحي.
كان والدي خرج إلى هذه الدنيا الفسيحة، وهي معاش للورى حتى إذا جاء الربيع فهي منظر، مع وقع سنابك خيل اللنبي يدخل مختالًا فخورًا إلى القدس، وخرج والدي ثانية، وهو في الثلاثين، عام النكبة العظمى المشهورة في حوادث الزمان وأخبار الأعيان، إلى بيروت، خيمتنا، وها اليوم لا زالتْ سنابكُ خيلِ فاتحين تطأُ أرضَنا الواسعة، وهي خصبةٌ عمرها عمر التين والزيتون الباقييْن شاهديْن على صواب الحقّ في منطق التاريخ ودهاء الجغرافية، من محيط إلى خليج، ولكن ها هو العطبُ طغى على الغيثِ، ما يعيد إلى البال قصيدة عمر أبو ريشة عام 1948:
أُمّتي هل لكِ بين الأُممِ
مِنبرٌ للسيفِ أو للقلمِ
أتلقاكِ وطرفي مُطرقٌ
خجلًا من أمسِكِ المنصرمِ
أُمّتي كم من صنيمٍ مجدْتِه
لم يكنْ يحملُ طُهرَ الصنمِ
لا يُلام الذئب في عدوانه
إن يكن الراعي عدوّ الغنمِ
وكنتُ غيرَ واعٍ لمدلول قصيدة "أُمتي" إذ حفظتُها عن ظهر قلب في خريف 1958 حين كنتُ فتيًّا أرعنَ يوم أرسلني أهلي إلى مدرسة إنجيليّة، ليس إلّا لأنها كانت مجانيّة، ولعلّ أحبّ نماذج كتاب قراءة العربية إليّ كان مَثَلُ الثعلبِ والطبل من سِفر كليلة ودمنة فبقيَ لي معيارَ الاستقامةِ والنزاهةِ في ما يختطه المرء في دنياه الفسيحة، فالعبارة الصادقة أسُّ الأخلاق وطلبُ المنى:
قالَ دِمنةُ زعموا أنّ ثعلبًا جائعًا أتى على أجَمَةٍ فيها طبلٌ مُلقى إلى جانبِ شجرة. فإذا هبّتِ الرّيحُ تحرّكت أغصانُ الشجرةِ وأصابتِ الطّبل فصوّتَ صوتًا شديدًا. فسمِعَ الثّعلبُ ذلك الصّوتَ فتوجّهَ نحوَهُ حتّى انتهى إلى الطّبل. فلمّا رآهُ ضخمًا قال في نفسه: إنّ هذا لخليقٌ بكثرة الشّحم واللحم. فعالجهُ أشدّ العلاج حتى شقّه. فلمّا رآهُ أجوَفَ قال الثّعلبُ: لعلّ أفشلَ الأشياء أعظمُها جُثّة وأعظمُها صوتًا.
أي ما اختصرَه نسيب عريضة في بروكلين عام 1917 في ذكرى وعد بلفور:
ربّ ثارْ/ ربّ عارْ/ ربّ نارْ
حرّكتْ قلبَ الجبان/ كلّها فينا/
ولكن لم تحرّكْ/ ساكنًا إلّا اللسانْ
فمنذ هجرتْنا العلمانيّة انحدرْنا بسرعة ثمّ هبطنا فجأة في غياهب التفرقة والانقسام، وما هذا إلّا من فسادِ النّفوس وإفلاسِها الرّوحي.
محمود شريح
سير
عمل للفنانة اللبنانية إيتيل عدنان (1925-2021)
شارك هذا المقال
حجم الخط
مرّ عليّ زمنٌ طويل كنتُ لا أنامُ فيه وإن كنتُ أبقى لساعات مغمّضَ العينين مُستلقيًا في سريري أرقبُ ساعةَ فرج أخلدُ فيها إلى نوم. وكانت تمرُّ عليّ ساعات وأنا مغمضُ العينين قبلَ أن أغفوَ لدقائقَ معدودة ثم فجأة أعودُ إلى أرَقي من لذع مسلّاتٍ على وسادتي فأحاولُ النومَ من جديد وأنا مغمضُ العينين دون نوم وفي بالي على الدوام أبياتُ أُمرؤ القيس في معلّقته حيث ليلٌ طويل لا ينجلي فكأنّ نجومه عُلّقت بأمراس كتّان إلى صمٍّ جندلٍ: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي، فأعودُ وأغفو لدقائق معدودة، ثمّ أصحو فزعًا من هول كابوس إلى أن يطلعَ الصباح عليّ فلا أقوى على مغادرة سريري من إعياءٍ ومن تعبٍ وعبثًا كنتُ أُحاول النومَ من جديد فلم أجنِ من ساعات أرقي سوى أني كنتُ، وأنا مُغمضُ العينين دونَ نوم، أُفكّر بحالي ومآلي، وكيف انتهيتُ إلى من أنا فيه من وخزِ روحي وعذابِ نفسي، أترقّب ما يخبئ لي غدي، فكنتُ أستعيدُ ذكرى طفولتي وصباي وشبابي وكانت لي في هذه الاستعادة سلوة وعزاء، فأكرُّ البصر فيما شاهدتُ وخبرتُ وقرأتُ وحفظتُ، فتمثلُ أمامي شخوصٌ ومناظرُ ومشاهد ونصوص، وأنا شاخصٌ إلى نومٍ هادئ يردّ إليّ توازني، وطامحٌ إلى طمأنينة وسكينة، ولكن عبثٌ تطوافي في بحثي عن هدوء مزاج، فمن حلم مُؤرق إلى كابوس مُفزع.
وللتعويض عن فقداني النوم ليلًا صُرتُ ألجأُ إليه ظهرًا في قيلولتي فإذا الأرقُ نفسه يطالُني فيحاصرُني، بيدَ أني كنت أجدُ لذّة وراحة في نومي لدقائق، فكان في ذلك خلاصٌ لي من بعض محنتي. وسواء كنتُ أغفو ليلًا أو ظهرًا فإنّ كوابيس كانت ترافقني، وإذا لم أغفُ كنتُ أسمع همسًا ووسوسة وتنتابني هلوسة غير صادرةٍ عنّي ما حيّرني في أمري، فأثبُ فَزِعًا مُرهقًا مما رأيتُ أو سمعتُ.
وبقيتُ لزمن على هذا المنوال أتقلّبُ بين غفوة وصحوة ما أدّى إلى تلبّد مزاجي وفقدان توازني فأدركتُ أنّ القول البسيط بأنّ النومَ نعمةٌ لهو قولٌ صائبٌ، ولذا كنتُ متى لم أجد إلى غفوتي سبيلًا أعمدُ إلى الوقوف أمام رفّ كتبي فأختار عنه كتابًا أعتقدُ أنه يطيّبُ نفسي ويهدئ من روعي فأقلّبُ صفحاتِه للوقوف على فقرة تردّني إلى غفوتي الضائعة، فكنتُ كحارثٍ في بحر لا ساحل له.
ثم كنتُ أسائل نفسي طيلةَ زمان أرقي، ولم يكن قصيرًا، ما الذي جلبَ عليّ هذا الويل، ومن أين تهبط عليّ نكبات الرّوح، فاكتشفتُ أنّ كلّ ذلك مرجعه فوضى فكريّة وبلبلة عقائديّة أدركتني منذ صباي فرافقتني مثلَ ظلّي ولزمتني على وسادتي فطارَ النومُ من عيني وكدْتُ أطير معه فمُنعَ الرّقاد، ولعلّي لا أخطئ إذا قلتُ إنّ مأساة النكبة العظمى لبستنا فما خرجْنا منها، لا بل كان خناقها يشتدُّ علينا مُضاعَفًا كلّ عقد، فلم يبدُ لي فرحٌ قريبٌ، بل فجرٌ غَبِشٌ من مُحيط إلى خليج، ومن قرن الهلال الخصيب عند غزّة إلى قرنة عند البصرة، فإذا الهلال مفازةٌ يبابٌ، وإذا أنا معلّق بين أرض وسماء، فانقلبتْ الدنيا عليّ رأسًا على عقب حين رأيتُ أن شعبي المسكين سائرٌ من كبوة إلى نكسة ومن هزيمة إلى نكبة، فكأنّه كُتب عليه العيش في شظف يكلّله الوعد برغدٍ كما في سقي الكمّون بالوعد، ومن هنا على الأرجح أرقي وقلقي ودفعُ النومِ عنّي، فطالَ أساي وتبخّرَ هنائي؛ ثم تبيّنَ لي بعد تبصّر أنّ ما كلّ هذا إلّا من فساد النفوس وإفلاسها الروحي ما مهّد للنزول علينا من نخاريب الإقطاعية وجبّ الظلاميّة، فإذا نحن في دياميس السلفيّة، وكأننا تحوّلنا إلى جلمود صخر فلا حياء مما نحن فيه ولا خجل ممّا أصابنا، لا بل مباهاةٌ بجهلنا وكبرياءٌ بتخلّفنا وفخرٌ بمأساتنا، ثم كان الكيّ آخر الدواء، فبالخطابة داوينا خيبتَنا، فصفعتنا النكباتُ، ولا من حسيب، وها هي عنعناتٌ مذهبية وحزازاتٌ طائفية تسير بنا إلى قاع بلا قرار، وما كلّ هذا إلا من فساد النفوس وإفلاسها الروحي.
كان والدي خرج إلى هذه الدنيا الفسيحة، وهي معاش للورى حتى إذا جاء الربيع فهي منظر، مع وقع سنابك خيل اللنبي يدخل مختالًا فخورًا إلى القدس، وخرج والدي ثانية، وهو في الثلاثين، عام النكبة العظمى المشهورة في حوادث الزمان وأخبار الأعيان، إلى بيروت، خيمتنا، وها اليوم لا زالتْ سنابكُ خيلِ فاتحين تطأُ أرضَنا الواسعة، وهي خصبةٌ عمرها عمر التين والزيتون الباقييْن شاهديْن على صواب الحقّ في منطق التاريخ ودهاء الجغرافية، من محيط إلى خليج، ولكن ها هو العطبُ طغى على الغيثِ، ما يعيد إلى البال قصيدة عمر أبو ريشة عام 1948:
أُمّتي هل لكِ بين الأُممِ
مِنبرٌ للسيفِ أو للقلمِ
أتلقاكِ وطرفي مُطرقٌ
خجلًا من أمسِكِ المنصرمِ
أُمّتي كم من صنيمٍ مجدْتِه
لم يكنْ يحملُ طُهرَ الصنمِ
لا يُلام الذئب في عدوانه
إن يكن الراعي عدوّ الغنمِ
وكنتُ غيرَ واعٍ لمدلول قصيدة "أُمتي" إذ حفظتُها عن ظهر قلب في خريف 1958 حين كنتُ فتيًّا أرعنَ يوم أرسلني أهلي إلى مدرسة إنجيليّة، ليس إلّا لأنها كانت مجانيّة، ولعلّ أحبّ نماذج كتاب قراءة العربية إليّ كان مَثَلُ الثعلبِ والطبل من سِفر كليلة ودمنة فبقيَ لي معيارَ الاستقامةِ والنزاهةِ في ما يختطه المرء في دنياه الفسيحة، فالعبارة الصادقة أسُّ الأخلاق وطلبُ المنى:
قالَ دِمنةُ زعموا أنّ ثعلبًا جائعًا أتى على أجَمَةٍ فيها طبلٌ مُلقى إلى جانبِ شجرة. فإذا هبّتِ الرّيحُ تحرّكت أغصانُ الشجرةِ وأصابتِ الطّبل فصوّتَ صوتًا شديدًا. فسمِعَ الثّعلبُ ذلك الصّوتَ فتوجّهَ نحوَهُ حتّى انتهى إلى الطّبل. فلمّا رآهُ ضخمًا قال في نفسه: إنّ هذا لخليقٌ بكثرة الشّحم واللحم. فعالجهُ أشدّ العلاج حتى شقّه. فلمّا رآهُ أجوَفَ قال الثّعلبُ: لعلّ أفشلَ الأشياء أعظمُها جُثّة وأعظمُها صوتًا.
أي ما اختصرَه نسيب عريضة في بروكلين عام 1917 في ذكرى وعد بلفور:
ربّ ثارْ/ ربّ عارْ/ ربّ نارْ
حرّكتْ قلبَ الجبان/ كلّها فينا/
ولكن لم تحرّكْ/ ساكنًا إلّا اللسانْ
فمنذ هجرتْنا العلمانيّة انحدرْنا بسرعة ثمّ هبطنا فجأة في غياهب التفرقة والانقسام، وما هذا إلّا من فسادِ النّفوس وإفلاسِها الرّوحي.