من سلالات الحزن الجولاني.. عن تَرْفة وثريَّا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من سلالات الحزن الجولاني.. عن تَرْفة وثريَّا

    من سلالات الحزن الجولاني.. عن تَرْفة وثريَّا
    سلام محمد
    سير
    "حبابة" جولانية (فيسبوك)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    الجولان

    حزينةٌ مثل عجوز جولانية تنوح منذ خمسين عامًا على فقد البلاد. ورثت ذلك الحزن من "جداتي الوارفات البهيات" اللاتي قضين سنوات ما بعد النزوح يغنين مواويل الشوق للبلاد السليبة، ويبكين كما لم يبكِ أحد!
    جدتي ترفة ذات العشر خواتم، مع خزامة تتدلى من أنف جميل شامخ، أورثتني حرقة الفقد، وصدمة الاغتراب، حتى لكأنني عشت عمري كله وأنا أتنقل من مدينة إلى أخرى من دون أن يكون لي وطن!
    كنت غريبة في دمشق، وأكثر غربة في الكويت، أما في إسطنبول فقد التهم اليُتم قلبي، حتى غدوت كمن لا أهل له، أو أحبة.
    قالت لي ترفة مرة "يومًا ما، ستحبين رجلًا رائعًا، وسيهبك وطنًا من كلمات، وأطفالًا".
    لم يكن ذلك حقيقيًا يا ترفة، لأنك أنجبت من الأولاد سبعة، وكان زوجك شيخًا جليلًا يتقن الشعر والحكايات، لكنك حين ضللت الطريق عن بيتك في دمشق لم تستطيعي أن تعودي أبدًا إلا بعد أن تعرف عليك شاب صغير، وأعادك إلى بيتك خائفة مشدوهة ومصدومة كأرنب قفز للتو من قبعة ساحر. لم يهبك أولادك السبعة أي وطن، بل أخذوا يخفونك عن أعين الأقرباء والغرباء بعد أن أصابك الخرف بفعل حنينك الجارف لتلك البلاد البعيدة.
    كنت قد زرتها مرة بعد إصابتها بالخرف، كانت تجلس في الحوش تحت الشمس مباشرة تجدل ضفائرها وتدخن سيجارة مع فنجان قهوتها المرة السوداء "غابت الشمس يا بن شعلان.. واريد ادور معازيبي.. والدلة تسكب على الفنجان.. وبهارها جوزة الطيب".
    نظرت إلي طويلًا، ثم أشعلت سيجارة تتن جديدة، وقالت "جاية تشمتين بي.. قالوا لك ترفة انهبلت.. مو؟".
    لم أجبها، وإنما رحت أغني بصوت خافت اغنيتها المفضلة "سيري يا حية من باب بيت الشيخ.. سيري يا حية.. لاظل بنية.. جكارة بولد العم.. لظل بنية". تحمست ترفة، وبدأت تغني بصوت شجي وعالٍ كأنها تصرخ في وجه زوجها للمرة الألف؛ ربما لأنها لم تكن تريده، فقد تزوجته رغمًا عنها، لكونه ابن عمها. نقلت ترفة أغنيتها المتمردة تلك معها من الجولان إلى دمشق، وظلت ترددها لمدة تزيد على 50 عامًا، هو عمر زواجها من جدي خليل، وعمر نكبتها واغترابها وفقدانها لذاكرتها أيضًا. غنينا سوية، ودبكنا معًا، ثم دخلنا في أتون نواح غريب.. بكينا خذلاننا العاطفي، وحنيننا لحب تعدته سنوات الفراق دونما رحمة. بعدها مسحت ترفة دموعي، وعانقتني بقوة، همست بصوت عميق ومخيف "سلومة.. آني ودي أموت.. مليت وتعبت من عيشتي هين.. اوعديني بس ترجع الجولان تطلعين عظامي من القبر وتدفنيهن بقريتنا"! وعدتها أن أفعل، وغادرتها بثقب في الروح، وإحساس مرير بالخسارة!
    بعد وفاة ترفة، دخلت في مرحلة صمت مفجع، لم أعد أرغب بالكلام حول أي شيء، كنت حزينة جدًا عليها، لأن جدتي المسكينة لم تعرف الراحة منذ عام 1967، وحتى وفاتها عام 2009.
    تذكرتها اليوم، فبكيت، ربما لأنني أيضًا لم أعرف الفرح أو الطمأنينة منذ عام 2011، اثنا عشر عامًا وأنا أحترق كترفة، تزن سورية في رأسي كنحلة لا تمل، أستيقظ فتكون فكرتي الأولى، وأنام وهي في إغفاءة عيني الأخيرة.
    أورثتني ترفة حزنها وخوفها وحبها الوحشي للبلاد، بل أقسى من ذلك، تسرب إلي شعورها أنني خارج وطني نكرة، غريبة، وحيدة، عاجزة ومستلبة.
    كم كانت ترفة بائسة، فقدت عقلها وهي تغني مواويل الحنين للجولان، ثم ماتت وجل ما تتمناه أن تدفن في قريتها "راوية"!


    ثُريَّا
    قبل ذلك، في عام 1993، أصبحت مقربة جدًا من جدتي "ثريا"، المرأة الأسطورة التي كان أبناء الجولان في سهراتهم يتداولون حكاياتها مع نظام الأسد الأب، وخاصة تلك الحادثة عندما بصقت في وجه أحد مخابرات النظام خلال أحداث الثمانينيات من دون أن يرف لها جفن.
    كان لدى ثريا ابن وحيد أنجبته من هلال، زوجها الذي مات بالسل وهو في ريعان شبابه. نذرت ثريا حياتها لابنها حسن، الذي تخرج في كلية الآداب في أواخر السبعينيات، وانخرط في نشاط الحزب الشيوعي آنذاك، وظلت تلاحقه مخابرات النظام لسنين طويلة.
    تمتعت ثريا بمهارة الاختباء منذ أن كانت طفلة في الجولان. أخبرتني مرة أن والدتها ظلت يومًا كاملًا تبحث عنها قبل أن تكشف لها مخبأها السري في المطبخ، وهو نفق صغير يقودها إلى خارج البيت. كانت قد حفرته بنفسها لأيام، وغطت مدخله بحجارة كبيرة، وأوانٍ منزلية. أعادت ثريا فعل ذلك ثانية في بيتها في دمشق، فحفرت داخل غرفة نومها خلف الخزانة حفرة يستطيع حسن النفاذ منها إلى بيت جيرانهم، والهرب متى ما داهم الأمن منزلها لاعتقاله. كانوا كلما أتوا وقلبوا البيت رأسًا على عقب تشتمهم ثريا وتبصق في وجوههم قائلة "الله ياخذ اللي باع بلادنا وخلانا تحت رحمتكم".
    كانت ثريا متمردة بشكل صادم، ولا تهاب شيئًا. كان ذلك يعجبني كثيرًا. عندما أحست بإمكانية اعتقال ابنها قريبًا، ألحت عليه كي يسافر ليعمل في الخليج. قالت له "هالبلاد مو بلادنا يمه.. روح قبل لا ياخذونك للموت. أخاف أحد يفسد عليك ويندلون مطرحك.. هج يما". وهكذا سافر حسن، وظلت ثريا وحيدة تسحب خيوط الصوف من الكنزات العتيقة، وتصنع منها كرات ملونة، تدخن، وتغلي القهوة المرّة لضيوفها القلائل، وتبكي بصمت وخشوع.
    ثريا من القلائل الذين شكلوا هويتي، تعلمت منها أن الجولانيين لا وطن لهم ولا انتماء، وأنهم منبوذون من دمشق وأهلها، والأهم من ذلك أنهم خدعوا، فبلادهم لم تحتل، وإنما بيعت لليهود ثمنًا لحكم آل الأسد لسورية.
    تعرفت ثريا التي كانت تسمع حوارات حسن وأصدقائه في بيتها على ماركس ولينين، وألمت بالصراعات الدولية على سورية. كانت تفهم، أيضًا، ماهية هذا النظام الذي استحوذ على سورية وصادر حريات السوريين ودمّر مستقبلهم.
    كانت تسخر من نشرات الأخبار الحكومية، وتطلب مني إغلاق التلفزيون ضاحكة "طفي هالماخوذي يا حبابة! شبعنا كذب يا سلومة، وقومي افتحي لنا الراديو.. هسع يجيبون أغنية سميرة"! كنت أفعل، وأنتظر معها سميرة توفيق، لنغني سوية "عالعين موليتين عالعين مولية.. جسر الحديد انقطع من دوس رجليه"، كنا نغني بمرح وحماس. أرقص أنا، وتصفق ثريا وهي تطلق الزغاريد ابتهاجًا، وعندما تنتهي وصلتنا اليومية تلك نهم لنأكل البرغل وننام.
    لم تر جدتي ثريا ابنها حسن أبدًا بعد سفره. كانت تحتفظ برسائله وتطلب مني قراءتها دومًا، وكانت حريصة على تعطير تلك الرسائل بعطره الذي احتفظت به لأعوام في خزانتها.
    قبل أن تموت، أخبرتني أن كتبَ حسن قد أصبحت لي، وهي مخبأة خلف خزانة الثياب، حيث حفرة الهروب.
    حزنت كثيرًا لرحيلها.. كنت شغوفة بحكاياتها، بشخصيتها الفذة، بالشامة النافرة على خدها الأيسر، وبقهوتها المرة اللذيذة. تحسرت كثيرًا على أمومتها المبتورة، وكنت أعيش حزنها ذاك كلما اعتقل النظام قريبًا أو صديقًا إبان الثورة السورية. اليوم، يداهمني وجع ثريا وتأكل النيران قلبي وأنا أفكر بالأمهات اللاتي تلوعن بفقدان ولد مغيب في سراديب الاعتقال. لقد داهمني اليوم خوف قاتم لمجرد تخيلي أن ابني قد يغادرني يومًا دونما عودة! يا لقلب ثريا المنفطر على حسن لخمسة وعشرين عامًا متواصلة.. يا لحزنها الذي كبر معها وقتلها قبل أن يمنحها القدر فرصة واحدة للقاء ابنها.
    اليوم، وبعد كل تلك السنين، فهمت أي حزن نبيل تمتلك الجولانيات. إنه حزن عتيق وأصيل، ممتد عبر سلالات طويلة من الأجيال والنكبات!
    أذكر أنني كتبت مرة لصديقة طفولتي في ألمانيا "لقد أصبح حزني طاعنًا في السن، عمره 50 عامًا، أو أكثر، تمامًا كعمر النكسة".
    قلت لها "لو أن حبابتينا ترفه وثريا على قيد الحياة لشارف حزني على التسعين عامًا".
    ذلك الحزن شفيف، لم تبتذله دموع أو لحظات انكسار، هو حزن نسوة الجولان العجائبي اللاتي عشن مرارة النزوح والاغتراب وما استطعن يومًا خلال عشرات السنين من الإقامة في دمشق أن ينمن بعينين مغلقتين مطمئنتين، بل بعين واحدة كذئب عجوز.
    لم تتقن جداتي الفرح يومًا، ولم تعرف الراحة طريقها إلى قلوبهن منذ أن غادرن البلاد. كن دومًا قلقات وخائفات، مغيبات عن كل ما حولهن، تسكن أرواحهن هضاب الجولان، ويمشين كالخدرات في شوارع مبهمة، عاجزات عن الإلمام بتفاصيل المدينة المتعبة، يحدقن لساعات في الفراغ، وهن ينشدن المواويل الحزينة ويغنين الهجيني المفرط في الألم والحسرة على بلاد عصية بعيدة، ومشتهاة كالحلم، هو حلم كل النازحين العابرين حدود الغدر والنكسة، إلى حيث أصبح كل شيء موغلًا بالحقد والنقمة واللاشيء.
يعمل...
X