في تصالح نفسي مع الكون

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في تصالح نفسي مع الكون

    في تصالح نفسي مع الكون
    محمود شريح
    سير
    شفيق عبود (1926-2004)/ لبنان
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    تآين جنوحي إلى فكرة الغرام عام نزوحي عن فكرة الوطن فاستعضتُ بفكرة عن فكرة وإن تقاطعتا بين حين وحين، وإن طغتْ واحدةٌ على أُخرى مع نضج وعيي، إثر هزائمَ على جبهة كلّ فكرة منهما. كان ذلك بادئ ذي بدء عقب نكسة 1967. صحيح أنّ أهلي كانوا وافدين من عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي وأني نشأتُ على فكر أنطون سعادة، إلّا أنّ خطبَ عبد الناصر عبرَ الأثير من إذاعة صوت العرب من القاهرة كانت تلهبُ حماسي وتحرِّك في أعماقي عواطفَ جيّاشة. فما أن كانتْ الهزيمة حتّى انصرفتُ إلى البحثِ عمّا يدلُّني على طمأنينة ثابتة خلتُ أنّي عثرتُ عليها في الالتفاتِ إلى الغرام، وإنْ كان ذلك لبرهة قصيرة. فما أن اشتدّ أوارُ نزوعي إلى فكرة فلسطين حتى خمدَ لهيبُ غرامي وانطفأَ شبقي، فلحقتُ بربعي تحتَ خيمة الكوفيّة. ثم كانتْ هزيمتي على ضفّتي النهر فما أن نفذتُ بريشي وخرجتُ معافى حتى وطّدتُ نفسي على الإبحارِ من جديد في مركبِ الهوى، وإنْ كان ذلك من باب المُنقذِ من إخفاق العقيدة، ليس إلّا، فبقيتُ أتأرجحُ بين قطبيْ الشكّ واليقين، ثمّ غدا القطبان في ناظري ضربَ محال.

    ثم وعيتُ فجأة على مدى حاجتي إلى الغرام فانخرطتُ في محاولات بدائية للتقرّب من الجنس اللطيف فكانتْ فاشلة لبدائيتها وغياب مِراسي في التعاطي مع صبايا في سنّي، إذْ كنتُ حيّيًا وخجولًا تحكمُني الرّجفة كلّما جلستُ مع إحداهنّ على فنجان قهوة. ثم خلعتُ حيائي واستيحائي وقلتُ لاحداهنّ تعالي نجلسْ على مقعد قبالةَ المتوسّط اللازوردي، فجلسنا لمرّات وتحادثْنا في ماهيّة الحبّ فإذا نحن على طرفيْ نقيض، فهي لاحظتْ تلعثمي في الإفصاح فيما اجترأتْ هي على البوحِ بالحسّ المرافق للغرام، فافترقْنا على خصام ولكن بقيتُ مُولعًا بها فكتبتُ لها قصائدَ غزل مرّ، لا هي قرأتْها، ولا أنا نشرتُها فانصرفتُ إلى قراءة قصائد توفيق صايغ ونزار قبّاني وخليل حاوي ومحمود درويش واختلطَ عليّ الأمر فيما هو حسٌّ قومي وفيما هو التصاق بالغرام فتهتُ لزمن بين هذين الحدّين وإنْ كنتُ اكتسبتُ بعض المهارة في صوغ الشّعر في وقت لاحق، وفي هذا كانت فائدتي من هجر الغرام، ولو إلى حين.

    ثمّ حدّثتني نفسي إثر سوء طالعي آنذاك، ولطالما كانت نفسي آنذاك أمّارة بالسوء، أن ألتحقَ بجناح الحلم الرومانسي بتحرير فلسطين، فالتحقتُ مهيضَ الجناح علّني أشفى فأحلّق وأطير في سماء الجليل، وكنتُ بريئًا واعدًا، طريَّ العود، آمل بالعودة إلى مسقط أهلي لكني أدركتُ وأنا في معترك العقيدة أنّ البونَ بين النظريّة والممارسة أوسع مما تصوّرتُ، ولمستُ أن الحلم بالتحرير تحوّل عندي إلى كابوس يؤرقُني فجفاني النومُ وأصابني كَرْبٌ وازددتُ همًّا على همّ، فضقتُ ذرعًا بما حولي من صراع وجدل بيزنطي فيما يخصّ أولوية سبل التحرير، فانزويتُ أرقبُ ساعة الفرج، فسمعتُ أنها لا ريبَ آتيةٌ، وطالَ انتظاري أرقبُها، فرأيتُها بعيدة بعيدة، رغم ما قيل لي إنها قريبة قريبة، فعزّيت نفسي بفُسحة الأمل وبقسمةِ الأرزاق، ثم يئستُ وانكفأتُ إذ عيلَ صبري وضاقَ صدري، فأنا بطبعي ضيّقُ الصدر، قصيرُ النفَس، فلمّا كان الخروج من الأغوار إلى الأحراش أدركتُ أنّ الهزيمة واقعة لا محالة، إذ انكشفَ ظَهرُ الحلم الرومانسي فأضحى عرضةً للنهشِ والعضِّ في ديار يقتاتُ أهلُها على الطعن بالظهر، فخرجتُ من ظلالِ الحلم أتّقي رماحَ الغدر والنميمة وأتجنّبُ سِهام الافتراء والشتيمة، وأنا في كلّ ذلك لم أخرج على أقانيم الحلم ولا عن تخومه، لكن ما خشيتُه ألمّ وما فزعتُ منه رَهقَني، فعلّلتُ نفسي بأني ما زلتُ أحلمُ وإنْ من باب التسامي وتحتَ خانة الالتفاتِ إلى فردوسٍ أرضي مُتخيّل مع علمي أنه باطل الأباطيل، فالحملُ ثقيل وأنا مسكين منزوع السلاح، قهرًا.

    ثمّ تأكّد لي أن لا خلاصَ لي من محنتي ولا سبيلَ أمامي للخروج من مأساتي، فالوطن مأساتي ونكبتي والغرام بلوتي ونكستي، إلا بالتطواف في عالمٍ أرحب منهما، فالوطنُ رحلَ عنّي دون إرادتي، والغرام هجرَني دون وعيي، فخرجتُ إلى دنيا الفلسفة وأبحرتُ في لجّة الميتافيزيق، فعثرتُ على بعض هناء في حلّ لغز الديالكتيك، أي في تصالحِ نفسي مع الكون، وما كان هذا الأمرُ سهلًا ولا طيّعًا، فتعاريجُ الروح غورٌ تضاريسُه شائكةٌ، والكون نَسَقٌ صلدٌ نظامه لا يستكينُ على حال ولا تهدأُ له حركة. وحين أدركتُ أنّ تحوّلي الجارف لهوَ نفسُه تقلّبُ الكون النازح، هدأتْ روحي بفعل الصدام الوافد عليّ من طرفيْ النزاع. إذ أيقنتُ أن لا حولَ لي ولا طولَ على مقارعة خذلانِ معتقدي ووهنِ كياني. فأسفتُ لحالي كما في لوعة القُرشيّ:

    ويا أسفي للنُّعمتين، أُضيعتا

    فهل عائدٌ لي صحّةٌ وفراغُ

    ثم أني نفيتُ نفسي طائعًا إلى ضفّة الدانوب لعقد وإلى سفح جبل الألب لعقد آخر فصرتُ أُحدّق في الورد وأجيل النظر في حدائقه، فتكشّف لي أنّ الوردة، رغم عمرِها القصير، باقيةٌ في الذاكرة وخالدةٌ في القصيدة، وأنها حاضرةٌ على الدوام بعد ذهابِ هذا الجَرْم الصغير، وتأكّدتُ أنه لا يبقى عندئذٍ إلّا صوتُ موجِ البحر وهديره، ولسانُ حالي ما قاله قيس بن ذريح:

    تكنّفَني الوشاةُ فأزعجوني

    فيا للهِ للواشي المُطاعِ

    وقد عشْنا نَلَدُّ العيشِ حينًا

    لو أنّ الدهرَ للإنسانِ راعِ

    ولكنّ الجميعَ إلى افتراقٍ

    وأسبابُ الحتوفِ لها دواعِ

    فأصبحت الغداةَ ألومُ نفسي

    على شيء وليسَ بِمُستطاعِ

    كمغبونٍ يعضُّ على يَدَيْهِ

    تبيّنَ غبنَه بعد البِيَاعِ
يعمل...
X