في رثاء أبي الذي مات في المنفى
هيفاء بيطار
سير
(محمود شيخاني)
شارك هذا المقال
حجم الخط
توفي والدي الحبيب عن عمر يناهز 94 سنة في فرنسا يوم 21 تموز/ يوليو 2022، وقد مضت على إقامته في مدينة فيشي في فرنسا حوالي عشر سنوات مُقيمًا في منزل مع أمي، وفي بيت لصق بيت أخي، طبيب القلب والقسطرة.
أبي كان يحلم بأن يعود إلى اللاذقية، ويعيش مع الأحبة والأقارب، ويموت ويُدفن فيها، هو المثقف والأستاذ في اللغة العربية الذي كان محبوبًا من طلابه، وكان يكتب الشعر من وقت لآخر. كان أبي منذ بلغ الثانية والثمانين يعيش في فرنسا، ويُلح على أن يعود إلى سورية، إلى مدينته الحبيبة اللاذقية، لكن أخي الطبيب، وأختي الطبيبة، كانا يمانعان بشدة عودته إلى اللاذقية، خاصة وأنه بالكاد يرى، وقد تعرض لكسر في عنق الفخذ، وأجريت له عملية، كما تعرض لأشياء أخرى. كان يقول بلهجة أقرب للرجاء والتوسل: لقد عشت أكثر من ثمانين سنة، هذا يكفي، أريد أن أموت في وطني في سورية الحبيبة. وكان أخي وأختي يقولان له: لا توجد إمكانيات طبية كافية في سورية، وأنت هنا في فرنسا تعيش شيخوخة خمس نجوم.. إذ ثمة موظفين يخدمون أبي وأمي خدمة ممتازة. كان يتألم من عبارة (شيخوخة خمس نجوم)، ويقول: لا أريد هذا الترف، أريد العودة إلى سورية، وأن أدفن في ترابها. بدأت حالته الصحية تتراجع كثيرًا، فأصبح حلم عودته مستحيلًا، خاصة في الظروف الحالية الكارثية من انقطاع شبه دائم للكهرباء والماء... إلخ. سكن أبي الصمت وما عاد يتكلم، ومن وقت إلى آخر تصدر عنه تنهدات عميقة وتدمع عيناه.
لا يُمكنني أن أعبر عن الألم المُهين للروح حين يُدفن الإنسان في المنفى الذي لم يختره، بل أجبرته ظروف الحياة القاسية اللا إنسانية في بلده على أن يترك وطنه الحبيب ويلجأ للمنفى، حيث يجد العناية الصحية والعيش الكريم، ودولة القانون، خاصة إن كان قرب أولاده، مثل أبي.
كان أبي، باسيلي بيطار، شخصية مؤثرة في اللاذقية، فعدا عن كونه أستاذ لغة عربية ناجحًا جدًا، كان يشارك في وضع مناهج التعليم في مادة اللغة العربية. وفي كنيسة عريقة في مدينة فيشي كان عدد من يعزوننا ويشاركوننا الصلاة على روح أبي قلة لم يتجاوز عددهم ثلاثين شخصًا، أحسست بألم وأنا أتأمل اسم أبي مكتوبًا بالفرنسية على التابوت، ولم أستطع أن أذهب إلى الدفن، لم أكن قادرة أن أتحمل أن أرى نعش أبي يُطمر في المنفى.
قبل وفاة والدي بشهر، توفي الكاتب السوري المُبدع خيري الذهبي، أيضًا في فرنسا، وكانت روحه في دمشق التي يتوق إلى العودة إليها، والموت فيها. فكرت كم من سوريين شبانًا وكهولًا ماتوا في المنفى، ضاقت بهم سبل الحياة في وطنهم، فاضطروا إلى الهجرة في بلاد الله الواسعة، ورغم ألم الانسلاخ عن الوطن الذي لا يعادله ألم، فقد أصبح حلمهم أن يُدفنوا في وطنهم هو الحلم الوحيد المتبقي لديهم، وهو حلم شبه مستحيل. يا للمرارة حين يشعر الإنسان أن حلمه الوحيد هو أن يُدفن في وطنه.
أبي الحبيب كان يتيم الأم والأب منذ عمر السابعة. لديه أخ وحيد يصغره بأربع سنوات. أبي وعمي اليتيمان ربتهما خالتهما الخرساء، لكن أبي كان مُحبًا للحياة والعلم، واستطاع أن يحصل على الشهادة الجامعية بدرجة امتياز في الأدب العربي، وكان أعز أصدقائه الشاعر شوقي بغدادي. وله فضل كبير علي، إذ أنه كان يطلعني على روائع الروايات والمسرحيات لأقرأها، ثم يناقشني فيها. أبي هو من وضعني في طريق الكتابة الساحر. لكنني أجد أن من حقه أن أحكي بعض الظروف الظالمة والمُخزية التي تعرض لها. فقد ورث أبي عن أبيه قطعة أرض كبيرة حدودها الأمامية حوالي البحر، وحدودها الخلفية المدينة الرياضية في اللاذقية، كان يحس بالأمان والفرح شاعرًا أنه يضمن مستقبل أولاده بقطعة الأرض ذات الموقع المهم والساحر المطلة على بحر اللاذقية. أذكر كم كان يتلقى عروضًا سخية من تجار ومقاولين ليشتروا الأرض وينشئوا عليها مشاريع سياحية، لكنه كان يرفض بيعها. كان يرى فيها الأمان الذي تركه له أبوه الذي بالكاد يذكره.
لا أنسى ذلك اليوم في عام 1988، حين عاد أبي إلى البيت زائغ النظرات مُنهارًا وارتمى في سريره، حيث كان ضغط دمه 20، وكان يحمل ورقة في يده مكتوب فيها أن البلدية استملكت أرضه، أي أن أبي خسر الأمان والأرض باستملاك البلدية لأرضه. أسعفه طبيب صديق، واكتشفنا بعد مدة قصيرة أن البلدية استملكت عدة أراض مُطلة على البحر بحجة إقامة مشاريع سياحية فيها، ما عدا أرض مسؤول كبير جدًا استثنتها البلدية من الاستملاك. خسر أبي حلمه، وعاش حسرة ومرارة، خاصة وأن البلدية خمنت سعر الأرض بمبلغ تافه. ومضت سنوات طويلة، أكثر من سبع عشرة سنة، والبلدية لم تُنشئ أي مشروع سياحي في الأرض التي ورثها أبي عن والده، وحسب القانون السوري يحق لصاحب الأرض أن يستعيد أرضه في حال لم تقم البلدية مشاريع سياحية عليها، وفعلًا اضطر أبي لأن يوكل محاميًا لاستعادة أرضه، لكن المحامي لم يستطع إعادة الأرض لأبي. بعد عشرين سنة من استملاك البلدية لأرض أبي (وغيرها من الأراضي) وبعد أن اضطر أبي لأن يراجع عشرات المرات مبنى البلدية للسؤال متى سيتم دفع ثمن الأرض، كان الجواب الوحيد الذي يحصل عليه: لديك احتمالان، إما أن تعطي فئة فاسدة في البلدية ثلث ثمن الأرض، أو نقول لك لا يوجد مال لندفع لك ثمن الأرض!!! كما لو أن جدي لأبي قد جعل البلدية شريكة في إرث الأرض، فساد مُروع ووقح لدرجة لا يتخيل العقل كل هذه الوقاحة، أي أن البلدية (المسؤولون الفاسدون فيها) يريدون رشوة ثلث سعر الأرض!!! أو إذا رفض أبي يقولون له: لا توجد سيولة مالية لندفع لك ثمن الأرض، أذعن أبي أخيرًا للنصابين المسؤولين، وتنازل عن ثلث سعر الأرض لصالح لصوص البلدية المسؤولين (أصبحوا من أصحاب المليارات)، وقبض أبي ثلثي سعر الأرض، وكان مبلغًا بسيطًا لا يساوي شيئًا، مقارنة بالسعر الأساسي للأرض. هذا الظلم الفظيع والفساد الفاقع المُروع لم أستطع تحمله، فوجدتني مدفوعة لكتابة رواية عن تلك الحادثة، روايتي "أبواب مُواربة"، أي أن الباب المُوارب هو باب الرشوة. شيء جوهري في روح أبي وروحنا، نحن أولاده الثلاثة، وأمي، انكسر، فالظلم يسحق الروح كما تسحق قدم نملة، أو زهرة، شيء جوهري في روحنا أشعرنا بمرارة الظلم والقهر في الوطن، الوطن الذي تربينا على التغني به (سورية يا حبيبتي أعدت لي كرامتي أعدت لي حريتي!) كيف يمكن بعد عملية النصب الكبيرة، حيث ضاع حلم أبي وحلمنا باستملاك أرضه الوحيدة، ثم بإجباره على أن يدفع رشوة ثلث ثمن الأرض لمسؤولين في البلدية وشركائهم، كيف سنشعر بالكرامة والحرية والعدالة، وكرامتنا ممرغة في وحل الذل والقهر، والقضاء لم ينصفنا. أجد أن من حق أبي عليّ أن أحكي تلك الحادثة التي تركت طعنة ألم لا تزول في روحه، هو النزيه المُخلص الذي جعل كل طلابه يعشقون اللغة العربية. وكان يعطي دروسًا خصوصية للطلاب، ويرفض أن يقبض قرشًا، ويقول: عيب، هؤلاء مثل أولادي، وواجبي أن أساعدهم. أما راتب أبي والأساتذة أمثاله فرواتب احتقار بالكاد تكفي أسبوعًا، صار الراتب لا يساوي شيئًا بعد التقاعد، وبعد انهيار الليرة السورية، ووصول سعر الدولار الواحد إلى 4000 ليرة سورية.
وأخيرًا، تُقرر وزارة التربية تكريم الأساتذة المُتقاعدين في قاعة دار السد للثقافة، المركز الثقافي الجديد في اللاذقية. كان أبي في فرنسا، وكنت أنا في اللاذقية، وطلبوا مني أن أحضر حفل التكريم نيابة عن أبي، وأن أستلم الهدية. اتصلت بأبي في فرنسا وصوتي يزقزق فرحًا وأنا أخبره أنني سعيدة جدًا أنني سأحضر حفل التكريم نيابة عنه، وسأستلم الهدية التي تخيلتها فخمة جدًا. كان حفلًا استعراضيًا بلغة خشبية طنانة، وكانت الجائزة ساعة يد رخيصة.
غريب أمر التكريم في سورية بساعة يد!!! كثير من الشهداء بعمر الورد أعطت الدولة لأهلهم ساعة، كما لو أن الساعة هي التي تملك السلطة علينا كمواطنين، ونحن لا نملك سلطة على الزمن الذي تسحله وتسحلنا معه عقارب الساعة.
الرحمة لروحك يا أبي الحبيب، والرحمة لأرواح كل السوريين الأحبة الذين ماتوا في المنفى.
فأي قهر أن يصير حلمنا أن نموت في وطننا الذي أجبرتنا ظروفه المفرطة القسوة على أن نغادره!
هيفاء بيطار
سير
(محمود شيخاني)
شارك هذا المقال
حجم الخط
توفي والدي الحبيب عن عمر يناهز 94 سنة في فرنسا يوم 21 تموز/ يوليو 2022، وقد مضت على إقامته في مدينة فيشي في فرنسا حوالي عشر سنوات مُقيمًا في منزل مع أمي، وفي بيت لصق بيت أخي، طبيب القلب والقسطرة.
أبي كان يحلم بأن يعود إلى اللاذقية، ويعيش مع الأحبة والأقارب، ويموت ويُدفن فيها، هو المثقف والأستاذ في اللغة العربية الذي كان محبوبًا من طلابه، وكان يكتب الشعر من وقت لآخر. كان أبي منذ بلغ الثانية والثمانين يعيش في فرنسا، ويُلح على أن يعود إلى سورية، إلى مدينته الحبيبة اللاذقية، لكن أخي الطبيب، وأختي الطبيبة، كانا يمانعان بشدة عودته إلى اللاذقية، خاصة وأنه بالكاد يرى، وقد تعرض لكسر في عنق الفخذ، وأجريت له عملية، كما تعرض لأشياء أخرى. كان يقول بلهجة أقرب للرجاء والتوسل: لقد عشت أكثر من ثمانين سنة، هذا يكفي، أريد أن أموت في وطني في سورية الحبيبة. وكان أخي وأختي يقولان له: لا توجد إمكانيات طبية كافية في سورية، وأنت هنا في فرنسا تعيش شيخوخة خمس نجوم.. إذ ثمة موظفين يخدمون أبي وأمي خدمة ممتازة. كان يتألم من عبارة (شيخوخة خمس نجوم)، ويقول: لا أريد هذا الترف، أريد العودة إلى سورية، وأن أدفن في ترابها. بدأت حالته الصحية تتراجع كثيرًا، فأصبح حلم عودته مستحيلًا، خاصة في الظروف الحالية الكارثية من انقطاع شبه دائم للكهرباء والماء... إلخ. سكن أبي الصمت وما عاد يتكلم، ومن وقت إلى آخر تصدر عنه تنهدات عميقة وتدمع عيناه.
لا يُمكنني أن أعبر عن الألم المُهين للروح حين يُدفن الإنسان في المنفى الذي لم يختره، بل أجبرته ظروف الحياة القاسية اللا إنسانية في بلده على أن يترك وطنه الحبيب ويلجأ للمنفى، حيث يجد العناية الصحية والعيش الكريم، ودولة القانون، خاصة إن كان قرب أولاده، مثل أبي.
كان أبي، باسيلي بيطار، شخصية مؤثرة في اللاذقية، فعدا عن كونه أستاذ لغة عربية ناجحًا جدًا، كان يشارك في وضع مناهج التعليم في مادة اللغة العربية. وفي كنيسة عريقة في مدينة فيشي كان عدد من يعزوننا ويشاركوننا الصلاة على روح أبي قلة لم يتجاوز عددهم ثلاثين شخصًا، أحسست بألم وأنا أتأمل اسم أبي مكتوبًا بالفرنسية على التابوت، ولم أستطع أن أذهب إلى الدفن، لم أكن قادرة أن أتحمل أن أرى نعش أبي يُطمر في المنفى.
قبل وفاة والدي بشهر، توفي الكاتب السوري المُبدع خيري الذهبي، أيضًا في فرنسا، وكانت روحه في دمشق التي يتوق إلى العودة إليها، والموت فيها. فكرت كم من سوريين شبانًا وكهولًا ماتوا في المنفى، ضاقت بهم سبل الحياة في وطنهم، فاضطروا إلى الهجرة في بلاد الله الواسعة، ورغم ألم الانسلاخ عن الوطن الذي لا يعادله ألم، فقد أصبح حلمهم أن يُدفنوا في وطنهم هو الحلم الوحيد المتبقي لديهم، وهو حلم شبه مستحيل. يا للمرارة حين يشعر الإنسان أن حلمه الوحيد هو أن يُدفن في وطنه.
أبي الحبيب كان يتيم الأم والأب منذ عمر السابعة. لديه أخ وحيد يصغره بأربع سنوات. أبي وعمي اليتيمان ربتهما خالتهما الخرساء، لكن أبي كان مُحبًا للحياة والعلم، واستطاع أن يحصل على الشهادة الجامعية بدرجة امتياز في الأدب العربي، وكان أعز أصدقائه الشاعر شوقي بغدادي. وله فضل كبير علي، إذ أنه كان يطلعني على روائع الروايات والمسرحيات لأقرأها، ثم يناقشني فيها. أبي هو من وضعني في طريق الكتابة الساحر. لكنني أجد أن من حقه أن أحكي بعض الظروف الظالمة والمُخزية التي تعرض لها. فقد ورث أبي عن أبيه قطعة أرض كبيرة حدودها الأمامية حوالي البحر، وحدودها الخلفية المدينة الرياضية في اللاذقية، كان يحس بالأمان والفرح شاعرًا أنه يضمن مستقبل أولاده بقطعة الأرض ذات الموقع المهم والساحر المطلة على بحر اللاذقية. أذكر كم كان يتلقى عروضًا سخية من تجار ومقاولين ليشتروا الأرض وينشئوا عليها مشاريع سياحية، لكنه كان يرفض بيعها. كان يرى فيها الأمان الذي تركه له أبوه الذي بالكاد يذكره.
لا أنسى ذلك اليوم في عام 1988، حين عاد أبي إلى البيت زائغ النظرات مُنهارًا وارتمى في سريره، حيث كان ضغط دمه 20، وكان يحمل ورقة في يده مكتوب فيها أن البلدية استملكت أرضه، أي أن أبي خسر الأمان والأرض باستملاك البلدية لأرضه. أسعفه طبيب صديق، واكتشفنا بعد مدة قصيرة أن البلدية استملكت عدة أراض مُطلة على البحر بحجة إقامة مشاريع سياحية فيها، ما عدا أرض مسؤول كبير جدًا استثنتها البلدية من الاستملاك. خسر أبي حلمه، وعاش حسرة ومرارة، خاصة وأن البلدية خمنت سعر الأرض بمبلغ تافه. ومضت سنوات طويلة، أكثر من سبع عشرة سنة، والبلدية لم تُنشئ أي مشروع سياحي في الأرض التي ورثها أبي عن والده، وحسب القانون السوري يحق لصاحب الأرض أن يستعيد أرضه في حال لم تقم البلدية مشاريع سياحية عليها، وفعلًا اضطر أبي لأن يوكل محاميًا لاستعادة أرضه، لكن المحامي لم يستطع إعادة الأرض لأبي. بعد عشرين سنة من استملاك البلدية لأرض أبي (وغيرها من الأراضي) وبعد أن اضطر أبي لأن يراجع عشرات المرات مبنى البلدية للسؤال متى سيتم دفع ثمن الأرض، كان الجواب الوحيد الذي يحصل عليه: لديك احتمالان، إما أن تعطي فئة فاسدة في البلدية ثلث ثمن الأرض، أو نقول لك لا يوجد مال لندفع لك ثمن الأرض!!! كما لو أن جدي لأبي قد جعل البلدية شريكة في إرث الأرض، فساد مُروع ووقح لدرجة لا يتخيل العقل كل هذه الوقاحة، أي أن البلدية (المسؤولون الفاسدون فيها) يريدون رشوة ثلث سعر الأرض!!! أو إذا رفض أبي يقولون له: لا توجد سيولة مالية لندفع لك ثمن الأرض، أذعن أبي أخيرًا للنصابين المسؤولين، وتنازل عن ثلث سعر الأرض لصالح لصوص البلدية المسؤولين (أصبحوا من أصحاب المليارات)، وقبض أبي ثلثي سعر الأرض، وكان مبلغًا بسيطًا لا يساوي شيئًا، مقارنة بالسعر الأساسي للأرض. هذا الظلم الفظيع والفساد الفاقع المُروع لم أستطع تحمله، فوجدتني مدفوعة لكتابة رواية عن تلك الحادثة، روايتي "أبواب مُواربة"، أي أن الباب المُوارب هو باب الرشوة. شيء جوهري في روح أبي وروحنا، نحن أولاده الثلاثة، وأمي، انكسر، فالظلم يسحق الروح كما تسحق قدم نملة، أو زهرة، شيء جوهري في روحنا أشعرنا بمرارة الظلم والقهر في الوطن، الوطن الذي تربينا على التغني به (سورية يا حبيبتي أعدت لي كرامتي أعدت لي حريتي!) كيف يمكن بعد عملية النصب الكبيرة، حيث ضاع حلم أبي وحلمنا باستملاك أرضه الوحيدة، ثم بإجباره على أن يدفع رشوة ثلث ثمن الأرض لمسؤولين في البلدية وشركائهم، كيف سنشعر بالكرامة والحرية والعدالة، وكرامتنا ممرغة في وحل الذل والقهر، والقضاء لم ينصفنا. أجد أن من حق أبي عليّ أن أحكي تلك الحادثة التي تركت طعنة ألم لا تزول في روحه، هو النزيه المُخلص الذي جعل كل طلابه يعشقون اللغة العربية. وكان يعطي دروسًا خصوصية للطلاب، ويرفض أن يقبض قرشًا، ويقول: عيب، هؤلاء مثل أولادي، وواجبي أن أساعدهم. أما راتب أبي والأساتذة أمثاله فرواتب احتقار بالكاد تكفي أسبوعًا، صار الراتب لا يساوي شيئًا بعد التقاعد، وبعد انهيار الليرة السورية، ووصول سعر الدولار الواحد إلى 4000 ليرة سورية.
وأخيرًا، تُقرر وزارة التربية تكريم الأساتذة المُتقاعدين في قاعة دار السد للثقافة، المركز الثقافي الجديد في اللاذقية. كان أبي في فرنسا، وكنت أنا في اللاذقية، وطلبوا مني أن أحضر حفل التكريم نيابة عن أبي، وأن أستلم الهدية. اتصلت بأبي في فرنسا وصوتي يزقزق فرحًا وأنا أخبره أنني سعيدة جدًا أنني سأحضر حفل التكريم نيابة عنه، وسأستلم الهدية التي تخيلتها فخمة جدًا. كان حفلًا استعراضيًا بلغة خشبية طنانة، وكانت الجائزة ساعة يد رخيصة.
غريب أمر التكريم في سورية بساعة يد!!! كثير من الشهداء بعمر الورد أعطت الدولة لأهلهم ساعة، كما لو أن الساعة هي التي تملك السلطة علينا كمواطنين، ونحن لا نملك سلطة على الزمن الذي تسحله وتسحلنا معه عقارب الساعة.
الرحمة لروحك يا أبي الحبيب، والرحمة لأرواح كل السوريين الأحبة الذين ماتوا في المنفى.
فأي قهر أن يصير حلمنا أن نموت في وطننا الذي أجبرتنا ظروفه المفرطة القسوة على أن نغادره!