ضياء.. "أهكذا أبدًا تمضي أمانينا؟"
محمود شريح
سير
(أحمد حسام الدين أحمد)
شارك هذا المقال
حجم الخط
صاحبي ضياء عرفتُه وهو عرفَني في المرحلة الابتدائية، ثم افترقنا في المرحلة الثانويّة، ولكن بقينا نلتقي نهايةَ كلّ أسبوع في غرفته عند بيتِ أهله، وكانت غرفته على سطحِ بيت أهلِه يخلدُ إليها للدرس والقراءة وسماع أغاني محمد عبد الوهاب، وكان يحبُّ صوتَه حبًّا عظيمًا، ومتى هزّه الطربُ دندنَ وغنّى فعلَا صوتُه على صوت محمد عبد الوهاب. ثم التقينا في الجامعة من جديد وسكنّا في غرفة واحدة، لكلّ سريرُه، وهو أبدًا على سريره وبيده كتابٌ مقرّرٌ علينا، فيما أنا أعودُ عند منتصفِ الليل إلى سريري للنوم ليس إلّا، فأغفو رأسًا فيما هو يقظانُ يفلّي صفحاتِ المقرّر علينا. وكنّا التحقْنا بالجامعة لدراسة الطبّ، فأفلحَ، وأنا رسبتُ. انتهى طبيبًا، وامتهنتُ التدريسَ، فكنتُ أُستاذًا يقوم له التلاميذ ويقعدون ويوفونه التبجيلَ، حسَب شوقي، وما كان درى بمصيبة طوقان.
وكانت أبهجُ الأيامِ لدى صاحبي يومَ يفدُ من القاهرة إلى بيروت فيلم قديم تمثيل وغناء محمد عبد الوهاب، فيلقي الكتابَ من يدِه ويهبُّ واقفًا على قدميه ويصرخُ بوجهي: نذهبُ الليلة إلى السينما فلا تنسَ. وكنتُ لا أنسى، فهذه متعتي أيضًا أن أرى محمد عبد الوهاب يُغنّي فيُطرِبُ ويُمثّلُ فيُدهِشُ. كنتُ أرافقُ صاحبي إلى السينما فيما هو يغذُّ الخُطى أمامي فيكادُ من فرحته يطيرُ والبسمة على شفتيه طيلةَ رحلتِنا من غرفتِنا في الجامعة إلى دارِ السينما، فما أن ندخلَها ونجلسَ على كراسينا حتى يفركَ يدًا بيد فيما ساقاه تهتزّان رقصًا إلى أن يبدأ عرضُ الفيلم، فعندئذٍ يهدأُ ويحدّقُ في الشاشة جاحظَ العينيْن، فأراهما مضيئتيْن وسطَ عتمةِ السينما، وأسمعُ أنفاسَه الحرّى كلّما بدأ محمد عبد الوهاب يناجي حبيبتَه. كنتُ أنظرُ إلى صاحبي بطرف عيني فأتساءل عمّا يدورُ في خلده، فأحارُ في أمرِه. ومتى انتهى عرضُ الفيلم أراه يقنطُ، فنعودُ إلى غرفتنا، ويقفرُ إلى سريره، ويعود إلى درسِه.
كنتُ في غالب الأحيان أرجعُ إلى غرفتنا والليلُ انتصفَ وكان يسألني أين تكون فاعترفتُ له أني منضوٍ في حركة سياسية وأنا منهمكٌ بحضور اجتماعاتها لفهمِ منطلقاتها.
ذاتَ منتصفِ ليلةٍ عدتُ إلى غرفتنا وكان كعادته في سريره منغمسًا في الدرس، فما أن أشرفتُ على الخلود إلى النوم حتى فاجأني: خذْني إلى تلك الاجتماعات السياسيّة. أجبتُ: يكفي أني أعاني ما أعانيه من شظف العقيدة، فالأجدى لك أن تمضي إلى كليّة الطبّ، وتفلحَ في مهنتك، فأنا موقنٌ من رسوبي وواثقٌ من نجاحِك، لكن عزيمتَه لم تنثنِ، فألحَّ عليّ بالانضمام، وبقيت أردعُه.
وكنتُ أعرفُ والدتَه، وكان يعرف والدتي، فنحن جيران في هذا المنفى، وكنّا جيران في مسقطهما، وكانتا ترأفان بنا وتحنوان علينا. وذات ليلة انتصفت قرأتُ على مسمعه بيتيْن من المهجري رشيد أيّوب:
يا ثلجُ قد ذكّرتني أُمي
أيام تقضي الليلَ في همّي
مشغوفةً تحارُ في ضمّي
تحنو عليّ مخافة البردِ.
فَسَعدْنا، وإن بكيْنا من رَيْبِ الزمانِ، وتذاكرنا كيف لجأتا، صبيّتيْن، من أعالي الجليل إلى منخفض النزوح، قبل مولدنا في المنفى، ودُفنتا في مدافن الغربة.
وفي الأماسي كنّا نجلسُ في صالون المبنى الجامعي الذي سكنّا فيه، فكان يحضرُ معه الغرامافون، ويديرُ عليه أُغنية كليوباتره غناء محمد عبد الوهاب، نظمَها شعرًا المهندس علي محمود طه، فننصتُ إليها، وكانَ صاحبي يحفظُها عن ظهرِ قلبٍ فيردّدُها بصوت شجيّ بموازاة غناءِ محمد عبد الوهاب، فكنتُ أحارُ بأمرِ صاحبي الولهان، إذ كان ينتشي لمرأى الصبايا أينما كنّا، وكان أحبّ الأماكن إلى قلبِه مقهى الجامعة، حيث الحسناوات هناك بكامل أناقتهنّ، فيسترقُ النظرَ إليهنّ، ويكادُ يقفزُ من كرسيّه لمعانقتهنّ، لكنّه كان حيّيًا خجولًا، فيبقى ثابتًا في مكانِه فيما عيناه تتوليّان العناقَ عنه.
ودارتْ الأيام وأصبحَ طبيبًا في مدينة سينثيناني في ولاية أُوهايو الأميركيّة، ودعاني لزيارته، فطافَ بي في المدينة، ووقفنا على ضفّة نهر أُوهايو، وتذكّرتُ أنّ الشاعر إيليا أبو ماضي وصلَ إلى هذه المدينة عبرَ نهرِها في عام 1912، وأمضى فيها أربعَ سنوات قبل أن يغادرها إلى نيويورك ويصدرَ فيها "السمير"، ويلتحقَ برابطة جبران القلميّة، وهو صاحب قصيدة "الطلاسم" اللاأدريّة الذهوليّة، وقلتُ لصاحبي أني كنت حفظت بيتَه الذائع الصيت:
وطنَ النجوم أنا هنا
حدّقْ، أتذكرُ من أنا؟
فأدرك صاحبي مرادي وذكّرني ببيت الشاعر نفسه:
فخطبُ فِلسطين خَطبُ العُلى
وما كان رُزْءُ العُلى هَيِّنا.
وفجأة تذاكرنا أيامَنا ونحن صبيةٌ في منافي اللجوء، وكيف كَبرْنا على غفلةٍ من الزمان، فسألَني صاحبي: أنعود يا ترى إلى مسقط أهلنا؟ وأجبتُ: يكفيني همّي، فما باليد حيلة، ونحن إذذاكَ وقوفٌ على ضفّة نهر الأوهايو نتأمّل جريانَه، فإذا هو أشبه بما انقضى من عمرنا تمامًا، كما في بحيرة لامارتين، كما عرّبها نقولا فيّاض وغنّاها، إثر النكسة، حليم الرومي الوافد من حيفا إلى بيروت عبر ليماسول حين أدركته النكبة ومطلعها:
أهكذا أبدًا تمضي أمانينا
نطوي الحياةَ وليل الموت يطوينا
تجري بنا سفنُ الأعمارِ ماخرةً
محمود شريح
سير
(أحمد حسام الدين أحمد)
شارك هذا المقال
حجم الخط
صاحبي ضياء عرفتُه وهو عرفَني في المرحلة الابتدائية، ثم افترقنا في المرحلة الثانويّة، ولكن بقينا نلتقي نهايةَ كلّ أسبوع في غرفته عند بيتِ أهله، وكانت غرفته على سطحِ بيت أهلِه يخلدُ إليها للدرس والقراءة وسماع أغاني محمد عبد الوهاب، وكان يحبُّ صوتَه حبًّا عظيمًا، ومتى هزّه الطربُ دندنَ وغنّى فعلَا صوتُه على صوت محمد عبد الوهاب. ثم التقينا في الجامعة من جديد وسكنّا في غرفة واحدة، لكلّ سريرُه، وهو أبدًا على سريره وبيده كتابٌ مقرّرٌ علينا، فيما أنا أعودُ عند منتصفِ الليل إلى سريري للنوم ليس إلّا، فأغفو رأسًا فيما هو يقظانُ يفلّي صفحاتِ المقرّر علينا. وكنّا التحقْنا بالجامعة لدراسة الطبّ، فأفلحَ، وأنا رسبتُ. انتهى طبيبًا، وامتهنتُ التدريسَ، فكنتُ أُستاذًا يقوم له التلاميذ ويقعدون ويوفونه التبجيلَ، حسَب شوقي، وما كان درى بمصيبة طوقان.
وكانت أبهجُ الأيامِ لدى صاحبي يومَ يفدُ من القاهرة إلى بيروت فيلم قديم تمثيل وغناء محمد عبد الوهاب، فيلقي الكتابَ من يدِه ويهبُّ واقفًا على قدميه ويصرخُ بوجهي: نذهبُ الليلة إلى السينما فلا تنسَ. وكنتُ لا أنسى، فهذه متعتي أيضًا أن أرى محمد عبد الوهاب يُغنّي فيُطرِبُ ويُمثّلُ فيُدهِشُ. كنتُ أرافقُ صاحبي إلى السينما فيما هو يغذُّ الخُطى أمامي فيكادُ من فرحته يطيرُ والبسمة على شفتيه طيلةَ رحلتِنا من غرفتِنا في الجامعة إلى دارِ السينما، فما أن ندخلَها ونجلسَ على كراسينا حتى يفركَ يدًا بيد فيما ساقاه تهتزّان رقصًا إلى أن يبدأ عرضُ الفيلم، فعندئذٍ يهدأُ ويحدّقُ في الشاشة جاحظَ العينيْن، فأراهما مضيئتيْن وسطَ عتمةِ السينما، وأسمعُ أنفاسَه الحرّى كلّما بدأ محمد عبد الوهاب يناجي حبيبتَه. كنتُ أنظرُ إلى صاحبي بطرف عيني فأتساءل عمّا يدورُ في خلده، فأحارُ في أمرِه. ومتى انتهى عرضُ الفيلم أراه يقنطُ، فنعودُ إلى غرفتنا، ويقفرُ إلى سريره، ويعود إلى درسِه.
كنتُ في غالب الأحيان أرجعُ إلى غرفتنا والليلُ انتصفَ وكان يسألني أين تكون فاعترفتُ له أني منضوٍ في حركة سياسية وأنا منهمكٌ بحضور اجتماعاتها لفهمِ منطلقاتها.
ذاتَ منتصفِ ليلةٍ عدتُ إلى غرفتنا وكان كعادته في سريره منغمسًا في الدرس، فما أن أشرفتُ على الخلود إلى النوم حتى فاجأني: خذْني إلى تلك الاجتماعات السياسيّة. أجبتُ: يكفي أني أعاني ما أعانيه من شظف العقيدة، فالأجدى لك أن تمضي إلى كليّة الطبّ، وتفلحَ في مهنتك، فأنا موقنٌ من رسوبي وواثقٌ من نجاحِك، لكن عزيمتَه لم تنثنِ، فألحَّ عليّ بالانضمام، وبقيت أردعُه.
وكنتُ أعرفُ والدتَه، وكان يعرف والدتي، فنحن جيران في هذا المنفى، وكنّا جيران في مسقطهما، وكانتا ترأفان بنا وتحنوان علينا. وذات ليلة انتصفت قرأتُ على مسمعه بيتيْن من المهجري رشيد أيّوب:
يا ثلجُ قد ذكّرتني أُمي
أيام تقضي الليلَ في همّي
مشغوفةً تحارُ في ضمّي
تحنو عليّ مخافة البردِ.
فَسَعدْنا، وإن بكيْنا من رَيْبِ الزمانِ، وتذاكرنا كيف لجأتا، صبيّتيْن، من أعالي الجليل إلى منخفض النزوح، قبل مولدنا في المنفى، ودُفنتا في مدافن الغربة.
وفي الأماسي كنّا نجلسُ في صالون المبنى الجامعي الذي سكنّا فيه، فكان يحضرُ معه الغرامافون، ويديرُ عليه أُغنية كليوباتره غناء محمد عبد الوهاب، نظمَها شعرًا المهندس علي محمود طه، فننصتُ إليها، وكانَ صاحبي يحفظُها عن ظهرِ قلبٍ فيردّدُها بصوت شجيّ بموازاة غناءِ محمد عبد الوهاب، فكنتُ أحارُ بأمرِ صاحبي الولهان، إذ كان ينتشي لمرأى الصبايا أينما كنّا، وكان أحبّ الأماكن إلى قلبِه مقهى الجامعة، حيث الحسناوات هناك بكامل أناقتهنّ، فيسترقُ النظرَ إليهنّ، ويكادُ يقفزُ من كرسيّه لمعانقتهنّ، لكنّه كان حيّيًا خجولًا، فيبقى ثابتًا في مكانِه فيما عيناه تتوليّان العناقَ عنه.
ودارتْ الأيام وأصبحَ طبيبًا في مدينة سينثيناني في ولاية أُوهايو الأميركيّة، ودعاني لزيارته، فطافَ بي في المدينة، ووقفنا على ضفّة نهر أُوهايو، وتذكّرتُ أنّ الشاعر إيليا أبو ماضي وصلَ إلى هذه المدينة عبرَ نهرِها في عام 1912، وأمضى فيها أربعَ سنوات قبل أن يغادرها إلى نيويورك ويصدرَ فيها "السمير"، ويلتحقَ برابطة جبران القلميّة، وهو صاحب قصيدة "الطلاسم" اللاأدريّة الذهوليّة، وقلتُ لصاحبي أني كنت حفظت بيتَه الذائع الصيت:
وطنَ النجوم أنا هنا
حدّقْ، أتذكرُ من أنا؟
فأدرك صاحبي مرادي وذكّرني ببيت الشاعر نفسه:
فخطبُ فِلسطين خَطبُ العُلى
وما كان رُزْءُ العُلى هَيِّنا.
وفجأة تذاكرنا أيامَنا ونحن صبيةٌ في منافي اللجوء، وكيف كَبرْنا على غفلةٍ من الزمان، فسألَني صاحبي: أنعود يا ترى إلى مسقط أهلنا؟ وأجبتُ: يكفيني همّي، فما باليد حيلة، ونحن إذذاكَ وقوفٌ على ضفّة نهر الأوهايو نتأمّل جريانَه، فإذا هو أشبه بما انقضى من عمرنا تمامًا، كما في بحيرة لامارتين، كما عرّبها نقولا فيّاض وغنّاها، إثر النكسة، حليم الرومي الوافد من حيفا إلى بيروت عبر ليماسول حين أدركته النكبة ومطلعها:
أهكذا أبدًا تمضي أمانينا
نطوي الحياةَ وليل الموت يطوينا
تجري بنا سفنُ الأعمارِ ماخرةً