"شبهة" الحلم الرومانسي!
محمود شريح
سير
(نبيل عناني)
شارك هذا المقال
حجم الخط
الأرجح أنّه كان فجرًا حين فتحتُ إحدى عينيّ. خمّنتُ ذلك لانبعاث نورٍ خافت من كوّةٍ أعلى غرفةٍ لا أعرفُها. كان فجرًا هادئًا، فيما ضرباتُ قلبي تتسارع. كنتُ نمتُ نومًا عميقًا إثر ليلةٍ تعرّضتُ فيها لركلٍ ورفسٍ ولكمٍ. قال لي المحقّق: كيف تحلمُ بتحرير فلسطين وأنتَ في قبضة يدي؟ أجبتُه أنا بطبعي رومانسي، فقال: أنعمْ وأكرمْ، وأردفَ: كيف وصلتَ إلى هنا؟ قلتُ: هربتُ من الخوف فاجتزتُ الحدود وتهتُ ووصلتُ إليكم. صمتَ قليلًا وهمسَ: إذًا، تنفي التهمة عنك، فقاطعتُه: أعوذ بالله، فأنا قيل لي اُعبرْ النهرَ فعبرتُه، وما كنتُ أدري أني وصلت إليكم عن طريق الخطأ. سألَني: من أمَرك بالعبور؟ أجبتُ: إنه صاحب الشأن. تعجّب ومطّ شفتيه وقال: ما شاء الله! أفصحْ، فأفصحتُ: أنا لا أراه، لكن هو يراني. وجّه إليّ رسالة بالمذياع أن أعبره، فعبرتهُ. وكيف أعصاه وهو صاحبُ الحلم الرومانسي بتحرير فلسطين؟ عندذاك، كبسَ على زرّ على مكتبه، ودخل رأسًا علينا خفيران عملاقان ركَلاني ورفَساني ولكَماني، ثم يبدو أني غبتُ عن الوعي، ولا أدري كيف وصلتُ إلى هذه الغرفة ذات الكوّة التي انبعثَ منها نورٌ خافت، فحسبتُ أنّه كان فجرًا. فما أن فتحتُ إحدى عينيّ لاستقبال نورِه حتى دخلَ عليّ الخفيران نفسهما، ففتحتُ عيني الأُخرى لأجدَ أنهما كبّلا يديّ واقتاداني إلى سيّارة فأجلسَاني بينهما، فيما جلسَ أمامَنا المحقّق نفسه، وإلى جانبه من ساقَ بنا. قلتُ: إلى أين؟ أجاب المحقّق: إلى ثكنة عسكرية خارج العاصمة. فاستعذتُ بالله لاعتقادي أنّ تهمتي مدنية ذات صلة بحلمي الرومانسي، فاستغربتُ هذا الخلطَ بين المدني والعسكري، فأنا بطبعي أيضًا عقلاني.
ما إن وصلتُ إلى الثكنة حتى أوصلني الخفيران إلى غرفة مظلمة أشبه بسرداب منها إلى زنزانة. أُغلقَ بابُها عليّ، وفكّرتُ بأهلي، فهم لا يعلمون أين أنا، إذ لم أخبرهم عمّا أمرني به صاحبُ الشأن حين وجّه إليّ رسالة عبر المذياع بأن أعبرَ النهرَ. وفيما هواجسي تأخذُني إلى ذكريات خلتُها انطفأتْ، سمعتُ صوتًا هادرًا: تفضّل إلى التحقيق، وكنتُ تصوّرتُ أنّ التحقيقَ صار من الماضي، ففاجأني بعثُه من جديد. جرّني إلى التحقيق جرًّا عنيفًا خفيرٌ، ولمّا قلتُ له: تأدّبْ، صفعَني فتأدبْتُ، وسرتُ على مضض إلى غرفة جلس إلى مكتب فيها ذو نظّارة سوداء، فارتعشتُ خوفًا من نظرةٍ إليّ لا عينَ فيها، ولما حوّلتُ نظري عنه نهرَني: التهمة لَبستْك فلا تنكرها، فأجبتُ: وهل لِفَتى على حالي نكرٌ؟ فقال: ما شاء الله! تقرضُ الشعر. أخبرْني من هو صاحب الشأن، أطلقْ سراحك، وتعود إلى أهلك. قلت: صاحبُ الشأن لم أرَه، ولكن هو يراني. وجّه إليّ رسالة عبر المذياع أن اعبرْ النهرَ، فعبرتُه، وأنا له مطيعٌ لا أخالفُ أمرَه. قال: تعبرُ النهر وتصلُ إلينا برسالة عبر المذياع! هل فقدت صوابَك؟ أجبتُه: صوابي حلمي. فصاحَ بي: كفى! لكني اجترأتُ عليه، وأعلمتُه أني موالٍ لصاحب الشأن. ما إن تماديتُ إلى هذا الحدّ حتى جرّني الخفيران إلى غرفة جانبية، وأشبعوني ركلًا ورفسًا ولكمًا. فما أن شبعتُ ركلًا ورفسًا ولكمًا حتى دخلَ ذو النظّارة السوداء، وقال: اعترفْ تنجُ بريشِك، فأجبتُ: بماذا أعترفُ ولم أذنبْ. قال: ذنبُك على جنبِك، وجنابُك من جماعة الحلم الرومانسي. فبادرتُه: إنْ هو إلا حلمٌ فحسب، وأنا لم أخطئ. وفاجأني: إذًا، إلى المحكمة العسكرية. أنت جنيتَ على نفسك ساعة تلقّيتَ رسالة من صاحب الشأن وعبرتَ النهر، ولكن قبل مثولِك أمام المحكمة العسكرية تذهب إلى السجن للراحة، ففرحتُ، ولكن لم يطلْ فرحي، إذ سألَني: أصحيح أنك عبرتَ الحدود سرًّا قبل أن تعبرَ النهر؟ قلت: نعم، فابتسمَ وأعلنَ: هذه تهمة ثالثة. على هذا النحو، لبستْني ثلاث تُهم، وظهرَ أمامي الخفيران من جديد وقاداني إلى السرداب المُعتم، فنمتُ من عياء التحقيق إلى أن طلعَ الصباح. اقتادني الخفيران إلى السجن، وأودعاني في غرفة واسعة تعجّ بنزلاء، فبادرَني أحدُهم: يبدو أن تهمتَك هي الحلم الرومانسي. ولما سألتُه كيف عرف سرّي. أجابَ النزلاء جميعًا بصوت واحد كأنهم في صلاة جماعة: هذه تهمتُنا، ونحن هنا من دهر. فاستعذتُ بالله، وتذكرتُ أهلي، إذ طالَ غيابي عنهم، وخشيتُ أن أمضي دهرًا آخر مع هؤلاء الحالمين.
في البدء، تصوّرتُ أنّ جيراني النزلاء مبالغون بقولهم إنهم في السجن قابعون منذ دهر سحيق، فلمّا انقضى عليّ دهرٌ بينهم آمنتُ بمغالاتهم، فإذا هي حقيقة لا ريبَ فيها. ثم فجأة، وبعدَ لأي طويل، زارَني في السجن والدي بإذن خاصّ من عِلية القوم، وأبلغني أنّ الفرج بإطلاق سراحي وشيك، وأنّه عليّ كتمان السرّ لئلا يكيدَ بي صحبي النزلاء كيدًا عظيمًا، فكتمتُ السرّ وانتظرتُ الفرج القريب بعودتي إلى أهلي. ثم كان يومٌ مجيدٌ، إذ استدعاني آمرُ السجن وأبلغَني أنّ صاحبَ الشأن توسّط لي لديه، وأن مسألة إخلاء سبيلي وشيكة، فعدتُ إلى غرفة النزلاء ونمتُ على حرير أتقلّب على جنبي واعدًا نفسي بالحريّة وأنا أحدّق طيلة ليلي بالسقف فأرى عليه طيفَ صاحبِ الشأنِ، فيما النزلاءُ صحبي في الحلم الرومانسي يغطّون في سباتٍ عميق من اليأس والضجر والقهر.
ذاتَ صباح، سمعتُ من ينادي اسمي ويلحقُه بعبارة: إخلاء سبيل؛ وتعهّدي بأن أطرحَ الحلم الرومانسي جانبًا بتوقيعي على شهادة بذلك أمامَ آمرِ السجن، فوقّعتُ. لكنّه قال إن لا سبيلَ إلى حريتي كاملة إلّا بمثولي أمام المحكمة العسكريّة، فعدتُ إلى أهلي، وطار النومُ من عينيّ وأنا أترقّبُ مثولي أمام القضاء العسكري، إلى أن جاء اليوم المشهود فرافقتْني والدتي إلى المحكمة العسكريّة تشدّ من إزري، إذ أعلنَ والدي أنه براء من حلمي وما جناه عليّ، فما لي إلا أن أقتلعَ شوكي بيدي، فوصلتُ إلى المحكمة أرتعدُ خوفًا مثل عوسجة مُلتهبة.
هناكَ أوقفَني الحرّاس في قفص خشبي، نظرتُ إلى والدتي بعين العطف وهي تذرفُ دمعًا. دخل القاضي ونادى الحاجب: قيام، فوقفَ الحشدُ إلا أنا إذ كنتُ واقفًا. سألَني القاضي: أنادمٌ أنت على حلمك؟ قلت: مِثلي لا يندمُ، فحالي حال امرؤ القيس، إذ قال:
ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشةٍ/ كفاني، ولم أطلبْ، قليلٌ من المالِ
ولكنّني أسعى لمجدٍ مُؤثّلٍ/ وقد يدركُ المجدَ المُؤثّل أمثالي.
نهرَني القاضي وتمتمَ كلامًا مبهمًا، ثم أعلن: أنحنُ في مطارحة شعريّة؟ ثم فجأة رقّ قلبُه فسألَني ما أغزلُ بيتٍ قالتْه العربُ فانبريتُ رأسًا إنه بيت جرير:
إنّ العيونَ التي في طرفها حَوَر
قتلننا، ثم لم يُحيين قتلانا.
ولمّا أبدى عينَ الرضا، اغتنمتُ فرصة رضاه وأردفتُ: لكن أُستاذي في العربيّة كان يرى أن بيتَ شوقي في زحلة:
ودخلتُ في ليليْن فَرعِكِ والدُجى
ولثمتُ كالصبحِ المنوِّرِ فاكِ
لهو أغزل من بيت جرير.
فقال القاضي: أحسنتَ، وانشرحَ صدري، فقلتُ في سرّي: فُرِجتْ، لكن لم أنشرحْ إلا قليلًا، إذ فاجأني القاضي: وما هذه الكتب الثوريّة التي عثرنا عليها في بيت أهلك؟ أجبتُ: أنا بطبعي ثوري، فصاحَ بي: هذه تهمة رابعة تلبسُك، فلبسَني خطبٌ جللٌ، إلّا أن القاضي عاجلَني ببسمة ارتسمتْ على شفتيه وهمسَ: اتّصل بي هاتفيًا أمس ليلًا صاحبُ الشأن، وأوصاني أن أرفقَ بك، وها أنا أُعلنُ براءتك. وفجأةً زغردتْ والدتي، فنهرَها القاضي، وقال لها: خذي ابنك إلى البيت، فهو مصابٌ بعضال رومانسي لا شفاءَ منه.
أخذتي والدتي. وهناك استقبلَني والدي بركلٍ ورفسٍ ولكمٍ، وطلبَ مني أن أخلدَ إلى النوم، وأتخلّى عن الحلمِ، فأذعنتُ ونمتُ. ثمّ أني لما صحوتُ صفحتُ عن والدي ساعة جاءني بطبق كنافة نابلسيّة ابتهاجًا ببراءتي، لعلمِه أنها أطيبُ من العسل إلى قلبي، ولعلّه أرادَها عوضًا عن حلمي الرومانسي، فرأيتُ بعين البصيرة أنّ الكنافة النابلسيّة ألذّ من الحلم وأبقى، وما عدتُ أحلمُ إلا بها ورؤيتها شقراءَ مُشبعة بالقطر وماءِ الزهر، لكن لم أنسَ صاحبَ الشأن، فبقيتُ في منفاي عنه أذكرُه بالخير وأنتظرُ منه إشارة عبرَ المذياع، فكنتُ كلّما الليلُ انتصفَ ونامَ أهلي أحرّكُ إبرةَ المذياع يمينًا ويسارًا علّني ألتقطُ إشارتَه وأنتظرُ منه توجيهَه لي بالحركة، فما سمعتُ منه لدهر ثالث سحيق. وخطرَ على بالي صحبي في الحلم الرومانسي بتحرير فلسطين، فلا بدّ أنهم أيضًا في دهرِهم الثالث السحيق حيث تركتُهم، ـ فتوقّفتُ عن تحريك إبرة المذياع يمينًا ويسارًا، وتوقفتْ حركتي فجمدَ حلمي وأسفتُ على حالي وردّدتُ كلّ صباح وأنا ألتهمُ النابلسيّة ما قاله الشاعر الأموي العرَجي، نسبةً إلى إقامته في العرَج في وديان الطائف، فبقي في السجن تسع سنوات، ومات فيه بعد أن ضُرب بالسياط:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا/ ليوم كريهةٍ وسِدادِ ثغْرِ
وصبرٍ عند معترَك المنايا/ وقد شُرِعتْ أسنّتُها بنحري
أجرِّرُ في الجوامع كلّ يومٍ/ فيا لله مَظلَمتي وصبري.
محمود شريح
سير
(نبيل عناني)
شارك هذا المقال
حجم الخط
الأرجح أنّه كان فجرًا حين فتحتُ إحدى عينيّ. خمّنتُ ذلك لانبعاث نورٍ خافت من كوّةٍ أعلى غرفةٍ لا أعرفُها. كان فجرًا هادئًا، فيما ضرباتُ قلبي تتسارع. كنتُ نمتُ نومًا عميقًا إثر ليلةٍ تعرّضتُ فيها لركلٍ ورفسٍ ولكمٍ. قال لي المحقّق: كيف تحلمُ بتحرير فلسطين وأنتَ في قبضة يدي؟ أجبتُه أنا بطبعي رومانسي، فقال: أنعمْ وأكرمْ، وأردفَ: كيف وصلتَ إلى هنا؟ قلتُ: هربتُ من الخوف فاجتزتُ الحدود وتهتُ ووصلتُ إليكم. صمتَ قليلًا وهمسَ: إذًا، تنفي التهمة عنك، فقاطعتُه: أعوذ بالله، فأنا قيل لي اُعبرْ النهرَ فعبرتُه، وما كنتُ أدري أني وصلت إليكم عن طريق الخطأ. سألَني: من أمَرك بالعبور؟ أجبتُ: إنه صاحب الشأن. تعجّب ومطّ شفتيه وقال: ما شاء الله! أفصحْ، فأفصحتُ: أنا لا أراه، لكن هو يراني. وجّه إليّ رسالة بالمذياع أن أعبره، فعبرتهُ. وكيف أعصاه وهو صاحبُ الحلم الرومانسي بتحرير فلسطين؟ عندذاك، كبسَ على زرّ على مكتبه، ودخل رأسًا علينا خفيران عملاقان ركَلاني ورفَساني ولكَماني، ثم يبدو أني غبتُ عن الوعي، ولا أدري كيف وصلتُ إلى هذه الغرفة ذات الكوّة التي انبعثَ منها نورٌ خافت، فحسبتُ أنّه كان فجرًا. فما أن فتحتُ إحدى عينيّ لاستقبال نورِه حتى دخلَ عليّ الخفيران نفسهما، ففتحتُ عيني الأُخرى لأجدَ أنهما كبّلا يديّ واقتاداني إلى سيّارة فأجلسَاني بينهما، فيما جلسَ أمامَنا المحقّق نفسه، وإلى جانبه من ساقَ بنا. قلتُ: إلى أين؟ أجاب المحقّق: إلى ثكنة عسكرية خارج العاصمة. فاستعذتُ بالله لاعتقادي أنّ تهمتي مدنية ذات صلة بحلمي الرومانسي، فاستغربتُ هذا الخلطَ بين المدني والعسكري، فأنا بطبعي أيضًا عقلاني.
ما إن وصلتُ إلى الثكنة حتى أوصلني الخفيران إلى غرفة مظلمة أشبه بسرداب منها إلى زنزانة. أُغلقَ بابُها عليّ، وفكّرتُ بأهلي، فهم لا يعلمون أين أنا، إذ لم أخبرهم عمّا أمرني به صاحبُ الشأن حين وجّه إليّ رسالة عبر المذياع بأن أعبرَ النهرَ. وفيما هواجسي تأخذُني إلى ذكريات خلتُها انطفأتْ، سمعتُ صوتًا هادرًا: تفضّل إلى التحقيق، وكنتُ تصوّرتُ أنّ التحقيقَ صار من الماضي، ففاجأني بعثُه من جديد. جرّني إلى التحقيق جرًّا عنيفًا خفيرٌ، ولمّا قلتُ له: تأدّبْ، صفعَني فتأدبْتُ، وسرتُ على مضض إلى غرفة جلس إلى مكتب فيها ذو نظّارة سوداء، فارتعشتُ خوفًا من نظرةٍ إليّ لا عينَ فيها، ولما حوّلتُ نظري عنه نهرَني: التهمة لَبستْك فلا تنكرها، فأجبتُ: وهل لِفَتى على حالي نكرٌ؟ فقال: ما شاء الله! تقرضُ الشعر. أخبرْني من هو صاحب الشأن، أطلقْ سراحك، وتعود إلى أهلك. قلت: صاحبُ الشأن لم أرَه، ولكن هو يراني. وجّه إليّ رسالة عبر المذياع أن اعبرْ النهرَ، فعبرتُه، وأنا له مطيعٌ لا أخالفُ أمرَه. قال: تعبرُ النهر وتصلُ إلينا برسالة عبر المذياع! هل فقدت صوابَك؟ أجبتُه: صوابي حلمي. فصاحَ بي: كفى! لكني اجترأتُ عليه، وأعلمتُه أني موالٍ لصاحب الشأن. ما إن تماديتُ إلى هذا الحدّ حتى جرّني الخفيران إلى غرفة جانبية، وأشبعوني ركلًا ورفسًا ولكمًا. فما أن شبعتُ ركلًا ورفسًا ولكمًا حتى دخلَ ذو النظّارة السوداء، وقال: اعترفْ تنجُ بريشِك، فأجبتُ: بماذا أعترفُ ولم أذنبْ. قال: ذنبُك على جنبِك، وجنابُك من جماعة الحلم الرومانسي. فبادرتُه: إنْ هو إلا حلمٌ فحسب، وأنا لم أخطئ. وفاجأني: إذًا، إلى المحكمة العسكرية. أنت جنيتَ على نفسك ساعة تلقّيتَ رسالة من صاحب الشأن وعبرتَ النهر، ولكن قبل مثولِك أمام المحكمة العسكرية تذهب إلى السجن للراحة، ففرحتُ، ولكن لم يطلْ فرحي، إذ سألَني: أصحيح أنك عبرتَ الحدود سرًّا قبل أن تعبرَ النهر؟ قلت: نعم، فابتسمَ وأعلنَ: هذه تهمة ثالثة. على هذا النحو، لبستْني ثلاث تُهم، وظهرَ أمامي الخفيران من جديد وقاداني إلى السرداب المُعتم، فنمتُ من عياء التحقيق إلى أن طلعَ الصباح. اقتادني الخفيران إلى السجن، وأودعاني في غرفة واسعة تعجّ بنزلاء، فبادرَني أحدُهم: يبدو أن تهمتَك هي الحلم الرومانسي. ولما سألتُه كيف عرف سرّي. أجابَ النزلاء جميعًا بصوت واحد كأنهم في صلاة جماعة: هذه تهمتُنا، ونحن هنا من دهر. فاستعذتُ بالله، وتذكرتُ أهلي، إذ طالَ غيابي عنهم، وخشيتُ أن أمضي دهرًا آخر مع هؤلاء الحالمين.
في البدء، تصوّرتُ أنّ جيراني النزلاء مبالغون بقولهم إنهم في السجن قابعون منذ دهر سحيق، فلمّا انقضى عليّ دهرٌ بينهم آمنتُ بمغالاتهم، فإذا هي حقيقة لا ريبَ فيها. ثم فجأة، وبعدَ لأي طويل، زارَني في السجن والدي بإذن خاصّ من عِلية القوم، وأبلغني أنّ الفرج بإطلاق سراحي وشيك، وأنّه عليّ كتمان السرّ لئلا يكيدَ بي صحبي النزلاء كيدًا عظيمًا، فكتمتُ السرّ وانتظرتُ الفرج القريب بعودتي إلى أهلي. ثم كان يومٌ مجيدٌ، إذ استدعاني آمرُ السجن وأبلغَني أنّ صاحبَ الشأن توسّط لي لديه، وأن مسألة إخلاء سبيلي وشيكة، فعدتُ إلى غرفة النزلاء ونمتُ على حرير أتقلّب على جنبي واعدًا نفسي بالحريّة وأنا أحدّق طيلة ليلي بالسقف فأرى عليه طيفَ صاحبِ الشأنِ، فيما النزلاءُ صحبي في الحلم الرومانسي يغطّون في سباتٍ عميق من اليأس والضجر والقهر.
ذاتَ صباح، سمعتُ من ينادي اسمي ويلحقُه بعبارة: إخلاء سبيل؛ وتعهّدي بأن أطرحَ الحلم الرومانسي جانبًا بتوقيعي على شهادة بذلك أمامَ آمرِ السجن، فوقّعتُ. لكنّه قال إن لا سبيلَ إلى حريتي كاملة إلّا بمثولي أمام المحكمة العسكريّة، فعدتُ إلى أهلي، وطار النومُ من عينيّ وأنا أترقّبُ مثولي أمام القضاء العسكري، إلى أن جاء اليوم المشهود فرافقتْني والدتي إلى المحكمة العسكريّة تشدّ من إزري، إذ أعلنَ والدي أنه براء من حلمي وما جناه عليّ، فما لي إلا أن أقتلعَ شوكي بيدي، فوصلتُ إلى المحكمة أرتعدُ خوفًا مثل عوسجة مُلتهبة.
هناكَ أوقفَني الحرّاس في قفص خشبي، نظرتُ إلى والدتي بعين العطف وهي تذرفُ دمعًا. دخل القاضي ونادى الحاجب: قيام، فوقفَ الحشدُ إلا أنا إذ كنتُ واقفًا. سألَني القاضي: أنادمٌ أنت على حلمك؟ قلت: مِثلي لا يندمُ، فحالي حال امرؤ القيس، إذ قال:
ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشةٍ/ كفاني، ولم أطلبْ، قليلٌ من المالِ
ولكنّني أسعى لمجدٍ مُؤثّلٍ/ وقد يدركُ المجدَ المُؤثّل أمثالي.
نهرَني القاضي وتمتمَ كلامًا مبهمًا، ثم أعلن: أنحنُ في مطارحة شعريّة؟ ثم فجأة رقّ قلبُه فسألَني ما أغزلُ بيتٍ قالتْه العربُ فانبريتُ رأسًا إنه بيت جرير:
إنّ العيونَ التي في طرفها حَوَر
قتلننا، ثم لم يُحيين قتلانا.
ولمّا أبدى عينَ الرضا، اغتنمتُ فرصة رضاه وأردفتُ: لكن أُستاذي في العربيّة كان يرى أن بيتَ شوقي في زحلة:
ودخلتُ في ليليْن فَرعِكِ والدُجى
ولثمتُ كالصبحِ المنوِّرِ فاكِ
لهو أغزل من بيت جرير.
فقال القاضي: أحسنتَ، وانشرحَ صدري، فقلتُ في سرّي: فُرِجتْ، لكن لم أنشرحْ إلا قليلًا، إذ فاجأني القاضي: وما هذه الكتب الثوريّة التي عثرنا عليها في بيت أهلك؟ أجبتُ: أنا بطبعي ثوري، فصاحَ بي: هذه تهمة رابعة تلبسُك، فلبسَني خطبٌ جللٌ، إلّا أن القاضي عاجلَني ببسمة ارتسمتْ على شفتيه وهمسَ: اتّصل بي هاتفيًا أمس ليلًا صاحبُ الشأن، وأوصاني أن أرفقَ بك، وها أنا أُعلنُ براءتك. وفجأةً زغردتْ والدتي، فنهرَها القاضي، وقال لها: خذي ابنك إلى البيت، فهو مصابٌ بعضال رومانسي لا شفاءَ منه.
أخذتي والدتي. وهناك استقبلَني والدي بركلٍ ورفسٍ ولكمٍ، وطلبَ مني أن أخلدَ إلى النوم، وأتخلّى عن الحلمِ، فأذعنتُ ونمتُ. ثمّ أني لما صحوتُ صفحتُ عن والدي ساعة جاءني بطبق كنافة نابلسيّة ابتهاجًا ببراءتي، لعلمِه أنها أطيبُ من العسل إلى قلبي، ولعلّه أرادَها عوضًا عن حلمي الرومانسي، فرأيتُ بعين البصيرة أنّ الكنافة النابلسيّة ألذّ من الحلم وأبقى، وما عدتُ أحلمُ إلا بها ورؤيتها شقراءَ مُشبعة بالقطر وماءِ الزهر، لكن لم أنسَ صاحبَ الشأن، فبقيتُ في منفاي عنه أذكرُه بالخير وأنتظرُ منه إشارة عبرَ المذياع، فكنتُ كلّما الليلُ انتصفَ ونامَ أهلي أحرّكُ إبرةَ المذياع يمينًا ويسارًا علّني ألتقطُ إشارتَه وأنتظرُ منه توجيهَه لي بالحركة، فما سمعتُ منه لدهر ثالث سحيق. وخطرَ على بالي صحبي في الحلم الرومانسي بتحرير فلسطين، فلا بدّ أنهم أيضًا في دهرِهم الثالث السحيق حيث تركتُهم، ـ فتوقّفتُ عن تحريك إبرة المذياع يمينًا ويسارًا، وتوقفتْ حركتي فجمدَ حلمي وأسفتُ على حالي وردّدتُ كلّ صباح وأنا ألتهمُ النابلسيّة ما قاله الشاعر الأموي العرَجي، نسبةً إلى إقامته في العرَج في وديان الطائف، فبقي في السجن تسع سنوات، ومات فيه بعد أن ضُرب بالسياط:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا/ ليوم كريهةٍ وسِدادِ ثغْرِ
وصبرٍ عند معترَك المنايا/ وقد شُرِعتْ أسنّتُها بنحري
أجرِّرُ في الجوامع كلّ يومٍ/ فيا لله مَظلَمتي وصبري.