بقيت أحلم.. وهنا سرّ بقائي
محمود شريح
سير
(لؤي كيالي)
شارك هذا المقال
حجم الخط
أضاعني أهلي صغيرًا في المتاهة الكبرى، وأضعتُ أهلي كبيرًا في المفازة الواسعة. ولئن كنّا جميعًا ضعْنا في معارج النزوح، ها نحن تلاشيْنا في تضاريس المنفى، فأكَلتْنا الضّبعُ في فيافي اللجوء وأنا شاكٌّ السلاحَ، فأضحيْتُ غَرضَ الرّدى فيما كان مبنى الخيام مُضعضعًا، فأمعنتُ النظرَ في هذه الظاهرة الفريدة من نوعها منذ سِفر التكوين، فما وجدتُ لها تفسيرًا، فانضويتُ، من باب التعلّل بالآمال، تحت راية الكوفيّة، ولبستُ عباءة الهلال الخصيب، فاستكانتْ روحي الحائرة، ولكن إلى حين، إذ بقي ضرامُها جمرًا تحت رمادها، فصبوتُ إلى المطلق للتبرّد. وفي حين نعمتُ بغيابي عن مشهد رعب الهجرة الأولى، فإني شهدتُ النزوحَ الثاني فالثالث فالرابع، ثم أوقفتُ الحِسبة إثر الاجتياح الشهير، لإيماني أنّ ما رافقني من فصول رعب متلاحقة كفاني مؤونة عمر من الهزائم، فحذرتُ، ولم أنجُ. ثم صرفتُ وقتًا لا بأس بطوله أتفحّص فيه تفاصيل مأساتي، فخرجتُ من منزلق السياسة، ولجأتُ إلى رواق الفلسفة، فازدادَ كَربي، وما أفلحتُ في درسِ منشأ تعاستي من الحبّة إلى القبّة، فكانت قسمتي أن أبحثَ عن أهلي، فوجدتُ أن من بقي منهم حيًّا لفّه النسيان في بلاد تجمد فيها من البرد حيتانها، فيما كان نصيب بعضهم الآخر التلظّي تحت صفيحِ المخيّمِ، فَسرَّني أني أنعمُ بلذّة الفكر المتأرجح تحت خيمة القناعة، وأنّ ما يحدثُ لي من نكَبات كان لصالحي، فعزّيتُ نفسي بنصيحة والدتي أنّ القناعة كنزٌ لا يفنى، وأن لا أشربَ من بئر ثم ألقي فيها حجرًا، وهي بيروت بئري حَمتْني ورَأفتْ بي ورَوتْ ظمأي. وبقيتُ أحذو حذوَ قناعة والدتي، فداويتُ نفاد صبري بقراءة سِفر أيّوب خلاصًا وجوديًّا، وإنْ بقيتُ كسيحَ بيت حسدا على ضفاف مناجاة الأمل عند بحر الجليل أنظرُ في صفحته فأرى وجهي شاحبًا من قلق وفزع فكأني جالسٌ على قبض ريح لدهرٍ شديدٍ.
كان والدي الوافد من قرية ترشيحا في جليل فلسطين الغربي المطلّ على خليج عكّا، وصلَ إلى بيروت وهو دون الثلاثين مصحّحًا في صحيفة "الحياة"، برضى مؤسّسها كامل مروّة، ووساطة مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني، وكان إثرَ النكبة الأولى كلّما استمع من المذياع إلى خطاب ناريّ يوعدُه بردِّهِ إلى مسقطه أوصى على شاحنة تعيدُنا مع عفشنا إلى ترشيحا، فيما كانت ركبتاي تصطكّان فزعًا من هجري صبايا بيروت الجميلات، لكن والدي فارقَنا، ولم يتحقّق حلمه بالعودة، وإنْ راوده حتّى يومه الأخير، فناداني إليه في ذلك اليوم نفسه، وهمسَ في أُذني أننا غدًا نرجع إلى حيّنا، ثم فارق الروح، وكانت والدتي سبقته بخمس إلى مدافن برج البراجنة، ثم لحق بهما أخي الصغير حسرة ثم يأسًا، بعد أن ألقى سلاحه في معركة الوجود.
نزحتْ والدتي عن ترشيحا حاملة أخي الرضيع في شهره الأوّل، وخلفهما أختان لي في عمر الورد، سيرًا حتى رميش، وتبنين، في جنوب لبنان، فأقاموا في ضيافة أهل هاتيْن البلدتيْن إلى أن عثرَ عليهم والدي وسطَ جلَبة الضياع، فجاء بهم إلى برج البراجنة، حيث تجمّع بعض سكّان فلسطين، بانتظارها، وهم لا زالوا ينتظرونها، يرونها قريبة قريبة، وهي بعيدة بعيدة، ولحقَ بهذا الجمع خالاتي، فتزوّجن زمنَ النزوح، ثم توزّعنَ على بلاد الله الواسعة، من حمص وحلب إلى أبو ظبي والدوحة. وفي المهجر، أدركتُ كم هي صغيرة بلاد الله الواسعة، إذ وأنا أُحاضر في الفلسفة الأُوروبيّة في الشارقة، فاجأتني طالبة وافدة من الدوحة أن جدّتها لأبيها هي خالتي، وأن لجدّتها أُمنية لو تتحقّق وهي أن تتفوّقَ حفيدتُها في مساق الفلسفة، فقلتُ لحفيدة خالتي كيف أعصى وأنا لم التقِ بخالتي منذ نصف قرن، ولإيماني بالمساواة تفوّق في الفلسفة كلّ من جاء إلى المساق.
أمّا عمّي الوحيد فأضاع أهلَه إلى أنْ شاهده والدي في قطار يستريح في محطّة بيروت في الدورة متوجّهًا إلى حلب، فأشار عليه بالنزول، وألحقَه بنا، وأدخلَه الجامعة، ثم غادَرنا إلى الظهران، ومنها إلى أميركا، وهناك اختفى.
كان والدي ينام وفوقَ رأسِه خريطة فلسطين الصادرة عن مكتب الهيئة العربية العليا لفلسطين برعاية الحاج أمين الحسيني في مكتبه في الحازميّة، فيما كان سكنه في المنصوريّة، فكان والدي لا يغفو إلّا بعد أن يديمَ النظرَ فيها، ويخصّ خليج عكّا بوقفة متأنية، ثم يصفقُ كفًّا بكفّ، ويهمس يا حولَ الله، طارت فلسطين، ثم فجأة يخلد إلى النوم.
ذهبتُ معه إلى جنازة الحاج أمين في مقبرة شهداء فلسطين، وهناك شاهدتُه يمسحُ دمعة ذرفتْ من عينه، ولما رآني أنظر إليه أشاح بوجهه عنّي حياءً، فذرفتُ بدوري دمعةً تعاطفًا مع الخطْبِ الجلل.
أما والدتي فكانت تذرفُ دمعًا إثر مغادرة أولادها تباعًا إلى المهاجر طلبًا للرزق، فاستبقتْني عندها لنجابتي، وكنت لبيبًا تكفيني الإشارة، وقالتْ ها قد ضاعتْ فلسطين، فلا تضيّع نفسَك. قمْ إلى كتبك، واستنرْ بها. فقمتُ إليها واستنرتُ بها على ضوء مصباح كاز عتيق تهتزّ فتيلتُه كلّما قلبتُ صفحة في كتبي، والفضلُ لها ما حييتُ في كلّ ما ثقفتُ وحبّرتُ. وكان الليلُ متى انتصفَ تجرّني بيدي إلى فراشي، فتقصّ عليّ خرافيّة "سرايا بنت الغول"، فبقيتُ مع الغول، ولم أرَ سرايا، وكانت والدتي تعزّيني في وحدتي الثقيلة، وفي غربتي الشاسعة، فتسرّ إليّ: هذا قدرُنا كُتب علينا، والأرزاق بحكمة الله مقسومة، فلا تنسَ أنّ علمَكَ بدلٌ عن ضياع فلسطين، طالما لن يحرّرها مدفع، ولا سلاح نفط، فانغمستُ في الدرس والبحث، وذرفت دمعًا وأنا صبيٌّ أرعن مع قراءة جبران والمنفلوطي وخليل مطران. ولاحقًا، لبستني مأساة توفيق صايغ، فما أفلتُّ منها، ولا هي أفلتتني. وفجأة، انقلبتُ على مشيئة والدتي، فهاجرتُ، ولحقتُ بربعي، وكانتْ قد تُوفّيتْ، إلّا أني، وطلبًا لصفحها، ولو غيابيًّا، زرتُ قبرَها، وأنا في طريقي إلى المطار، فودّعتُها، لآخر مرّة، منذ نصف قرن.
في حديقة بيروت نشأتُ، وفي مدرستها درجتُ. في الابتدائية، هذّبتني معلمتي نجوى جرّاح. وفي المرحلة المتوسّطة، هداني أساتذتي، ألفرد خوري، ورائف لبكي، ونبيل رحّال، إلى فكر أنطون سعادة. وفي الثانوية، اعتنقت مبادىء حركة فتح، فأغناني فكرُها، وأثرتني مبادئها، فحلّقت بجناحيْن مهيضين. إلى البحث أخذني أنيس صايغ، وفي الكتابة رفقَ بي شوقي أبي شقرا، وفي بيروت أمسكَ خليل حاوي بيدي، وحرصَ على سلامتي، وهداني كمال الصليبي إلى وثيقة التاريخ، فيما دلّني ريتشارد سكوت على جدليّة هيجل. وقالتْ لي ماري كلارك يوست حلّاب إن نصّ الرواية مدخلٌ إلى فهم علم النفس. وقال لي يوسف سلامة إقرأ حتى تكتب. وفي ڤيينّا، اتكأ على كتفي إميل حبيبي، ونصحني بالاتكال على نفض التراث، ثم وافاني توفيق زيّاد عند منعطف الدانوب، وأخبرني بضرورة الحلم، فبقيت أحلم، وهنا سرّ بقائي.
وفي پاريس، قال لي محمود درويش إن طعمَ الدنيا هو نكهة قهوة الصباح. والتقيتُ بألن غنسبرغ في ندوته في ڤيينّا عن الشعر، ونصحني بتدوين الفكرة رأسًا متى خطرتْ في صورتها الأولى. وعند ابنته هدباء في لندن، لخّص نزار قبّاني تجربته الانقلابية، فقال حلاوة قصائدي من ياسمينة أمّي، وحلويات دكّان أبي. وفي پاريس، جلستُ إلى أدونيس، فأدركتُ سرّ تواضعه. وفي واشنطن، أملى عليّ هشام شرابي صورةَ صباه في عكّا، فأعادَني إلى هناك على مطلّ من ترشيحا مسقط والديّ. فها اليوم، وأنا في السبعين، وقد ذهب الذين أحبّهم، وبقيتُ فردًا، ونابتْ البريّة عن وطن الخلد، فازدادت قناعتي بالقليل رسوخًا، وحرصتُ على ألّا أجنحَ إلى البغي لإدراكي أنّ بغيَ المرءِ يصرعُه، إذ لم يعدْ لي متأخَّرٌ ولا متقدَّمٌ، ولسانُ حالي ما قاله أبو الطّمَحان القينيُّ:
ألا عَلِّلاني قبل صدحِ النّوائحِ
وقبلَ ارتقاءِ النفسِ فوقَ الجوانحِ
وقبلَ غدٍ يا لهفَ نفسي على غدٍ
إذا راحَ أصحابي ولستُ برائحِ.
محمود شريح
سير
(لؤي كيالي)
شارك هذا المقال
حجم الخط
أضاعني أهلي صغيرًا في المتاهة الكبرى، وأضعتُ أهلي كبيرًا في المفازة الواسعة. ولئن كنّا جميعًا ضعْنا في معارج النزوح، ها نحن تلاشيْنا في تضاريس المنفى، فأكَلتْنا الضّبعُ في فيافي اللجوء وأنا شاكٌّ السلاحَ، فأضحيْتُ غَرضَ الرّدى فيما كان مبنى الخيام مُضعضعًا، فأمعنتُ النظرَ في هذه الظاهرة الفريدة من نوعها منذ سِفر التكوين، فما وجدتُ لها تفسيرًا، فانضويتُ، من باب التعلّل بالآمال، تحت راية الكوفيّة، ولبستُ عباءة الهلال الخصيب، فاستكانتْ روحي الحائرة، ولكن إلى حين، إذ بقي ضرامُها جمرًا تحت رمادها، فصبوتُ إلى المطلق للتبرّد. وفي حين نعمتُ بغيابي عن مشهد رعب الهجرة الأولى، فإني شهدتُ النزوحَ الثاني فالثالث فالرابع، ثم أوقفتُ الحِسبة إثر الاجتياح الشهير، لإيماني أنّ ما رافقني من فصول رعب متلاحقة كفاني مؤونة عمر من الهزائم، فحذرتُ، ولم أنجُ. ثم صرفتُ وقتًا لا بأس بطوله أتفحّص فيه تفاصيل مأساتي، فخرجتُ من منزلق السياسة، ولجأتُ إلى رواق الفلسفة، فازدادَ كَربي، وما أفلحتُ في درسِ منشأ تعاستي من الحبّة إلى القبّة، فكانت قسمتي أن أبحثَ عن أهلي، فوجدتُ أن من بقي منهم حيًّا لفّه النسيان في بلاد تجمد فيها من البرد حيتانها، فيما كان نصيب بعضهم الآخر التلظّي تحت صفيحِ المخيّمِ، فَسرَّني أني أنعمُ بلذّة الفكر المتأرجح تحت خيمة القناعة، وأنّ ما يحدثُ لي من نكَبات كان لصالحي، فعزّيتُ نفسي بنصيحة والدتي أنّ القناعة كنزٌ لا يفنى، وأن لا أشربَ من بئر ثم ألقي فيها حجرًا، وهي بيروت بئري حَمتْني ورَأفتْ بي ورَوتْ ظمأي. وبقيتُ أحذو حذوَ قناعة والدتي، فداويتُ نفاد صبري بقراءة سِفر أيّوب خلاصًا وجوديًّا، وإنْ بقيتُ كسيحَ بيت حسدا على ضفاف مناجاة الأمل عند بحر الجليل أنظرُ في صفحته فأرى وجهي شاحبًا من قلق وفزع فكأني جالسٌ على قبض ريح لدهرٍ شديدٍ.
"همسَ والدي في أُذني أننا غدًا نرجع إلى حيّنا، ثم فارق الروح، وكانت والدتي سبقته بخمس إلى مدافن برج البراجنة، ثم لحق بهما أخي الصغير حسرة ثم يأسًا، بعد أن ألقى سلاحه في معركة الوجود" |
كان والدي الوافد من قرية ترشيحا في جليل فلسطين الغربي المطلّ على خليج عكّا، وصلَ إلى بيروت وهو دون الثلاثين مصحّحًا في صحيفة "الحياة"، برضى مؤسّسها كامل مروّة، ووساطة مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني، وكان إثرَ النكبة الأولى كلّما استمع من المذياع إلى خطاب ناريّ يوعدُه بردِّهِ إلى مسقطه أوصى على شاحنة تعيدُنا مع عفشنا إلى ترشيحا، فيما كانت ركبتاي تصطكّان فزعًا من هجري صبايا بيروت الجميلات، لكن والدي فارقَنا، ولم يتحقّق حلمه بالعودة، وإنْ راوده حتّى يومه الأخير، فناداني إليه في ذلك اليوم نفسه، وهمسَ في أُذني أننا غدًا نرجع إلى حيّنا، ثم فارق الروح، وكانت والدتي سبقته بخمس إلى مدافن برج البراجنة، ثم لحق بهما أخي الصغير حسرة ثم يأسًا، بعد أن ألقى سلاحه في معركة الوجود.
نزحتْ والدتي عن ترشيحا حاملة أخي الرضيع في شهره الأوّل، وخلفهما أختان لي في عمر الورد، سيرًا حتى رميش، وتبنين، في جنوب لبنان، فأقاموا في ضيافة أهل هاتيْن البلدتيْن إلى أن عثرَ عليهم والدي وسطَ جلَبة الضياع، فجاء بهم إلى برج البراجنة، حيث تجمّع بعض سكّان فلسطين، بانتظارها، وهم لا زالوا ينتظرونها، يرونها قريبة قريبة، وهي بعيدة بعيدة، ولحقَ بهذا الجمع خالاتي، فتزوّجن زمنَ النزوح، ثم توزّعنَ على بلاد الله الواسعة، من حمص وحلب إلى أبو ظبي والدوحة. وفي المهجر، أدركتُ كم هي صغيرة بلاد الله الواسعة، إذ وأنا أُحاضر في الفلسفة الأُوروبيّة في الشارقة، فاجأتني طالبة وافدة من الدوحة أن جدّتها لأبيها هي خالتي، وأن لجدّتها أُمنية لو تتحقّق وهي أن تتفوّقَ حفيدتُها في مساق الفلسفة، فقلتُ لحفيدة خالتي كيف أعصى وأنا لم التقِ بخالتي منذ نصف قرن، ولإيماني بالمساواة تفوّق في الفلسفة كلّ من جاء إلى المساق.
أمّا عمّي الوحيد فأضاع أهلَه إلى أنْ شاهده والدي في قطار يستريح في محطّة بيروت في الدورة متوجّهًا إلى حلب، فأشار عليه بالنزول، وألحقَه بنا، وأدخلَه الجامعة، ثم غادَرنا إلى الظهران، ومنها إلى أميركا، وهناك اختفى.
كان والدي ينام وفوقَ رأسِه خريطة فلسطين الصادرة عن مكتب الهيئة العربية العليا لفلسطين برعاية الحاج أمين الحسيني في مكتبه في الحازميّة، فيما كان سكنه في المنصوريّة، فكان والدي لا يغفو إلّا بعد أن يديمَ النظرَ فيها، ويخصّ خليج عكّا بوقفة متأنية، ثم يصفقُ كفًّا بكفّ، ويهمس يا حولَ الله، طارت فلسطين، ثم فجأة يخلد إلى النوم.
ذهبتُ معه إلى جنازة الحاج أمين في مقبرة شهداء فلسطين، وهناك شاهدتُه يمسحُ دمعة ذرفتْ من عينه، ولما رآني أنظر إليه أشاح بوجهه عنّي حياءً، فذرفتُ بدوري دمعةً تعاطفًا مع الخطْبِ الجلل.
أما والدتي فكانت تذرفُ دمعًا إثر مغادرة أولادها تباعًا إلى المهاجر طلبًا للرزق، فاستبقتْني عندها لنجابتي، وكنت لبيبًا تكفيني الإشارة، وقالتْ ها قد ضاعتْ فلسطين، فلا تضيّع نفسَك. قمْ إلى كتبك، واستنرْ بها. فقمتُ إليها واستنرتُ بها على ضوء مصباح كاز عتيق تهتزّ فتيلتُه كلّما قلبتُ صفحة في كتبي، والفضلُ لها ما حييتُ في كلّ ما ثقفتُ وحبّرتُ. وكان الليلُ متى انتصفَ تجرّني بيدي إلى فراشي، فتقصّ عليّ خرافيّة "سرايا بنت الغول"، فبقيتُ مع الغول، ولم أرَ سرايا، وكانت والدتي تعزّيني في وحدتي الثقيلة، وفي غربتي الشاسعة، فتسرّ إليّ: هذا قدرُنا كُتب علينا، والأرزاق بحكمة الله مقسومة، فلا تنسَ أنّ علمَكَ بدلٌ عن ضياع فلسطين، طالما لن يحرّرها مدفع، ولا سلاح نفط، فانغمستُ في الدرس والبحث، وذرفت دمعًا وأنا صبيٌّ أرعن مع قراءة جبران والمنفلوطي وخليل مطران. ولاحقًا، لبستني مأساة توفيق صايغ، فما أفلتُّ منها، ولا هي أفلتتني. وفجأة، انقلبتُ على مشيئة والدتي، فهاجرتُ، ولحقتُ بربعي، وكانتْ قد تُوفّيتْ، إلّا أني، وطلبًا لصفحها، ولو غيابيًّا، زرتُ قبرَها، وأنا في طريقي إلى المطار، فودّعتُها، لآخر مرّة، منذ نصف قرن.
"قالتْ والدتي: ها قد ضاعتْ فلسطين، فلا تضيّع نفسَك. قمْ إلى كتبك، واستنرْ بها. فقمتُ إليها واستنرتُ بها على ضوء مصباح كاز عتيق تهتزّ فتيلتُه كلّما قلبتُ صفحة في كتبي" |
في حديقة بيروت نشأتُ، وفي مدرستها درجتُ. في الابتدائية، هذّبتني معلمتي نجوى جرّاح. وفي المرحلة المتوسّطة، هداني أساتذتي، ألفرد خوري، ورائف لبكي، ونبيل رحّال، إلى فكر أنطون سعادة. وفي الثانوية، اعتنقت مبادىء حركة فتح، فأغناني فكرُها، وأثرتني مبادئها، فحلّقت بجناحيْن مهيضين. إلى البحث أخذني أنيس صايغ، وفي الكتابة رفقَ بي شوقي أبي شقرا، وفي بيروت أمسكَ خليل حاوي بيدي، وحرصَ على سلامتي، وهداني كمال الصليبي إلى وثيقة التاريخ، فيما دلّني ريتشارد سكوت على جدليّة هيجل. وقالتْ لي ماري كلارك يوست حلّاب إن نصّ الرواية مدخلٌ إلى فهم علم النفس. وقال لي يوسف سلامة إقرأ حتى تكتب. وفي ڤيينّا، اتكأ على كتفي إميل حبيبي، ونصحني بالاتكال على نفض التراث، ثم وافاني توفيق زيّاد عند منعطف الدانوب، وأخبرني بضرورة الحلم، فبقيت أحلم، وهنا سرّ بقائي.
وفي پاريس، قال لي محمود درويش إن طعمَ الدنيا هو نكهة قهوة الصباح. والتقيتُ بألن غنسبرغ في ندوته في ڤيينّا عن الشعر، ونصحني بتدوين الفكرة رأسًا متى خطرتْ في صورتها الأولى. وعند ابنته هدباء في لندن، لخّص نزار قبّاني تجربته الانقلابية، فقال حلاوة قصائدي من ياسمينة أمّي، وحلويات دكّان أبي. وفي پاريس، جلستُ إلى أدونيس، فأدركتُ سرّ تواضعه. وفي واشنطن، أملى عليّ هشام شرابي صورةَ صباه في عكّا، فأعادَني إلى هناك على مطلّ من ترشيحا مسقط والديّ. فها اليوم، وأنا في السبعين، وقد ذهب الذين أحبّهم، وبقيتُ فردًا، ونابتْ البريّة عن وطن الخلد، فازدادت قناعتي بالقليل رسوخًا، وحرصتُ على ألّا أجنحَ إلى البغي لإدراكي أنّ بغيَ المرءِ يصرعُه، إذ لم يعدْ لي متأخَّرٌ ولا متقدَّمٌ، ولسانُ حالي ما قاله أبو الطّمَحان القينيُّ:
ألا عَلِّلاني قبل صدحِ النّوائحِ
وقبلَ ارتقاءِ النفسِ فوقَ الجوانحِ
وقبلَ غدٍ يا لهفَ نفسي على غدٍ
إذا راحَ أصحابي ولستُ برائحِ.