"الحميماتي"..
فيصل خرتش
سير
(Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
صاحب سوسة تربية الحمام يدعى حميماتي، وتكاد لا تخلو حارة من المدينة من وجود واحد، أو أكثر، ممن يربون هذا الحمام، فإذا اجتمع في حارة واحدة ثلاثة، أو أربعة، من هؤلاء الحميماتية "فنيال أهل تلك الحارة".
والحميماتي لا يتمتع بسمعة طيبة في المجتمع الحلبي، وقليل من الناس من يرضى بمصاهرته، فإذا تقدم لخطبة فتاة ما، فإن طلبه يقابل غالبًا بالرفض. ومع هذا، فالمثل العامي، يقول: كل حنطة مسوسة إلها كيال أعور... وكثير ممن أقدموا على ترك تربية الحمام في فترة الخطبة، عادوا إليها بعد الزواج، وبهذا يصدق المثل أيضًا: رجعت حليمة لعادتها القديمة.
إن نظرة الناس إلى الحميماتي لا تختلف عن نظرتهم إلى الذي يلعب بالقمار، أو المدمن على الخمر، أو الذي يدخن الحشيش، فهم يظنون أن كلًا من هؤلاء يقبل على نفسه ترك زوجته وأولاده عراة جياعًا، في سبيل تعاطي القمار، أو المشروبات الكحولية، أو الحشيش، كذلك الحميماتي، فإنه يفضل في كثير من الأحيان حمامه على امرأته وأولاده، ولا يتورع عن تركهم جياعًا في سبيل إطعام حمامه.
وأكثر الذين يربون الحمام يفضلون البطالة على العمل، لأن كل اهتماماتهم تنصب على الحمام، إذ يقضون الساعات الطويلة، منذ الصباح الباكر، فوق أسطحة المنازل يكشون الحمام. وفي سبيل هذا، يتنقلون من سطح إلى آخر لمطاردة فرخ شارد جنح عن المجموعة، بغية حثه على العودة إلى السرب.
وعملية كش الحمام يصاحبها كثير من البعيق والصفير والضوضاء المزعجة، والضرب على الصفيح، أو على سطح براكة الحمام، لإحداث الجلبة، وغير ذلك، فضلًا عن إلقاء الحجارة يمينًا وشمالًا، يضاف إلى هذا الشتائم والمسبات، وشتى أنواع الألفاظ التي تخدش السمع، وتسيء إلى الآداب العامة.
وكم يتضايق الأهلون وسكان الحي من وجود الحميماتي فوق رؤوسهم يطل عليهم فجأة حينًا بعد آخر، بينما تكون النساء وربات البيوت منهمكات في أعمالهن المنزلية المختلفة، وفي أوضاعهن الخاصة. وبهذا تحتجز حرياتهن، ويضطررن إلى الاحتجاب داخل المنزل، أو الدخول مع الحميماتي في مشادة كلامية من النوع الساخن. وإذا اكتفى الحميماتي بالالتزام في مكانه من سطح منزله، فإن وابل الحجارة الصغيرة التي يقذفها في أثناء مطاردة الحمام، تنوب عنه في الإزعاج، لأنها تتساقط فوق الرؤوس، أو ترتطم بزجاج النوافذ فتحطمها.
أما عن العداء المستحكم، والتحديات بين أصحاب الحمام، فحدث ولا حرج، كل منهم يحاول الاستيلاء على حمام جاره، ويحدث مرارًا أن يختلط بأحد الأسراب، في أثناء الطيران، طائر جديد تعود ملكيته إلى شخص آخر، فيسرع هذا الحميماتي في دعوة سرية كي يحط في مكانه، ومن ثم يبادر إلى احتجاز الطائر الجديد، سواء بالشبكة، أو بالسقلب، كما يسمونه، وتبلغ الخصومة أشدها بين صاحب الطائر المفقود وبين الحميماتي المحتجز، ويدفعه العناد أحيانًا إلى عدم ردّ الطير إلى صاحبه مهما كان البدل النقدي سخيًا. وقد تكون قيمة الطير المفقود في ذلك الحين ليرة أو ليرتين، ومع هذا قد يصل الأمر بصاحبه إلى دفع عشرات الليرات، أي بما يعادل 3 أو 4 ليرات ذهبية في سبيل فك الطائر، ليسترجعه صاحبه.
وأصحاب الحمام عمومًا يفاخرون بما يملكون من طيور مدربة تدريبًا جيدًا على الطيران، ويدفعهم هذا إلى التحدي والمراهنات، فهم يطلقون الطيور في السماء، ويجعلونها تختلط بأسراب أخرى قريبة أو بعيدة، ثم يحاول كل واحد أن يعيد سربه إلى حظيرته آملًا أن يجر معه طيورًا أخرى كي يحتجزها.
ولأصحاب الحمام مقهى خاص بهم يدعى" قهوة الحمام"، ومن الطبيعي ألا يرتاد هذا المقهى إلا كل من كان له صلة أو علاقة بالحمام، فالأحاديث التي تدور فيه كلها عن الحمام، ولا شيء غير الحمام. وفي هذا المقهى، تعقد الصفقات والمراهنات، وتنحل الأمور الشخصية، أو تتأزم، وتذاع على الأسماع حكايات كثيرة عن طيور بيعت في حلب إلى شخص قام بنقلها إلى بلد آخر، وليكن هذا البلد حماة مثلًا، فإذا بالطيور تعود الواحد بعد الآخر، إلى صاحبها الأصلي، بعد بضعة أشهر، أو أسابيع، من بيعها.
الذي يستمع إلى أحاديث أصحاب الحمام لا يعتم أن يقول: الدنيا كل الدنيا تدور وتتحرك وترتفع وتنخفض من حولهم، وهم عنها لاهون، غافلون، منشغلون بهذا الطائر أو ذاك، لا يشدهم إلى هذه الدنيا إلا ما يرتبط بالحمام فقط، كأن الدنيا ما خلقت إلا للحمام.
يضاف إلى هذا أن للحميماتية ركنًا خاصًا في كل من سوقي الجمعة والأحد، يتجمع في هذا الركن في كل يوم جمعة، أو أحد، عدد كبير منهم، فيعقدون صفقات البيع والشراء، أو فك الطيور المحتجزة، والاطلاع على آخر أخبار الفراخ والتفريخ والخلاخيل الجديدة. ولا أدري كيف تعارف أصحاب الحمام على تسمية كل طائر باسم عرف به وتميز به عن بقية الطيور، مثل: كازغندي ـ جخجرلي أحمر ـ جخجرلي أسود وأزرق ـ جبا (أو جبهاوات) أزرق أو أصفر أو أحمر ـ أسود عبسه ـ أسود دنب ـ أبيض دنب ـ أورفلي ـ ما وردي ـ بايملي ـ برملي ـ مشمشي ـ بوظ ـ مفتَل ـ مكتف،... إلخ... وهذه التسميات تختلف في كثير من الأحيان عما هو متعارف عليه في بلد آخر، كدمشق مثلًا، أو غيرها من المدن.
أصدرت الحكومة قانونًا منعت بموجبه تربية الحمام في المنازل، ونددت الصحف المحلية مرارًا عديدة بهذه الظاهرة، ومع ذلك لا يزال بعض الناس يمارس هذه السوسة، بعدما قلَّ كثيرًا عدد الحميماتية عما كان عليه في الماضي.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب
فيصل خرتش
سير
(Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
صاحب سوسة تربية الحمام يدعى حميماتي، وتكاد لا تخلو حارة من المدينة من وجود واحد، أو أكثر، ممن يربون هذا الحمام، فإذا اجتمع في حارة واحدة ثلاثة، أو أربعة، من هؤلاء الحميماتية "فنيال أهل تلك الحارة".
والحميماتي لا يتمتع بسمعة طيبة في المجتمع الحلبي، وقليل من الناس من يرضى بمصاهرته، فإذا تقدم لخطبة فتاة ما، فإن طلبه يقابل غالبًا بالرفض. ومع هذا، فالمثل العامي، يقول: كل حنطة مسوسة إلها كيال أعور... وكثير ممن أقدموا على ترك تربية الحمام في فترة الخطبة، عادوا إليها بعد الزواج، وبهذا يصدق المثل أيضًا: رجعت حليمة لعادتها القديمة.
إن نظرة الناس إلى الحميماتي لا تختلف عن نظرتهم إلى الذي يلعب بالقمار، أو المدمن على الخمر، أو الذي يدخن الحشيش، فهم يظنون أن كلًا من هؤلاء يقبل على نفسه ترك زوجته وأولاده عراة جياعًا، في سبيل تعاطي القمار، أو المشروبات الكحولية، أو الحشيش، كذلك الحميماتي، فإنه يفضل في كثير من الأحيان حمامه على امرأته وأولاده، ولا يتورع عن تركهم جياعًا في سبيل إطعام حمامه.
وأكثر الذين يربون الحمام يفضلون البطالة على العمل، لأن كل اهتماماتهم تنصب على الحمام، إذ يقضون الساعات الطويلة، منذ الصباح الباكر، فوق أسطحة المنازل يكشون الحمام. وفي سبيل هذا، يتنقلون من سطح إلى آخر لمطاردة فرخ شارد جنح عن المجموعة، بغية حثه على العودة إلى السرب.
وعملية كش الحمام يصاحبها كثير من البعيق والصفير والضوضاء المزعجة، والضرب على الصفيح، أو على سطح براكة الحمام، لإحداث الجلبة، وغير ذلك، فضلًا عن إلقاء الحجارة يمينًا وشمالًا، يضاف إلى هذا الشتائم والمسبات، وشتى أنواع الألفاظ التي تخدش السمع، وتسيء إلى الآداب العامة.
وكم يتضايق الأهلون وسكان الحي من وجود الحميماتي فوق رؤوسهم يطل عليهم فجأة حينًا بعد آخر، بينما تكون النساء وربات البيوت منهمكات في أعمالهن المنزلية المختلفة، وفي أوضاعهن الخاصة. وبهذا تحتجز حرياتهن، ويضطررن إلى الاحتجاب داخل المنزل، أو الدخول مع الحميماتي في مشادة كلامية من النوع الساخن. وإذا اكتفى الحميماتي بالالتزام في مكانه من سطح منزله، فإن وابل الحجارة الصغيرة التي يقذفها في أثناء مطاردة الحمام، تنوب عنه في الإزعاج، لأنها تتساقط فوق الرؤوس، أو ترتطم بزجاج النوافذ فتحطمها.
أما عن العداء المستحكم، والتحديات بين أصحاب الحمام، فحدث ولا حرج، كل منهم يحاول الاستيلاء على حمام جاره، ويحدث مرارًا أن يختلط بأحد الأسراب، في أثناء الطيران، طائر جديد تعود ملكيته إلى شخص آخر، فيسرع هذا الحميماتي في دعوة سرية كي يحط في مكانه، ومن ثم يبادر إلى احتجاز الطائر الجديد، سواء بالشبكة، أو بالسقلب، كما يسمونه، وتبلغ الخصومة أشدها بين صاحب الطائر المفقود وبين الحميماتي المحتجز، ويدفعه العناد أحيانًا إلى عدم ردّ الطير إلى صاحبه مهما كان البدل النقدي سخيًا. وقد تكون قيمة الطير المفقود في ذلك الحين ليرة أو ليرتين، ومع هذا قد يصل الأمر بصاحبه إلى دفع عشرات الليرات، أي بما يعادل 3 أو 4 ليرات ذهبية في سبيل فك الطائر، ليسترجعه صاحبه.
وأصحاب الحمام عمومًا يفاخرون بما يملكون من طيور مدربة تدريبًا جيدًا على الطيران، ويدفعهم هذا إلى التحدي والمراهنات، فهم يطلقون الطيور في السماء، ويجعلونها تختلط بأسراب أخرى قريبة أو بعيدة، ثم يحاول كل واحد أن يعيد سربه إلى حظيرته آملًا أن يجر معه طيورًا أخرى كي يحتجزها.
ولأصحاب الحمام مقهى خاص بهم يدعى" قهوة الحمام"، ومن الطبيعي ألا يرتاد هذا المقهى إلا كل من كان له صلة أو علاقة بالحمام، فالأحاديث التي تدور فيه كلها عن الحمام، ولا شيء غير الحمام. وفي هذا المقهى، تعقد الصفقات والمراهنات، وتنحل الأمور الشخصية، أو تتأزم، وتذاع على الأسماع حكايات كثيرة عن طيور بيعت في حلب إلى شخص قام بنقلها إلى بلد آخر، وليكن هذا البلد حماة مثلًا، فإذا بالطيور تعود الواحد بعد الآخر، إلى صاحبها الأصلي، بعد بضعة أشهر، أو أسابيع، من بيعها.
الذي يستمع إلى أحاديث أصحاب الحمام لا يعتم أن يقول: الدنيا كل الدنيا تدور وتتحرك وترتفع وتنخفض من حولهم، وهم عنها لاهون، غافلون، منشغلون بهذا الطائر أو ذاك، لا يشدهم إلى هذه الدنيا إلا ما يرتبط بالحمام فقط، كأن الدنيا ما خلقت إلا للحمام.
يضاف إلى هذا أن للحميماتية ركنًا خاصًا في كل من سوقي الجمعة والأحد، يتجمع في هذا الركن في كل يوم جمعة، أو أحد، عدد كبير منهم، فيعقدون صفقات البيع والشراء، أو فك الطيور المحتجزة، والاطلاع على آخر أخبار الفراخ والتفريخ والخلاخيل الجديدة. ولا أدري كيف تعارف أصحاب الحمام على تسمية كل طائر باسم عرف به وتميز به عن بقية الطيور، مثل: كازغندي ـ جخجرلي أحمر ـ جخجرلي أسود وأزرق ـ جبا (أو جبهاوات) أزرق أو أصفر أو أحمر ـ أسود عبسه ـ أسود دنب ـ أبيض دنب ـ أورفلي ـ ما وردي ـ بايملي ـ برملي ـ مشمشي ـ بوظ ـ مفتَل ـ مكتف،... إلخ... وهذه التسميات تختلف في كثير من الأحيان عما هو متعارف عليه في بلد آخر، كدمشق مثلًا، أو غيرها من المدن.
أصدرت الحكومة قانونًا منعت بموجبه تربية الحمام في المنازل، ونددت الصحف المحلية مرارًا عديدة بهذه الظاهرة، ومع ذلك لا يزال بعض الناس يمارس هذه السوسة، بعدما قلَّ كثيرًا عدد الحميماتية عما كان عليه في الماضي.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب