واجه الفساد النازي في ألمانيا فنفي واحرقت كتبه في الساحات العامة
مشير باسيل عون
نشأ الكاتب الروائي توماس مان (1875-1955) في أسرة ألمانية بورجوازية مارست مهنة التجارة في مدينة لبك (Lübeck) الشمالية المشهورة بتراثها المعماري والفني. استهل سيرته الأدبية عام 1901 برواية جريئة "بودنبروكس أو سقوط أسرة" (Buddenbrooks)، وتبعتها روايات أُخر أشهرها "موت في البندقية" (Der Tod in Venedig). غير أن رائعته التي ذاع صيتها وأسهمت في نيله جائزة نوبل الأدبية عام 1928، كانت "الجبل السحري" (Der Zauberberg). من مفارقات آرائه السياسية أنه أثناء الحرب العالمية الأولى ناصر ألمانيا في صراعها المرير ومحنتها المصيرية، وأفصح عن تصوره في بحث وجيز عنوانه "استبصارات رجل لا سياسي" (Betrachtungen eines Unpolitischen)، ولكنه ما لبث أن ناهض النازية مناهضة شرسة أفضت به إلى المنفى من بعد أن عمد الحزب النازي إلى حرق كتبه في الساحات العامة وتجريده من جنسيته الألمانية. أقام فترة في فرنسا، ومن ثم في سويسرا. وما لبث أن يمم شطر الولايات المتحدة الأميركية ليقيم فيها زمناً طويلاً حتى عودته إلى ألمانيا عام 1952. إبان منفاه الأميركي هذا حبَّر رباعيته الشهيرة "يوسف وإخوته" (Joseph und seine Brüder)، وأنشأ رواية "الدكتور فاوستوس" (Doktor Faustus). قبل عودته إلى وطنه، نشر في عام 1951 رواية "المصطفى" (Der Erwählte).
الطور الأول اللاعقلاني
توماس مان، شاعر التأمل في انحطاط المجتمع الإنساني وتلاشي القيم وموت الروح، كان يبحث عن عوارض اللاعقلانية التي تفتك بالإنسان المعاصر، بيد أن تفاقم الانحطاط لا يملك إلا أن يحرر القيم الروحية الضرورية من أجل استنقاذ الذات الإنسانية المعذبة. ومن ثم لا يمكننا أن نفهم عمق المقاصد التي انطوت عليها أعماله من دون التبصر في الاتجاهات اللاعقلانية التي سارت فيها بعض المذاهب الفكرية والأدبية الألمانية، وقد تجلت في تصورات شوبنهاور (1788-1860) وڤاغنر (1813-1883) ونيتشه (1844-1900)، لذلك اتسم إنشاؤه الأول باللاعقلانية الجامحة هذه، وكذلك تأثرت بها آراؤه السياسية في مستهل نشاطه. لا يخفى على أحد أن المجتمع الألماني في مطلع القرن العشرين كان حاقداً حقداً شديداً على السياسة يحتقر ميدانها، ويسفه طرائقها، ويرذل رجالاتها.
كان توماس مان شغوفاً بقوميته الألمانية، من غير أن يناصر الحزب النازي على الإطلاق، لذلك حرص على تأييد السياسة التوسعية الألمانية قبل صعود النازية. دافع عن ألمانيا بسبب تعلقه بقوميته الجرمانية وانتمائه إلى المجتمع الأرستوقراطي. فخاصم أخاه الاشتراكي هاينريش مان (1871-1950) الذي كان يعشق إميل زولا ويستطيب الإقامة في البيئة الفرنسية ويدعم مصالح فرنسا. اقتناع مان الراسخ أملى عليه أن ألمانيا كانت في زمانه كياناً لاعقلانياً يسلك مسلكاً غريباً لا يلائم مقاصد الديمقراطية الحديثة. يمكننا القول إن مساره السياسي انقلب انقلاباً جذرياً حين ظهرت الدعوة النازية. فإذا به يكف عن امتداح اللاعقلانية التي احتضنت أعظم إبداعات الأمة الألمانية وسوغت أقبح أفعالها، ويكب على نشر قيم الديمقراطية والحريات، مستنداً إلى خبرة جمهورية ڤايمار التي طفق يسوق لها التأييد العلني يغترفه من أعمال نوڤاليس (1772-1801) ومن الرومانسية الألمانية. في رأيه أن هذه اللاعقلانية كانت مقترنة بصورة الشيطان في الوعي المسيحي، وبتصورات المذهب اللوتري، وبالرومانسية المنعقدة على تفلت الإحساس الحر وهيجان الانفعال العفوي وتطاير المخيال الإبداعي.
ومن ثم، أخذ يتقرب من الحركة العمالية الاجتماعية - الاشتراكية ويستحثها على مقاومة الانحراف النازي، بيد أن الأوساط الاشتراكية لم تفهم معنى هذا الانقلاب، فأخذت تعيب عليه تحوله المفاجئ وتنتقد سرعة التغيير في مواقفه الأساسية، على غرار الهجاء الذي قذفه به برتولت برشت (1898-1956)، مع أن هذا الأخير كان يعشق "الجبل السحري"، على رغم نفوره الحاد من شخصية توماس مان. خلفية المخاصمة أن برشت لم يكن يرضى بالتماهي الذي أنشأه خصمه بين ألمانيا والنازية، وكان يعذر الجنود الألمان الذين اضطروا إلى خوض الحروب خوفاً من الإعدام العسكري، في حين أن صاحب "الجبل السحري "كان يعتقد أن ألمانيا لن تستعيد دعوتها الحضارية إلا إذا أفنى الحلفاء آلافاً من الجنود الألمان المؤدلجين.
في المحاضرات التي ألقاها في عشرينيات القرن الماضي حرص على تمييز ضربين من اللاعقلانية الألمانية: اللاعقلانية الصالحة التي يجسدها في كتاباته، لا سيما "الجبل السحري"، واللاعقلانية الفاسدة التي روجت لها النازية على أبشع ما يكون الترويج في روح الجنون الهستيري. من أبلغ ما قاله في تقبيح هذه النازية أن هتلر ظاهرة مستحيلة خارج الثقافة اللاعقلانية الألمانية هذه. في أحد نصوص المنفى السويسري لم يستنكف من التصريح بأن هتلر أخ لنا، نحن معشر الألمان، في هيئة توأم ما برح يستثير فينا الاشمئزاز والقرف والغثيان والتقيؤ.
الطور الثاني العقلاني في المنفى الأميركي
يبدو أن هذا كله دفعه في عام 1933 إلى مهاجرة الأراضي الألمانية والخروج من بيئته التي ما عادت تستوعب مقاصده الأصلية. على رغم تعلقه بالثقافة الألمانية التي يجسدها نيتشه وشوبنهاور وڤاغنر وأصحاب التيار الرومانسي، إلا أنه آثر الابتعاد حتى لا يقع في حبائل المساومات الزائفة، ذلك بأن إقامته أولاً في سويسرا ساعدته في إدراك خطر الاستيلاء النازي على الإرث الفكري الألماني العظيم هذا.
لم يكن منفاه السويسري نافعاً له، إذ إن وطن الحياد المزيف هذا كان في نظره يحابي الوجوه ولا يستقبل إلا المهاجرين الأغنياء، ويساير النظام النازي ويعيد إليه سرياً بعضاً من اللاجئين السياسيين الهاربين من بطشه، لذلك لم تتضح معالم المنفى في وعي توماس مان إلا في الولايات المتحدة الأميركية التي يمم شطرها، وفي يقينه أنه ينشد الجوهر الديمقراطي الأنصع في الزمان التاريخي الممكن. من الطبيعي، والحال هذه، أن يحظى باستقبال حار ومعاملة طيبة، إذ أحس الأميركيون أن الرجل صاحب نظرة أصيلة في الحياة تستحق التقدير والإعجاب. خلافاً لوضعية أخيه البائس المنفي في كاليفورنيا تصحبه امرأة تصيبها نوبات مرعبة من الجنون، انصرف إلى إلقاء المحاضرات والتنقل الهني بين الولايات والمشاركة الزاهية في لقاءات الاحتفاء بأدبه. وكان قبل ذلك قد أسهم صحبة أخيه هاينريش في كتابة المقالات الأدبية في المجلة الهجائية التهكمية (Simplicissimus).
لم تكن كاليفورنيا أربعينيات القرن العشرين غريبة عن الأدب المهجري الألماني، إذ تكوكبت في أرجائها الشخصيات الأدبية الألمانية النازحة في حلقات أدبية رفيعة المستوى، كتلك التي كان يشرف عليها ويحيي نشاطها برتولت برشت، وهرمان بروخ (1886-1951)، وفريتس فون أونرو (1885-1970)، وڤيكي باوم (1888-1960)، وفرانتس ڤرفل (1890-1945)، وليون فويختڤانغر (1884-1958).
مشير باسيل عون
نشأ الكاتب الروائي توماس مان (1875-1955) في أسرة ألمانية بورجوازية مارست مهنة التجارة في مدينة لبك (Lübeck) الشمالية المشهورة بتراثها المعماري والفني. استهل سيرته الأدبية عام 1901 برواية جريئة "بودنبروكس أو سقوط أسرة" (Buddenbrooks)، وتبعتها روايات أُخر أشهرها "موت في البندقية" (Der Tod in Venedig). غير أن رائعته التي ذاع صيتها وأسهمت في نيله جائزة نوبل الأدبية عام 1928، كانت "الجبل السحري" (Der Zauberberg). من مفارقات آرائه السياسية أنه أثناء الحرب العالمية الأولى ناصر ألمانيا في صراعها المرير ومحنتها المصيرية، وأفصح عن تصوره في بحث وجيز عنوانه "استبصارات رجل لا سياسي" (Betrachtungen eines Unpolitischen)، ولكنه ما لبث أن ناهض النازية مناهضة شرسة أفضت به إلى المنفى من بعد أن عمد الحزب النازي إلى حرق كتبه في الساحات العامة وتجريده من جنسيته الألمانية. أقام فترة في فرنسا، ومن ثم في سويسرا. وما لبث أن يمم شطر الولايات المتحدة الأميركية ليقيم فيها زمناً طويلاً حتى عودته إلى ألمانيا عام 1952. إبان منفاه الأميركي هذا حبَّر رباعيته الشهيرة "يوسف وإخوته" (Joseph und seine Brüder)، وأنشأ رواية "الدكتور فاوستوس" (Doktor Faustus). قبل عودته إلى وطنه، نشر في عام 1951 رواية "المصطفى" (Der Erwählte).
الطور الأول اللاعقلاني
توماس مان، شاعر التأمل في انحطاط المجتمع الإنساني وتلاشي القيم وموت الروح، كان يبحث عن عوارض اللاعقلانية التي تفتك بالإنسان المعاصر، بيد أن تفاقم الانحطاط لا يملك إلا أن يحرر القيم الروحية الضرورية من أجل استنقاذ الذات الإنسانية المعذبة. ومن ثم لا يمكننا أن نفهم عمق المقاصد التي انطوت عليها أعماله من دون التبصر في الاتجاهات اللاعقلانية التي سارت فيها بعض المذاهب الفكرية والأدبية الألمانية، وقد تجلت في تصورات شوبنهاور (1788-1860) وڤاغنر (1813-1883) ونيتشه (1844-1900)، لذلك اتسم إنشاؤه الأول باللاعقلانية الجامحة هذه، وكذلك تأثرت بها آراؤه السياسية في مستهل نشاطه. لا يخفى على أحد أن المجتمع الألماني في مطلع القرن العشرين كان حاقداً حقداً شديداً على السياسة يحتقر ميدانها، ويسفه طرائقها، ويرذل رجالاتها.
كان توماس مان شغوفاً بقوميته الألمانية، من غير أن يناصر الحزب النازي على الإطلاق، لذلك حرص على تأييد السياسة التوسعية الألمانية قبل صعود النازية. دافع عن ألمانيا بسبب تعلقه بقوميته الجرمانية وانتمائه إلى المجتمع الأرستوقراطي. فخاصم أخاه الاشتراكي هاينريش مان (1871-1950) الذي كان يعشق إميل زولا ويستطيب الإقامة في البيئة الفرنسية ويدعم مصالح فرنسا. اقتناع مان الراسخ أملى عليه أن ألمانيا كانت في زمانه كياناً لاعقلانياً يسلك مسلكاً غريباً لا يلائم مقاصد الديمقراطية الحديثة. يمكننا القول إن مساره السياسي انقلب انقلاباً جذرياً حين ظهرت الدعوة النازية. فإذا به يكف عن امتداح اللاعقلانية التي احتضنت أعظم إبداعات الأمة الألمانية وسوغت أقبح أفعالها، ويكب على نشر قيم الديمقراطية والحريات، مستنداً إلى خبرة جمهورية ڤايمار التي طفق يسوق لها التأييد العلني يغترفه من أعمال نوڤاليس (1772-1801) ومن الرومانسية الألمانية. في رأيه أن هذه اللاعقلانية كانت مقترنة بصورة الشيطان في الوعي المسيحي، وبتصورات المذهب اللوتري، وبالرومانسية المنعقدة على تفلت الإحساس الحر وهيجان الانفعال العفوي وتطاير المخيال الإبداعي.
ومن ثم، أخذ يتقرب من الحركة العمالية الاجتماعية - الاشتراكية ويستحثها على مقاومة الانحراف النازي، بيد أن الأوساط الاشتراكية لم تفهم معنى هذا الانقلاب، فأخذت تعيب عليه تحوله المفاجئ وتنتقد سرعة التغيير في مواقفه الأساسية، على غرار الهجاء الذي قذفه به برتولت برشت (1898-1956)، مع أن هذا الأخير كان يعشق "الجبل السحري"، على رغم نفوره الحاد من شخصية توماس مان. خلفية المخاصمة أن برشت لم يكن يرضى بالتماهي الذي أنشأه خصمه بين ألمانيا والنازية، وكان يعذر الجنود الألمان الذين اضطروا إلى خوض الحروب خوفاً من الإعدام العسكري، في حين أن صاحب "الجبل السحري "كان يعتقد أن ألمانيا لن تستعيد دعوتها الحضارية إلا إذا أفنى الحلفاء آلافاً من الجنود الألمان المؤدلجين.
في المحاضرات التي ألقاها في عشرينيات القرن الماضي حرص على تمييز ضربين من اللاعقلانية الألمانية: اللاعقلانية الصالحة التي يجسدها في كتاباته، لا سيما "الجبل السحري"، واللاعقلانية الفاسدة التي روجت لها النازية على أبشع ما يكون الترويج في روح الجنون الهستيري. من أبلغ ما قاله في تقبيح هذه النازية أن هتلر ظاهرة مستحيلة خارج الثقافة اللاعقلانية الألمانية هذه. في أحد نصوص المنفى السويسري لم يستنكف من التصريح بأن هتلر أخ لنا، نحن معشر الألمان، في هيئة توأم ما برح يستثير فينا الاشمئزاز والقرف والغثيان والتقيؤ.
الطور الثاني العقلاني في المنفى الأميركي
يبدو أن هذا كله دفعه في عام 1933 إلى مهاجرة الأراضي الألمانية والخروج من بيئته التي ما عادت تستوعب مقاصده الأصلية. على رغم تعلقه بالثقافة الألمانية التي يجسدها نيتشه وشوبنهاور وڤاغنر وأصحاب التيار الرومانسي، إلا أنه آثر الابتعاد حتى لا يقع في حبائل المساومات الزائفة، ذلك بأن إقامته أولاً في سويسرا ساعدته في إدراك خطر الاستيلاء النازي على الإرث الفكري الألماني العظيم هذا.
لم يكن منفاه السويسري نافعاً له، إذ إن وطن الحياد المزيف هذا كان في نظره يحابي الوجوه ولا يستقبل إلا المهاجرين الأغنياء، ويساير النظام النازي ويعيد إليه سرياً بعضاً من اللاجئين السياسيين الهاربين من بطشه، لذلك لم تتضح معالم المنفى في وعي توماس مان إلا في الولايات المتحدة الأميركية التي يمم شطرها، وفي يقينه أنه ينشد الجوهر الديمقراطي الأنصع في الزمان التاريخي الممكن. من الطبيعي، والحال هذه، أن يحظى باستقبال حار ومعاملة طيبة، إذ أحس الأميركيون أن الرجل صاحب نظرة أصيلة في الحياة تستحق التقدير والإعجاب. خلافاً لوضعية أخيه البائس المنفي في كاليفورنيا تصحبه امرأة تصيبها نوبات مرعبة من الجنون، انصرف إلى إلقاء المحاضرات والتنقل الهني بين الولايات والمشاركة الزاهية في لقاءات الاحتفاء بأدبه. وكان قبل ذلك قد أسهم صحبة أخيه هاينريش في كتابة المقالات الأدبية في المجلة الهجائية التهكمية (Simplicissimus).
لم تكن كاليفورنيا أربعينيات القرن العشرين غريبة عن الأدب المهجري الألماني، إذ تكوكبت في أرجائها الشخصيات الأدبية الألمانية النازحة في حلقات أدبية رفيعة المستوى، كتلك التي كان يشرف عليها ويحيي نشاطها برتولت برشت، وهرمان بروخ (1886-1951)، وفريتس فون أونرو (1885-1970)، وڤيكي باوم (1888-1960)، وفرانتس ڤرفل (1890-1945)، وليون فويختڤانغر (1884-1958).