عبد السلام بنعبد العالي
لست من عشاق الوسائط الاجتماعية، فأنا لا أمتلك حسابًا في اسم أيّ واسطة من تلك الوسائط. لا أستطيع أن أبرّر هذا الرفض العنيد، فربما كان ذلك فقط تجنبًا لإضاعة الوقت، والدخول في اتصالات وحوارات لا تكون مبررة في أغلب الأحيان. وعلى رغم ذلك فأنا أتلصص من حين لآخر على بعض الوسائط بطرق ملتوية، بهدف تتبع جديد المنشورات، وأيضًا لمعرفة ما يقوله بعض القراء عما يصدر من كتابات.
كنت، حتى وقت قريب، أكتفي بالتلصص على ما يكتب على صفحات فيسبوك، فأعثر من حين لآخر على إعجاب بهذا الكتاب أو ذاك، كما قد أعثر، بين الفينة والأخرى، على مآخذ لا على ما أكتبه فحسب، وإنما حتى على شخصي قد تصل حتى الشتم الصريح. إلا أنني لم أكن أعير كل ذلك وزنًا كبيرًا، فإبداء رأي من وراء ستار يفقده كل قيمته، كما أنه يدل على أخلاق صاحبه أكثر مما ينقله من معاني ودلالات.
بإمكان قارئ كتاب أن يحوّل ما يتلقاه إلى ومضات فكرية تجمل المحتوى في بضعة أسطر في تويتر، وينتزع عصارة الأفكار على طريقة "القفز والوثب" التي يصف بها مونتيني كتابته
ما شدّني مؤخرًا هو ما أخذت أطلع عليه في تويتر. فما أثار انتباهي هو قدرة هذه المنصة العجيبة على نقل زبدة المداخلات وعصارة الآراء، والأهم من كل ذلك كونه يحث المستمع إلى محاضرة، أو قارئ كتاب على أن يحوّل ما يتلقاه إلى ومضات فكرية تجمل المحتوى في بضعة أسطر، وتنتزع عصارة الأفكار على طريقة "القفز والوثب" التي يصف بها مونتيني كتابته.
على عكس العادات التي يرسخها فينا واتساب الذي يدفعنا دفعا إلى أن نتواصل، ونرحب بكل من يدق أبوابنا، ونهنئ الجميع، ونحيي العالم كله صباح مساء، ونبارك له الجمعة وما قبلها وما بعدها، وعلى عكس الثرثرة، وترويج ما يهمّ وما لا يهم اللذين لا تنفك هذه الواسطة ترسخهما في أذهاننا وعاداتنا في التلقي والتواصل، على عكس هذه العادات المجانية بمعاني الكلمة جميعها، فإن تويتر يزرع فينا بذور الحداثة من احترام للزمن، والذات والآخر، ومن وزن للكلام بميزان الذهب. فالقراءة التي تتطلبها المعاملة معه ترسّخ لدى قارئ اليوم عادات مغايرة للعادات التي يرسخها واتساب. فهي ترغم ذهنه على التيقظ الدائم بحثًا عن الأسطر التي يمكن أن تجمل صفحات بكاملها، فالقارئ لا يكف هنا عن تلخيص النصّ. وحتى إن اقتصر على اقتباس جزء منه، فإنه يجد نفسه مقيدًا بالمكان والزمان، مثلما كان عليه حال جيلي عندما كنا نبعت التلغرافات مراعين الشحّ في عدد الكلمات، حتى لا يُترجم الإطناب إلى إسراف مادي. كان التقتير شعارنا "النقدي" بمعاني الكلمة جميعها.
لكن مع تويتر صرنا نُرغم على التقتير في ذاته. فهو يشترط علينا عدد الكلمات، ويجبرنا على التركيز، فيرغمنا على تجنب الإطناب. إنه يعلمنا كيف تكون القراءة إعادة كتابة، لكنها كتابة "شحيحة"، كتابة بأقل ما يمكن من الكلمات. وهو يعلمنا قراءة ترتبط بالكتابة، قراءة لا تفتأ تحوّل المقروء إلى كتابة متقشفة تقول في بضع كلمات "ما يقال في كتاب بأكمله"، أو إن شئنا أن نذهب بعيدًا مع نيتشه حتى القول "بضع كلمات تقول ما لا يقال في كتاب بأكمله".
لست من عشاق الوسائط الاجتماعية، فأنا لا أمتلك حسابًا في اسم أيّ واسطة من تلك الوسائط. لا أستطيع أن أبرّر هذا الرفض العنيد، فربما كان ذلك فقط تجنبًا لإضاعة الوقت، والدخول في اتصالات وحوارات لا تكون مبررة في أغلب الأحيان. وعلى رغم ذلك فأنا أتلصص من حين لآخر على بعض الوسائط بطرق ملتوية، بهدف تتبع جديد المنشورات، وأيضًا لمعرفة ما يقوله بعض القراء عما يصدر من كتابات.
كنت، حتى وقت قريب، أكتفي بالتلصص على ما يكتب على صفحات فيسبوك، فأعثر من حين لآخر على إعجاب بهذا الكتاب أو ذاك، كما قد أعثر، بين الفينة والأخرى، على مآخذ لا على ما أكتبه فحسب، وإنما حتى على شخصي قد تصل حتى الشتم الصريح. إلا أنني لم أكن أعير كل ذلك وزنًا كبيرًا، فإبداء رأي من وراء ستار يفقده كل قيمته، كما أنه يدل على أخلاق صاحبه أكثر مما ينقله من معاني ودلالات.
بإمكان قارئ كتاب أن يحوّل ما يتلقاه إلى ومضات فكرية تجمل المحتوى في بضعة أسطر في تويتر، وينتزع عصارة الأفكار على طريقة "القفز والوثب" التي يصف بها مونتيني كتابته
ما شدّني مؤخرًا هو ما أخذت أطلع عليه في تويتر. فما أثار انتباهي هو قدرة هذه المنصة العجيبة على نقل زبدة المداخلات وعصارة الآراء، والأهم من كل ذلك كونه يحث المستمع إلى محاضرة، أو قارئ كتاب على أن يحوّل ما يتلقاه إلى ومضات فكرية تجمل المحتوى في بضعة أسطر، وتنتزع عصارة الأفكار على طريقة "القفز والوثب" التي يصف بها مونتيني كتابته.
على عكس العادات التي يرسخها فينا واتساب الذي يدفعنا دفعا إلى أن نتواصل، ونرحب بكل من يدق أبوابنا، ونهنئ الجميع، ونحيي العالم كله صباح مساء، ونبارك له الجمعة وما قبلها وما بعدها، وعلى عكس الثرثرة، وترويج ما يهمّ وما لا يهم اللذين لا تنفك هذه الواسطة ترسخهما في أذهاننا وعاداتنا في التلقي والتواصل، على عكس هذه العادات المجانية بمعاني الكلمة جميعها، فإن تويتر يزرع فينا بذور الحداثة من احترام للزمن، والذات والآخر، ومن وزن للكلام بميزان الذهب. فالقراءة التي تتطلبها المعاملة معه ترسّخ لدى قارئ اليوم عادات مغايرة للعادات التي يرسخها واتساب. فهي ترغم ذهنه على التيقظ الدائم بحثًا عن الأسطر التي يمكن أن تجمل صفحات بكاملها، فالقارئ لا يكف هنا عن تلخيص النصّ. وحتى إن اقتصر على اقتباس جزء منه، فإنه يجد نفسه مقيدًا بالمكان والزمان، مثلما كان عليه حال جيلي عندما كنا نبعت التلغرافات مراعين الشحّ في عدد الكلمات، حتى لا يُترجم الإطناب إلى إسراف مادي. كان التقتير شعارنا "النقدي" بمعاني الكلمة جميعها.
لكن مع تويتر صرنا نُرغم على التقتير في ذاته. فهو يشترط علينا عدد الكلمات، ويجبرنا على التركيز، فيرغمنا على تجنب الإطناب. إنه يعلمنا كيف تكون القراءة إعادة كتابة، لكنها كتابة "شحيحة"، كتابة بأقل ما يمكن من الكلمات. وهو يعلمنا قراءة ترتبط بالكتابة، قراءة لا تفتأ تحوّل المقروء إلى كتابة متقشفة تقول في بضع كلمات "ما يقال في كتاب بأكمله"، أو إن شئنا أن نذهب بعيدًا مع نيتشه حتى القول "بضع كلمات تقول ما لا يقال في كتاب بأكمله".