حاز الفيلم الفرنسي «السخرية» (Ridicule) على جوائز سينمائية عدة، الفيلم من إخراج باتريس ليكونت، وتدور أحداثه في القرن الثامن عشر ويتحدث عن أفراد الطبقة الأرستقراطية في فرنسا. يتحدث الفيلم عن الوضع الاجتماعي للأفراد في محكمة فيرساي وارتباطه بقدرة الفرد على الترفيه بواسطة السخرية من الآخرين بذكاء مع تجنب التعرض للسخرية. قد يعتقد المشاهد، في البداية، أن هؤلاء الأرستقراطيين ينتمون إلى الفئة السادية ضعيفة التأثير، فهم لا يعذبون سواهم لكنهم يتلذذون بالتسبب بالألم، ويحرصون ألا تخلو الحوارات من ذكاء وحنكة. والسؤال هنا: ما مدى اختلافنا عن أرستقراطيي محكمة فيرساي؟
فلنتطرق إلى التطبيق سيئ السمعة «فيغر ون» (Figure One)، أو ما يسميه البعض «إنستغرام الأطباء»، حيث يحمّل الأطباء صور الأورام غريبة الشكل والصادمة، أو صور الجروح والندوب وغيرها. هدف التطبيق الأساسي هو توفير مصدر مرجعي موحد يستفيد منه الأطباء. لكن بعض الأطباء استخدموه استخدامًا مسيئًا إذ تعمدوا السخرية من المرضى. تذكر إحدى الحوادث سخرية الأطباء وتهكمهم بعبارات عديدة في ملف سجله المريض دون قصد في أثناء تخديره. يُحتمل تكرار عبارات السخرية والتهكم من بعض أفراد الطاقم الطبي، ولا يكتشف ذلك سوى القليل من المرضى.
قد تظن أن ما سبق من خلل ظاهر هو حكر على ممتهني الطب، وأن الأطباء -لسبب ما- يميلون إلى السخرية مثل الأرستقراطيين في الفيلم الفرنسي.
لكن هذا ليس صحيحًا. رغم الاعتقاد الشائع بعدم امتلاك الأطباء خصال التعاطف والإشفاق، فلا يمكن وصفهم بالقسوة أو عدم الرحمة. الحقيقة أن العاملين في مختلف الميادين المهنية يميلون للسخرية من عملائهم أو زبائنهم، إذ يسخر طاقم مضيفي الطيران من المسافرين، وهي حادثة موثقة تضمنت نشر صورة للمسافرين من مؤخرة الطائرة وتشبيههم برؤوس البروكلي. ويشيع بين موظفي تكنولوجيا المعلومات الرمز ID-10T ويعني بالإنجليزية «أبله»، وغير ذلك من الأمثلة.
إلا أن الوضع أكثر حرجًا عندما يتهكم الأطباء، لحساسية الظروف والحالة المرضية لضحية السخرية مقارنةً بمن يتهكم من قصات الشعر الغريبة أو جهل أحدهم في مجال ما. يبدو الفرق واضحًا وظرفيًا للغاية، الظروف التي تحيط بضحية السخرية، مع أن الأطباء تدفعهم الرغبة نفسها التي تدفع غيرهم إلى السخرية، فإن نبل رسالتهم يمنعنا من تقبل أن من يعالجوننا هم من يؤذوننا.
ما هذه الرغبة تحديدًا؟ ما الذي يدفع الإنسان إلى السخرية من الآخرين ؟
تتعلق الإجابة الأدق بالجانب المظلم في أنفسنا، ودأبه على إيجاد متنفس خارجي. نسعى نحو الشعور بالرضا الذاتي وإن كان على حساب الآخرين. يشعرنا الضحك مع الآخرين بقربنا منهم ويربطنا بهم إذ نستمتع معًا بالسخرية، وإن كانت كلماتنا المتهكمة شنيعة. وتجمعنا أحاديث القيل والقال معًا بخيط جارح من الحميمية الرهيبة.
نمتلك نحن البشر، دون شك، جانبًا أفضل بكثير. من خصالنا الإيثار والغيرية، ونعظّم الأفعال النبيلة، ونتذوق الأعمال الفنية المذهلة التي تنقلنا إلى عوالم أخرى. ومن ناحية أخرى فنحن ميّالون إلى الضحك والدعابة التقليدية الموجهة إلى الغير. تختلف الدوافع النفسية بين البشر، ويتسم البعض بعدم الرأفة أكثر من سواهم، إلا أنه لم يسبق أن التقيت بمن لم تضحكه دعابة عن شخصٍ آخر في مناسبة أو أخرى. نعم، يعيش بيننا من هو قادر على القيام بأفعال بطولية، كالمخاطرة بحياتهم لإنقاذ الغرباء، وهم أكثر من يمتنعون عن المشاركة في السخرية من شخص ما، وإن كانت مشاركتهم غير فعالة، كأن يكتفوا بالاستماع. نحن قادرون على الارتقاء إلى مستويات أرقى من شخصياتنا، لكنّا غير قادرين على إسكات الشر الذي يتحدث على لساننا.
ماذا نستنتج من ذلك؟ معظمنا يتأذى عندما نجد أنفسنا ضحية للسخرية. لكننا قد نقترح عدم أخذ السخرية على محمل شخصي، إذ إن غاية من يسخر الترفيه والتنفيس عن دوافعه، وهو أمر مشترك بين الجميع.
لا يمكنك أن تبرر لنفسك دون الآخرين متذرعًا بأن ما تتناوله من مواضيع للسخرية هو المضحك منها لا غير. إذ تعني سخريتك أن فيهم من الصفات أو قاموا من الأفعال بما هو جدير بالتسفيه والتهكم، وأنك لا تتسم ولا تقوم بما يستحق السخرية أبدًا. وبهذه المعايير المزدوجة تتسامح مع نفسك وتتهم الآخرين. والواقع أنه يحق للغير ما يحق لك حتى عندما يتعلق الموضوع بالسخرية.
بالعودة إلى موضوعنا الأساسي فإن لا صلة لجميع هذه التفاصيل بالتقييم الأخلاقي للسخرية، فإن الدعابات التي تستهدف الآخرين -أفرادًا وجماعات- تندرج تحت مسمى السخرية، بصرف النظر عن الدعابة ذاتها.
لا تختلف النزعة إلى السخرية بين الأذكياء والأغبياء من الناحية الأخلاقية. تلقى أنواع الضحك التي تتناول مواضيعها المرض أو العجز استهجان الكثير، إلا أن السخرية سيئة بكل المقاييس الأخلاقية.
قيل ذات مرة إن الخلاص هو المصالحة مع الحياة. وإذا كان الأمر كذلك، فسيوجد نوع من الخلاص في قبول ومواءمة أنفسنا مع تلك الرغبة الملحّة للسخرية. هذا لا يعني أن البشر عاجزون عن تحرير أنفسهم من هذه الرغبة، يُشاع عن بعض ممارسي التأمل تحررهم من هذه الرغبة بعد أمدٍ من الممارسة. ومن المستبعد أن نطهر ثقافة السخرية كليًا. ونجزم بأننا لن نسعى يومًا لهدفٍ كهذا.
يمكننا بالتأكيد تعزيز الأواصر الأخلاقية. أولى علامات الوجود الأخلاقي الفاعل هي تفادي السخرية بحضور الشخص المستهدف بالسخرية. ونحن بهذا أكثر تحضرًا من أرستقراطيي القرن الثامن عشر الذي يعرضهم فيلم «السخرية» يسخرون بطريقة طفولية ممن يقف أمامهم غير عابئين بمشاعره وأفكاره. إن أنواعًا معينة من السخرية غير مقبولة مطلقًا في المجتمع المتحضّر، إلا أننا نُقر بعدم قدرتنا على إسكات دوافعنا لإطلاق التعليقات الساخرة.
ما يمكننا فعله هنا قبول ذلك الجانب من النفس البشرية. ينبغي ألا نحتفي أو نتأثر بها، بل أن نتجه إلى أنفسنا بنيّة المصالحة. ما ينطوي على شيء من الخلاص في خضم الوئام الداخلي والخارجي.
فلنتطرق إلى التطبيق سيئ السمعة «فيغر ون» (Figure One)، أو ما يسميه البعض «إنستغرام الأطباء»، حيث يحمّل الأطباء صور الأورام غريبة الشكل والصادمة، أو صور الجروح والندوب وغيرها. هدف التطبيق الأساسي هو توفير مصدر مرجعي موحد يستفيد منه الأطباء. لكن بعض الأطباء استخدموه استخدامًا مسيئًا إذ تعمدوا السخرية من المرضى. تذكر إحدى الحوادث سخرية الأطباء وتهكمهم بعبارات عديدة في ملف سجله المريض دون قصد في أثناء تخديره. يُحتمل تكرار عبارات السخرية والتهكم من بعض أفراد الطاقم الطبي، ولا يكتشف ذلك سوى القليل من المرضى.
قد تظن أن ما سبق من خلل ظاهر هو حكر على ممتهني الطب، وأن الأطباء -لسبب ما- يميلون إلى السخرية مثل الأرستقراطيين في الفيلم الفرنسي.
لكن هذا ليس صحيحًا. رغم الاعتقاد الشائع بعدم امتلاك الأطباء خصال التعاطف والإشفاق، فلا يمكن وصفهم بالقسوة أو عدم الرحمة. الحقيقة أن العاملين في مختلف الميادين المهنية يميلون للسخرية من عملائهم أو زبائنهم، إذ يسخر طاقم مضيفي الطيران من المسافرين، وهي حادثة موثقة تضمنت نشر صورة للمسافرين من مؤخرة الطائرة وتشبيههم برؤوس البروكلي. ويشيع بين موظفي تكنولوجيا المعلومات الرمز ID-10T ويعني بالإنجليزية «أبله»، وغير ذلك من الأمثلة.
إلا أن الوضع أكثر حرجًا عندما يتهكم الأطباء، لحساسية الظروف والحالة المرضية لضحية السخرية مقارنةً بمن يتهكم من قصات الشعر الغريبة أو جهل أحدهم في مجال ما. يبدو الفرق واضحًا وظرفيًا للغاية، الظروف التي تحيط بضحية السخرية، مع أن الأطباء تدفعهم الرغبة نفسها التي تدفع غيرهم إلى السخرية، فإن نبل رسالتهم يمنعنا من تقبل أن من يعالجوننا هم من يؤذوننا.
ما هذه الرغبة تحديدًا؟ ما الذي يدفع الإنسان إلى السخرية من الآخرين ؟
تتعلق الإجابة الأدق بالجانب المظلم في أنفسنا، ودأبه على إيجاد متنفس خارجي. نسعى نحو الشعور بالرضا الذاتي وإن كان على حساب الآخرين. يشعرنا الضحك مع الآخرين بقربنا منهم ويربطنا بهم إذ نستمتع معًا بالسخرية، وإن كانت كلماتنا المتهكمة شنيعة. وتجمعنا أحاديث القيل والقال معًا بخيط جارح من الحميمية الرهيبة.
نمتلك نحن البشر، دون شك، جانبًا أفضل بكثير. من خصالنا الإيثار والغيرية، ونعظّم الأفعال النبيلة، ونتذوق الأعمال الفنية المذهلة التي تنقلنا إلى عوالم أخرى. ومن ناحية أخرى فنحن ميّالون إلى الضحك والدعابة التقليدية الموجهة إلى الغير. تختلف الدوافع النفسية بين البشر، ويتسم البعض بعدم الرأفة أكثر من سواهم، إلا أنه لم يسبق أن التقيت بمن لم تضحكه دعابة عن شخصٍ آخر في مناسبة أو أخرى. نعم، يعيش بيننا من هو قادر على القيام بأفعال بطولية، كالمخاطرة بحياتهم لإنقاذ الغرباء، وهم أكثر من يمتنعون عن المشاركة في السخرية من شخص ما، وإن كانت مشاركتهم غير فعالة، كأن يكتفوا بالاستماع. نحن قادرون على الارتقاء إلى مستويات أرقى من شخصياتنا، لكنّا غير قادرين على إسكات الشر الذي يتحدث على لساننا.
ماذا نستنتج من ذلك؟ معظمنا يتأذى عندما نجد أنفسنا ضحية للسخرية. لكننا قد نقترح عدم أخذ السخرية على محمل شخصي، إذ إن غاية من يسخر الترفيه والتنفيس عن دوافعه، وهو أمر مشترك بين الجميع.
لا يمكنك أن تبرر لنفسك دون الآخرين متذرعًا بأن ما تتناوله من مواضيع للسخرية هو المضحك منها لا غير. إذ تعني سخريتك أن فيهم من الصفات أو قاموا من الأفعال بما هو جدير بالتسفيه والتهكم، وأنك لا تتسم ولا تقوم بما يستحق السخرية أبدًا. وبهذه المعايير المزدوجة تتسامح مع نفسك وتتهم الآخرين. والواقع أنه يحق للغير ما يحق لك حتى عندما يتعلق الموضوع بالسخرية.
بالعودة إلى موضوعنا الأساسي فإن لا صلة لجميع هذه التفاصيل بالتقييم الأخلاقي للسخرية، فإن الدعابات التي تستهدف الآخرين -أفرادًا وجماعات- تندرج تحت مسمى السخرية، بصرف النظر عن الدعابة ذاتها.
لا تختلف النزعة إلى السخرية بين الأذكياء والأغبياء من الناحية الأخلاقية. تلقى أنواع الضحك التي تتناول مواضيعها المرض أو العجز استهجان الكثير، إلا أن السخرية سيئة بكل المقاييس الأخلاقية.
قيل ذات مرة إن الخلاص هو المصالحة مع الحياة. وإذا كان الأمر كذلك، فسيوجد نوع من الخلاص في قبول ومواءمة أنفسنا مع تلك الرغبة الملحّة للسخرية. هذا لا يعني أن البشر عاجزون عن تحرير أنفسهم من هذه الرغبة، يُشاع عن بعض ممارسي التأمل تحررهم من هذه الرغبة بعد أمدٍ من الممارسة. ومن المستبعد أن نطهر ثقافة السخرية كليًا. ونجزم بأننا لن نسعى يومًا لهدفٍ كهذا.
يمكننا بالتأكيد تعزيز الأواصر الأخلاقية. أولى علامات الوجود الأخلاقي الفاعل هي تفادي السخرية بحضور الشخص المستهدف بالسخرية. ونحن بهذا أكثر تحضرًا من أرستقراطيي القرن الثامن عشر الذي يعرضهم فيلم «السخرية» يسخرون بطريقة طفولية ممن يقف أمامهم غير عابئين بمشاعره وأفكاره. إن أنواعًا معينة من السخرية غير مقبولة مطلقًا في المجتمع المتحضّر، إلا أننا نُقر بعدم قدرتنا على إسكات دوافعنا لإطلاق التعليقات الساخرة.
ما يمكننا فعله هنا قبول ذلك الجانب من النفس البشرية. ينبغي ألا نحتفي أو نتأثر بها، بل أن نتجه إلى أنفسنا بنيّة المصالحة. ما ينطوي على شيء من الخلاص في خضم الوئام الداخلي والخارجي.