حرب تشرين تحريريه
October War - Guerre d'octobre
حرب تشرين التحريرية
الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة
أُطلق على الحرب المعلنة الرابعة من الحروب العربية الإسرائيلية[ر] اسم حرب تشرين التحريرية نسبة إلى شهر تشرين الأول سنة 1973 الذي دارت معاركها إبانه، ولأنها هدفت إلى تحرير الأرض العربية المغتصبة التي احتلتها القوات الإسرائيلية عام 1967، وسُميت كذلك حرب رمضان لأن وقائعها بدأت في العاشر من شهر رمضان سنة 1393هـ، وأطلق عليها الإسرائيليون اسم «حرب الغفران» لأنها بدأت يوم عيد الغفران عند اليهود. وقد انتقلت المبادأة في هذه الحرب من الجانب الإسرائيلي إلى الجانب العربي أول مرة، منذ الحرب الأولى بتنسيق وتعاون وثيق بين القوات المسلحة العربية السورية والمصرية وإسهام قوات من الدول العربية الشقيقة، وفيها قوات مغربية وكويتية وسعودية وعراقية وأردنية، مؤكدة قومية المعركة المصيرية مع العدو الصهيوني.
الأسباب المباشرة لحرب تشرين التحريرية
نتيجة لحرب حزيران 1967 (الحرب العربية الإسرائيلية الثالثة)، لحقت بالقوات المسلحة المصرية والقوات الأردنية وقسم هام من القوات المسلحة السورية خسائر جسيمة، مقابل خسائر ضئيلة في القوات المسلحة الإسرائيلية، وأدى ذلك إلى اختلال الميزان العسكري الاستراتيجي العربي الإسرائيلي، فقد وصلت القوات الإسرائيلية إلى مناطق طبيعية يسهل الدفاع عنها، واحتلت مساحات واسعة من الأرض العربية، زادت في تحسين دفاعاتها (قناة السويس وصحراء سيناء ووادي الأردن ومرتفعات الجولان السورية)، وقد منحت هذه المساحات الواسعة إسرائيل حرية المناورة على خطوطها الداخلية بكفاءة أكبر، كما صار في وسع الطيران الإسرائيلي العمل بحرية أكبر، مكّنه من كشف أهدافه في العمق العربي على جميع الاتجاهات ومهاجمتها، كذلك غنمت إسرائيل أعتدة حربية كثيرة طورتها وأدخلتها في تسليح قواتها، وزودتها حقول النفط المصرية في سيناء بما تحتاجه من النفط. وقد أتاح هذا الوضع الجديد لإسرائيل إقامة دفاع استراتيجي عميق بإنشاء خط بارليف المحصن على امتداد قناة السويس، وخط آلون المحصن على جبهة الجولان، وضمن لها حرية الملاحة في مضائق تيران والبحر الأحمر.
وقد عمدت الدولة الصهيونية بعد حرب حزيران 1967 وصدور قرار مجلس الأمن رقم 242 بتاريخ 22/11/1967 القاضي بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها وتجميد الوضع الراهن، إلى التهرب من تطبيق ذلك القرار بالتسويف والمماطلة أطول مدة ممكنة، بهدف تهويد أكبر مساحة من الأرض العربية، وإقامة أكبر عدد من المستوطنات فيها لهضمها واستثمار ثرواتها. واستندت إسرائيل في تهربها من تنفيذ القرار 242 بتلاعبها اللفظي في النص المكتوب باللغة الإنكليزية، ومؤداه أن القرار ينص على «الانسحاب من أراضٍ احتُلت» في حين كان النص الفرنسي (وكذلك الروسي والصيني والإسباني) صريحاً وواضحاً بوجوب الانسحاب «من الأراضي التي احتُلت» وهو ما يتفق مع ميثاق ومبادئ الأمم المتحدة، وأكدت إسرائيل نواياها التوسعية بإعلانها ضم مناطق عربية معينة إلى الأراضي التي كانت تحتلها قبل عام 1967، ومنها القدس والجولان وقسم من الضفة الغربية وقطاع غزة. ورفضت وساطة الدول الأربع الكبرى، ممثلة بمشروع «غوناريارينغ» لتنفيذ قرار مجلس الأمن 242، كما عرقلت تنفيذ مشروع روجرز الذي تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية في 19/6/1970، وتنكرت لجميع الجهود التي بذلتها الدول الإفريقية (لجنة الحكماء) عام 1971، واستمرت بالمراوغة والتهرب من التزاماتها.
ونتيجة لهذا التعنت الإسرائيلي أخذت مصر وسورية تعدان العدة لاسترجاع أراضيهما المحتلة بالقوة، فعوضتا خسائرهما وركزتا جهودهما على إعادة القدرة القتالية لقواتهما وزيادة تسليحها، ودخلتا في صراع مسلح مكشوف ومحدود لإنهاك القوات الإسرائيلية وإجبارها على التخلي عن المناطق المحتلة في معارك محلية وقصف جوي ومدفعي على طول الجبهتين الشمالية والجنوبية فيما سمي «حرب الاستنزاف»، وقد دخلت مصر هذه الحرب يوم 8/3/1969، في حين لم تتوقف أصلاً على الجبهة السورية منذ حرب حزيران 1967. ونشطت في هذه الأثناء أعمال المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج، وبرزت قوة فاعلة أدهشت المراقبين وأنعشت آمال الأمة العربية، وأصبح الجو مهيأً لجولة تحرير جديدة هي حرب تشرين 1973.
قرار الحرب
بدأت القيادتان السورية والمصرية باتخاذ خطوات مهمة لتحويل الاتفاقات المكتوبة إلى آمال إيجابية. وفي يوم 26/11/1970 وقّعت الحكومتان المصرية والسورية اتفاقية عسكرية، حددت أهداف الصراع المقبل وأعمال التنسيق بين القيادتين. وفي اجتماع تاريخي ضم الرئيسين حافظ الأسد وأنور السادات في 25/2/1973، اتخُذ قرار الحرب بهدف تحرير الأراضي العربية المغتصبة. وبُلغ القرار إلى قيادة القوات المشتركة التي شرعت في التخطيط لها، وتقرر أن تكون ساعة الصفر في الساعة 14 من يوم السبت في 6/10/1973، ومن أجل ضمان نجاح عمليات الهجوم والعبور اتخذت القيادتان مجموعة إجراءات واسعة النطاق لتحقيق المفاجأة الاستراتيجية والعملياتية، ولم تتمكن المخابرات الإسرائيلية من اكتشاف أي استعدادات للهجوم على كلتا الجبهتين إلا في يوم بدء الحرب.
بدء الحرب على الجبهتين
وفي الوقت المحدد، انطلقت على الجبهة المصرية أكثر من مئتي طائرة قاذفة ومقاتلة، موجهة الضربة الجوية الأولى إلى القوات الإسرائيلية في الجبهة والعمق، وإلى المطارات والمؤخرات وخطوط المواصلات الإسرائيلية، وتلاها قصف مدفعي مكثف، وانطلقت عمليات عبور قناة السويس واختراق خط بارليف، ولم يظهر أي رد فعل إسرائيلي إلا بعد 40دقيقة من بدء الهجوم، تمثل بنشاط كثيف للطيران الإسرائيلي، غير أن قوات الدفاع الجوي المصرية تمكنت من إسقاط 3طائرات إسرائيلية من كل 5طائرات مهاجمة، اضطرت القيادة الإسرائيلية إلى إبعاد طيرانها عن القناة، مما ساعد في نجاح عملية العبور. وعلى الجبهة السورية انطلقت في الوقت المحدد نفسه 140طائرة قاذفة ومقاتلة، موجّهة الضربة الجوية الأولى السورية إلى القوات الإسرائيلية على جبهة الجولان وفي العمق الإسرائيلي، ثم تلاها تمهيد مدفعي عنيف، انطلقت إبانه القوات السورية إلى الهجوم بحسب الخطط الموضوعة.
الحرب على الجبهة السورية
كان الدفاع الإسرائيلي (خط آلون) على خط وقف إطلاق النار في الجولان يتألف من مواقع محصنة ومصاطب رمي للدبابات، ونقاط استناد شديدة التحصين، ويمتد هذا الخط الدفاعي من جبل الشيخ شمالاً إلى منطقة العال جنوباً، وأمامه خندق متصل مضاد للدبابات بعرض 8أمتار وعمق 3أمتار، تحفه من الأمام والخلف حقول الألغام والحواجز والأسلاك الشائكة، تدعمه نقاط الاستناد المحصنة. ويعتمد هذا الدفاع في الجولان، كما في قناة السويس، في الأساس على تشكيلات الدبابات المتمركزة خلف نقاط الاستناد والقادرة على التحرك والمناورة على جميع الاتجاهات لصد أي هجوم محتمل.
وقد نجحت القوات السورية إبان التمهيد المدفعي في اقتحام مرصد جبل الشيخ بمجموعة من القوات الخاصة، وفي اقتحام خط آلون، وطمر أجزاء كبيرة من الخندق، باتجاه القنيطرة وباتجاه الخشنية (العال). وتمكنت هذه القوات من اقتحام الدفاع الإسرائيلي في أكثر من قطاع، وشهدت جبهة الجولان على مدى ثلاثة أيام معارك ضارية بالدبابات والمشاة استمرت ليلاً نهاراً، ووصلت الدبابات السورية إلى كفر نفاخ وجسر بنات يعقوب وشارفت على طبرية، في حين تمكنت قوات أخرى من دخول القنيطرة بعد أن تكبد الطرفان خسائر فادحة. غير أن الكفة أخذت ترجح لصالح الجانب الإسرائيلي (على الرغم من وصول تعزيزات من القوات العربية: عراقية وأردنية)، نتيجة التعزيزات الضخمة التي بدأت تصل إلى ميدان المعركة. وقد ركزت القيادة الإسرائيلية جهودها الاستراتيجية على جبهة الجولان لتقديرها أن الهجوم السوري يهدد مصير إسرائيل كله، وقد أتاح هذا التركيز للقيادة المصرية فرصة إكمال عبور القناة بنجاح.
استمر الهجوم المعاكس الإسرائيلي بفضل الجسر الجوي الأمريكي الذي عوض إسرائيل عن خسائرها الكبيرة، وزودها بأسلحة جديدة متطورة، ونجحت القوات الإسرائيلية في الوصول إلى خط وقف إطلاق النار السابق، ومتابعة تقدمها مستغلة فترة الهدوء النسبية التي كانت القيادة السورية تستعيد فيها توازن وحداتها وتعوضها عن الخسائر وتحشد وحدات جديدة، ومستفيدة من الهدوء على جبهة سيناء (10-14 تشرين) وبعد معارك ضارية تمكنت القوات الإسرائيلية من خرق الجبهة السورية باتجاه دمشق والسيطرة على جيب سعسع، إلا أن القوات السورية نجحت في إيقاف القوات الإسرائيلية عند خط تل الشمس - بيت جن، وكانت القيادة السورية في هذه الفترة قد عوضت قسماً كبيراً من خسائرها وأعادت تجميع قواتها الرئيسة استعداداً لمعاودة الهجوم، ولكن الهجوم لم ينفذ لصدور قرار دولي بوقف إطلاق النار اعتباراً من 23/10/1973.
القتال على جبهة القناة
واجهت القوات المصرية مشكلة حقيقية عند التخطيط للهجوم من أجل عبور قناة السويس واختراق خط بارليف، لذلك كان الحل الأمثل بالنسبة لها دفع قوات المشاة لعبور القناة على شكل موجات، والتوغل إلى عمق 4كم، تعززها وحدات الصاعقة المسلحة بالقذائف الصاروخية الموجهة والأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات لأعداد كبيرة، وتبقى تحت تغطية نيران المدفعية والدبابات والصواريخ والطيران، بهدف منع دبابات العدو من الاقتراب من نقاط العبور، وقد نُفذت هذه الخطة بنجاح وتوغلت قوات الصاعقة حتى 8كم، وهاجمت الدبابات الإسرائيلية في مناطق حشودها. لم تتمكن الدبابات المصرية من العبور إلا ابتداءً من منتصف ليلة 6-7، وتمكنت صباح 7تشرين الأول من تعزيز رؤوس الجسور والاستعداد لصد الهجمات المعاكسة الإسرائيلية.
حاول الإسرائيليون شن هجمات معاكسة بالاحتياط المدرع، ولكن القوات المصرية استطاعت تدمير القسم الأعظم من هذا الاحتياط وإيقاف الهجوم المعاكس، ولم تغتنم القيادة المصرية هذه الفرصة لمتابعة الهجوم واستثمار النصر، فتوقفت عند الخطوط التي احتلتها مدة خمسة أيام متواصلة بحجة إعادة التجميع، وهذا ما أتاح للقيادة الإسرائيلية نقل ثقلها النوعي واحتياطيها الاستراتيجي إلى الجهة الشمالية، حيث القوات السورية، وعززت قواتها في الجنوب بما يكفل وقف تقدم القوات المصرية. ولكن عندما قررت القيادة المصرية متابعة الهجوم في 14/10، اصطدمت بمقاومة إسرائيلية عنيفة وكمائن للدبابات، وحاولت القيادة الإسرائيلية شن هجوم معاكس على عدة قطاعات، واشتبكت في معارك ضارية من دون تحقيق نتائج تذكر، إلا أن التفوق أصبح في صالح القوات الإسرائيلية نتيجة للجسر الجوي الأمريكي، ودارت في هذه المنطقة أكبر معارك الدبابات شاركت فيها نحو 2000دبابة، واستخدم الإسرائيليون فيها أول مرة حوامات مضادة للدبابات مزودة بالصواريخ الموجهة، فكانت مفاجأة الحرب في جبهة سيناء، وكان أثرها حاسماً في صد الهجوم المصري. ووضعت الحكومة الأمريكية وسائط الاستطلاع الأمريكية ووسائل التجسس في خدمة إسرائيل، وكشفت وجود ثغرة غير محمية بين الجيشين الثاني والثالث، بعرض 25كم، ووجدت فيها القيادة الإسرائيلية فرصتها فدفعت عبر البحيرات المرة ثلاث مجموعات ألوية، تمكن بعضها من السيطرة على منطقة العبور بعد أن تكبدت خسائر فادحة، ونصب جسر طوفي لعبور الدبابات الرئيسية التي تدفقت من الثغرة، وباشرت الانتشار بكل الاتجاهات الممكنة، وسيطرت على منطقة واسعة امتدت إلى تخوم مدينة السويس، واستغلت القوات الإسرائيلية قرار وقف إطلاق النار لضرب قواعد الصواريخ المصرية وتوسيع الممر الجوي لطائراتها، من أجل دعم قواتها التي سيطرت على طريق السويس - القاهرة، وقطعت طرق الإمداد المصرية.
نتائج حرب تشرين التحريرية
1- النتائج العسكرية: أحدثت حرب تشرين تبدلاً حقيقياً في مفهوم الصراع المسلح الدولي والمحلي، وتداعى الخبراء والمنظرون العسكريون والسياسيون من الشرق والغرب لدراستها واستخلاص الدروس المستفادة منها، وما أحدثته من تغيرات في مفاهيم الاستراتيجية والتكتيك والتسليح.
اتصفت المعارك التي دارت على الجبهتين السورية والمصرية بضراوتها وسرعة تبدل المواقف واستمرارها ليلاً نهاراً من دون توقف، وقد استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة التقليدية والمتطورة. ومن أهم سمات تلك الحرب اقتحام المانع المائي في قناة السويس وخرق المنطقة المحصنة في الجولان، وكذلك انتقال زمام المبادأة إلى الجانب السوري المصري لأول مرة بعد حرب 1948.
وأثبتت حرب تشرين ما يتمتع به الجندي العربي من شجاعة وخبرة ومهارة في استخدام الأسلحة المعقدة واستعداد للتضحية في سبيل قضية عادلة، كما أسقطت الأسطورة التي روجها العدو عن جيشه الذي لايقهر. وقد هزت الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بإسرائيل كيانها بعنف وأصابتها بصدمة مازالت آثارها حتى اليوم، رغم الدعم الأمريكي غير المحدود، وبرهنت عن أن هزيمة إسرائيل وإجبارها على التقيد التام بقرارات الأمم المتحدة والتخلي عن الأراضي التي تحتلها لاتتحقق إلا بحرب استنزاف طويلة الأمد تستنزف طاقتها البشرية والمادية والمعنوية.
2- النتائج السياسية: أكدت حرب تشرين قومية الصراع مع إسرائيل والصهيونية العالمية، وأن طريق تحرير الأرض هو توحيد كلمة العرب في خندق الصراع، وأسهمت في زيادة ثقة الشعوب العربية بكيانها ورفع معنوياتها وأزالت نكسة حزيران 1967، وأثبت سلاح النفط العربي الذي استخدم في المعركة فاعليته وتأثيره في الاقتصاد العالمي عامة والأمريكي خاصة، كما برهنت مساهمات الدول العربية في الحرب عن الطاقات الكامنة غير المحدودة للأمة العربية وحاجتها إلى التنسيق والتنظيم وتجنيد تلك الطاقات ضمن استراتيجية عربية واحدة توفر للشعوب العربية الأمن والسلام، وتضمن لها استعادة حقوقها المغتصبة وتحرير الأرض العربية والإنسان العربي.
أحمد يوسف
October War - Guerre d'octobre
حرب تشرين التحريرية
الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة
أُطلق على الحرب المعلنة الرابعة من الحروب العربية الإسرائيلية[ر] اسم حرب تشرين التحريرية نسبة إلى شهر تشرين الأول سنة 1973 الذي دارت معاركها إبانه، ولأنها هدفت إلى تحرير الأرض العربية المغتصبة التي احتلتها القوات الإسرائيلية عام 1967، وسُميت كذلك حرب رمضان لأن وقائعها بدأت في العاشر من شهر رمضان سنة 1393هـ، وأطلق عليها الإسرائيليون اسم «حرب الغفران» لأنها بدأت يوم عيد الغفران عند اليهود. وقد انتقلت المبادأة في هذه الحرب من الجانب الإسرائيلي إلى الجانب العربي أول مرة، منذ الحرب الأولى بتنسيق وتعاون وثيق بين القوات المسلحة العربية السورية والمصرية وإسهام قوات من الدول العربية الشقيقة، وفيها قوات مغربية وكويتية وسعودية وعراقية وأردنية، مؤكدة قومية المعركة المصيرية مع العدو الصهيوني.
الأسباب المباشرة لحرب تشرين التحريرية
نتيجة لحرب حزيران 1967 (الحرب العربية الإسرائيلية الثالثة)، لحقت بالقوات المسلحة المصرية والقوات الأردنية وقسم هام من القوات المسلحة السورية خسائر جسيمة، مقابل خسائر ضئيلة في القوات المسلحة الإسرائيلية، وأدى ذلك إلى اختلال الميزان العسكري الاستراتيجي العربي الإسرائيلي، فقد وصلت القوات الإسرائيلية إلى مناطق طبيعية يسهل الدفاع عنها، واحتلت مساحات واسعة من الأرض العربية، زادت في تحسين دفاعاتها (قناة السويس وصحراء سيناء ووادي الأردن ومرتفعات الجولان السورية)، وقد منحت هذه المساحات الواسعة إسرائيل حرية المناورة على خطوطها الداخلية بكفاءة أكبر، كما صار في وسع الطيران الإسرائيلي العمل بحرية أكبر، مكّنه من كشف أهدافه في العمق العربي على جميع الاتجاهات ومهاجمتها، كذلك غنمت إسرائيل أعتدة حربية كثيرة طورتها وأدخلتها في تسليح قواتها، وزودتها حقول النفط المصرية في سيناء بما تحتاجه من النفط. وقد أتاح هذا الوضع الجديد لإسرائيل إقامة دفاع استراتيجي عميق بإنشاء خط بارليف المحصن على امتداد قناة السويس، وخط آلون المحصن على جبهة الجولان، وضمن لها حرية الملاحة في مضائق تيران والبحر الأحمر.
وقد عمدت الدولة الصهيونية بعد حرب حزيران 1967 وصدور قرار مجلس الأمن رقم 242 بتاريخ 22/11/1967 القاضي بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها وتجميد الوضع الراهن، إلى التهرب من تطبيق ذلك القرار بالتسويف والمماطلة أطول مدة ممكنة، بهدف تهويد أكبر مساحة من الأرض العربية، وإقامة أكبر عدد من المستوطنات فيها لهضمها واستثمار ثرواتها. واستندت إسرائيل في تهربها من تنفيذ القرار 242 بتلاعبها اللفظي في النص المكتوب باللغة الإنكليزية، ومؤداه أن القرار ينص على «الانسحاب من أراضٍ احتُلت» في حين كان النص الفرنسي (وكذلك الروسي والصيني والإسباني) صريحاً وواضحاً بوجوب الانسحاب «من الأراضي التي احتُلت» وهو ما يتفق مع ميثاق ومبادئ الأمم المتحدة، وأكدت إسرائيل نواياها التوسعية بإعلانها ضم مناطق عربية معينة إلى الأراضي التي كانت تحتلها قبل عام 1967، ومنها القدس والجولان وقسم من الضفة الغربية وقطاع غزة. ورفضت وساطة الدول الأربع الكبرى، ممثلة بمشروع «غوناريارينغ» لتنفيذ قرار مجلس الأمن 242، كما عرقلت تنفيذ مشروع روجرز الذي تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية في 19/6/1970، وتنكرت لجميع الجهود التي بذلتها الدول الإفريقية (لجنة الحكماء) عام 1971، واستمرت بالمراوغة والتهرب من التزاماتها.
ونتيجة لهذا التعنت الإسرائيلي أخذت مصر وسورية تعدان العدة لاسترجاع أراضيهما المحتلة بالقوة، فعوضتا خسائرهما وركزتا جهودهما على إعادة القدرة القتالية لقواتهما وزيادة تسليحها، ودخلتا في صراع مسلح مكشوف ومحدود لإنهاك القوات الإسرائيلية وإجبارها على التخلي عن المناطق المحتلة في معارك محلية وقصف جوي ومدفعي على طول الجبهتين الشمالية والجنوبية فيما سمي «حرب الاستنزاف»، وقد دخلت مصر هذه الحرب يوم 8/3/1969، في حين لم تتوقف أصلاً على الجبهة السورية منذ حرب حزيران 1967. ونشطت في هذه الأثناء أعمال المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج، وبرزت قوة فاعلة أدهشت المراقبين وأنعشت آمال الأمة العربية، وأصبح الجو مهيأً لجولة تحرير جديدة هي حرب تشرين 1973.
قرار الحرب
بدأت القيادتان السورية والمصرية باتخاذ خطوات مهمة لتحويل الاتفاقات المكتوبة إلى آمال إيجابية. وفي يوم 26/11/1970 وقّعت الحكومتان المصرية والسورية اتفاقية عسكرية، حددت أهداف الصراع المقبل وأعمال التنسيق بين القيادتين. وفي اجتماع تاريخي ضم الرئيسين حافظ الأسد وأنور السادات في 25/2/1973، اتخُذ قرار الحرب بهدف تحرير الأراضي العربية المغتصبة. وبُلغ القرار إلى قيادة القوات المشتركة التي شرعت في التخطيط لها، وتقرر أن تكون ساعة الصفر في الساعة 14 من يوم السبت في 6/10/1973، ومن أجل ضمان نجاح عمليات الهجوم والعبور اتخذت القيادتان مجموعة إجراءات واسعة النطاق لتحقيق المفاجأة الاستراتيجية والعملياتية، ولم تتمكن المخابرات الإسرائيلية من اكتشاف أي استعدادات للهجوم على كلتا الجبهتين إلا في يوم بدء الحرب.
بدء الحرب على الجبهتين
وفي الوقت المحدد، انطلقت على الجبهة المصرية أكثر من مئتي طائرة قاذفة ومقاتلة، موجهة الضربة الجوية الأولى إلى القوات الإسرائيلية في الجبهة والعمق، وإلى المطارات والمؤخرات وخطوط المواصلات الإسرائيلية، وتلاها قصف مدفعي مكثف، وانطلقت عمليات عبور قناة السويس واختراق خط بارليف، ولم يظهر أي رد فعل إسرائيلي إلا بعد 40دقيقة من بدء الهجوم، تمثل بنشاط كثيف للطيران الإسرائيلي، غير أن قوات الدفاع الجوي المصرية تمكنت من إسقاط 3طائرات إسرائيلية من كل 5طائرات مهاجمة، اضطرت القيادة الإسرائيلية إلى إبعاد طيرانها عن القناة، مما ساعد في نجاح عملية العبور. وعلى الجبهة السورية انطلقت في الوقت المحدد نفسه 140طائرة قاذفة ومقاتلة، موجّهة الضربة الجوية الأولى السورية إلى القوات الإسرائيلية على جبهة الجولان وفي العمق الإسرائيلي، ثم تلاها تمهيد مدفعي عنيف، انطلقت إبانه القوات السورية إلى الهجوم بحسب الخطط الموضوعة.
الحرب على الجبهة السورية
شهدت جبهة الجولان معارك ضارية |
بالدبابات والمشاة |
حطمت حرب تشرين التحريرية أسطورة التفوق الجوي |
الإسرائيلي (حطام طائرة إسرائيلية) |
استمر الهجوم المعاكس الإسرائيلي بفضل الجسر الجوي الأمريكي الذي عوض إسرائيل عن خسائرها الكبيرة، وزودها بأسلحة جديدة متطورة، ونجحت القوات الإسرائيلية في الوصول إلى خط وقف إطلاق النار السابق، ومتابعة تقدمها مستغلة فترة الهدوء النسبية التي كانت القيادة السورية تستعيد فيها توازن وحداتها وتعوضها عن الخسائر وتحشد وحدات جديدة، ومستفيدة من الهدوء على جبهة سيناء (10-14 تشرين) وبعد معارك ضارية تمكنت القوات الإسرائيلية من خرق الجبهة السورية باتجاه دمشق والسيطرة على جيب سعسع، إلا أن القوات السورية نجحت في إيقاف القوات الإسرائيلية عند خط تل الشمس - بيت جن، وكانت القيادة السورية في هذه الفترة قد عوضت قسماً كبيراً من خسائرها وأعادت تجميع قواتها الرئيسة استعداداً لمعاودة الهجوم، ولكن الهجوم لم ينفذ لصدور قرار دولي بوقف إطلاق النار اعتباراً من 23/10/1973.
القتال على جبهة القناة
واجهت القوات المصرية مشكلة حقيقية عند التخطيط للهجوم من أجل عبور قناة السويس واختراق خط بارليف، لذلك كان الحل الأمثل بالنسبة لها دفع قوات المشاة لعبور القناة على شكل موجات، والتوغل إلى عمق 4كم، تعززها وحدات الصاعقة المسلحة بالقذائف الصاروخية الموجهة والأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات لأعداد كبيرة، وتبقى تحت تغطية نيران المدفعية والدبابات والصواريخ والطيران، بهدف منع دبابات العدو من الاقتراب من نقاط العبور، وقد نُفذت هذه الخطة بنجاح وتوغلت قوات الصاعقة حتى 8كم، وهاجمت الدبابات الإسرائيلية في مناطق حشودها. لم تتمكن الدبابات المصرية من العبور إلا ابتداءً من منتصف ليلة 6-7، وتمكنت صباح 7تشرين الأول من تعزيز رؤوس الجسور والاستعداد لصد الهجمات المعاكسة الإسرائيلية.
حاول الإسرائيليون شن هجمات معاكسة بالاحتياط المدرع، ولكن القوات المصرية استطاعت تدمير القسم الأعظم من هذا الاحتياط وإيقاف الهجوم المعاكس، ولم تغتنم القيادة المصرية هذه الفرصة لمتابعة الهجوم واستثمار النصر، فتوقفت عند الخطوط التي احتلتها مدة خمسة أيام متواصلة بحجة إعادة التجميع، وهذا ما أتاح للقيادة الإسرائيلية نقل ثقلها النوعي واحتياطيها الاستراتيجي إلى الجهة الشمالية، حيث القوات السورية، وعززت قواتها في الجنوب بما يكفل وقف تقدم القوات المصرية. ولكن عندما قررت القيادة المصرية متابعة الهجوم في 14/10، اصطدمت بمقاومة إسرائيلية عنيفة وكمائن للدبابات، وحاولت القيادة الإسرائيلية شن هجوم معاكس على عدة قطاعات، واشتبكت في معارك ضارية من دون تحقيق نتائج تذكر، إلا أن التفوق أصبح في صالح القوات الإسرائيلية نتيجة للجسر الجوي الأمريكي، ودارت في هذه المنطقة أكبر معارك الدبابات شاركت فيها نحو 2000دبابة، واستخدم الإسرائيليون فيها أول مرة حوامات مضادة للدبابات مزودة بالصواريخ الموجهة، فكانت مفاجأة الحرب في جبهة سيناء، وكان أثرها حاسماً في صد الهجوم المصري. ووضعت الحكومة الأمريكية وسائط الاستطلاع الأمريكية ووسائل التجسس في خدمة إسرائيل، وكشفت وجود ثغرة غير محمية بين الجيشين الثاني والثالث، بعرض 25كم، ووجدت فيها القيادة الإسرائيلية فرصتها فدفعت عبر البحيرات المرة ثلاث مجموعات ألوية، تمكن بعضها من السيطرة على منطقة العبور بعد أن تكبدت خسائر فادحة، ونصب جسر طوفي لعبور الدبابات الرئيسية التي تدفقت من الثغرة، وباشرت الانتشار بكل الاتجاهات الممكنة، وسيطرت على منطقة واسعة امتدت إلى تخوم مدينة السويس، واستغلت القوات الإسرائيلية قرار وقف إطلاق النار لضرب قواعد الصواريخ المصرية وتوسيع الممر الجوي لطائراتها، من أجل دعم قواتها التي سيطرت على طريق السويس - القاهرة، وقطعت طرق الإمداد المصرية.
نتائج حرب تشرين التحريرية
1- النتائج العسكرية: أحدثت حرب تشرين تبدلاً حقيقياً في مفهوم الصراع المسلح الدولي والمحلي، وتداعى الخبراء والمنظرون العسكريون والسياسيون من الشرق والغرب لدراستها واستخلاص الدروس المستفادة منها، وما أحدثته من تغيرات في مفاهيم الاستراتيجية والتكتيك والتسليح.
اتصفت المعارك التي دارت على الجبهتين السورية والمصرية بضراوتها وسرعة تبدل المواقف واستمرارها ليلاً نهاراً من دون توقف، وقد استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة التقليدية والمتطورة. ومن أهم سمات تلك الحرب اقتحام المانع المائي في قناة السويس وخرق المنطقة المحصنة في الجولان، وكذلك انتقال زمام المبادأة إلى الجانب السوري المصري لأول مرة بعد حرب 1948.
وأثبتت حرب تشرين ما يتمتع به الجندي العربي من شجاعة وخبرة ومهارة في استخدام الأسلحة المعقدة واستعداد للتضحية في سبيل قضية عادلة، كما أسقطت الأسطورة التي روجها العدو عن جيشه الذي لايقهر. وقد هزت الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بإسرائيل كيانها بعنف وأصابتها بصدمة مازالت آثارها حتى اليوم، رغم الدعم الأمريكي غير المحدود، وبرهنت عن أن هزيمة إسرائيل وإجبارها على التقيد التام بقرارات الأمم المتحدة والتخلي عن الأراضي التي تحتلها لاتتحقق إلا بحرب استنزاف طويلة الأمد تستنزف طاقتها البشرية والمادية والمعنوية.
2- النتائج السياسية: أكدت حرب تشرين قومية الصراع مع إسرائيل والصهيونية العالمية، وأن طريق تحرير الأرض هو توحيد كلمة العرب في خندق الصراع، وأسهمت في زيادة ثقة الشعوب العربية بكيانها ورفع معنوياتها وأزالت نكسة حزيران 1967، وأثبت سلاح النفط العربي الذي استخدم في المعركة فاعليته وتأثيره في الاقتصاد العالمي عامة والأمريكي خاصة، كما برهنت مساهمات الدول العربية في الحرب عن الطاقات الكامنة غير المحدودة للأمة العربية وحاجتها إلى التنسيق والتنظيم وتجنيد تلك الطاقات ضمن استراتيجية عربية واحدة توفر للشعوب العربية الأمن والسلام، وتضمن لها استعادة حقوقها المغتصبة وتحرير الأرض العربية والإنسان العربي.
أحمد يوسف