راس بيروت": ذاكرة لا تنضب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • راس بيروت": ذاكرة لا تنضب

    راس بيروت": ذاكرة لا تنضب
    رباب دبس 7 مارس 2023
    أمكنة
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    يولي المفكر الفرنسي موريس هالبفاكس في كتابه "الذاكرة الجمعية" أهمية خاصة للمكان، باعتباره يندمغ ببصمة الجماعة، كما تندمغ هذه ببصمة المكان الذي يعيد بدوره إنتاج الصور في الذاكرة.

    يحيلنا ما ذكر إلى جماعات عكست ثقافتها وخصوصيتها في الأمكنة التي عاشت فيها الأمر الذي أكسبها سمة خاصة بها. ويردنا ذلك إلى منطقة "راس بيروت" التي تشكلت خصوصيتها نتيجة جمع من العوامل ساهمت في تفردها وتميزها، كان أبرزها انفتاحها المبكر على الحداثة، وتعايش عدد كبير من الطوائف والجنسيات فيها، فكان أن عكست راس بيروت مناخها وروحها في ذاكرة كل من عاش فيها، وحظيت باستعادة كثيفة ومتنوعة في عدد كبير ومتنوع من الصحف والمجلات والدوريات، كما وردت في عدد من كتب التأريخ وفي السير الذاتية والشفهية، وغيرها الكثير مما يأتي في إطار العمل الذاكراتي.

    ذاكرة السابقين

    في الاطلاع على أعمال الذاكرة التي وردت فيها راس بيروت، نجد أنها تغطي بمجموعها ما يقارب قرن من الزمن، فبعضها يعود إلى أوائل القرن العشرين، ومنها ما زال يصدر حتى يومنا هذا. أما كتّاب هذه الأعمال فهم متنوعو الطوائف والجنسيات، منهم اللبنانيون: كمال صليبي في مذكراته "طائر على سنديانة، 2002"، ومنير شماعة في سيرته "إقلاع وهبوط، سيرة طبيب من راس بيروت، 2000"، ومنى بارودي الدملوجي في سيرتها "أيام من عمر مكتوب، 2013"، فيما وثق كمال ربيز الذي شغل منصب مختار، شهادات عدد من الشخصيات التي تستعيد ذاكرة راس بيروت في كتابه "رزق الله عهيديك الإيام… يا راس بيروت، 2010". ومنهم الفلسطينيون: أنيس الصايغ في سيرته "أنيس الصايغ عن أنيس الصايغ، 2006" وفي سيرة نقولا زيادة "أيامي، 1992"، وفي مذكرات جورج حبش "صفحات من مسيرتي النضالية، 2019"، نالت راس بيروت أيضًا حيزًا واسعًا من كتاب محمود شريح "الفردوس المفقود… بيروت كما عرفتها 1958 - 1975، 2018"، كما في حكايات سمير صنبر "أناس من راس بيروت، 1980"، وفي مذكرات هشام شرابي "الجمر والرماد، مذكرات مثقف عربي، 1998". وردت راس بيروت أيضًا في مذكرات السوريين، ومن بينهم قسطنطين زريق في "ذكريات... سيرة لم تكتمل، 2017" وفي سيرة حليم بركات "المدينة الملونة، 2006".
    بالإضافة إلى الوجه الحداثي الذي يجمع عليه عدد من الكتاب في مؤلفاتهم، تبقى صورة التعايش بين الطوائف في راس بيروت الأكثر حضورًا من غيرها، وتستعاد كإحدى صورها الراسخة في الذاكرة الجمعية
    تؤرخ الأعمال المذكورة، رغم الحضور المتفاوت لراس بيروت فيها، للزمن الحداثي المبكر الذي انفتحت عليه المنطقة وأسبابه المتنوعة، بدءًا من توفر عدد كبير من المؤسسات الأكاديمية والطبية والنوادي الثقافية والاجتماعية فيها، إلى استقطابها مجموعة كبيرة من المثقفين والمفكرين والصحافيين والسياسيين والفنانين مختلفي الجنسيات والأطياف.

    إضافة إلى الوجه الحداثي الذي يجمع عليه معظم الكتاب المذكورين في مؤلفاتهم، تبقى صورة التعايش بين الطوائف في راس بيروت الأكثر حضورًا من غيرها، وتستعاد كإحدى صورها الراسخة في الذاكرة الجمعية.

    تشكل الإصدارات الآنفة عن راس بيروت، بمثابة حافظة لذاكرتها إذ تتضمن سجلًا حافلًا من التأريخ الاجتماعي والثقافي والأكاديمي والسياسي الذي كانت المنطقة مسرحًا له، فمعظم الكتاب عاشوا ردحًا من حياتهم في راس بيروت، كما كانوا من المنتسبين إلى الجامعة الأميركية والنوادي الثقافية فيها، كما مارس الكثير منهم التعليم الجامعي والنشاط السياسي ضمن صروحها.

    مع رحيل عدد كبير من الكتاب الآنفي الذكر، لا يزال مناخ راس بيروت يلقي بظله الوارف على ذاكرة الأجيال، التي عاشت نزرًا قليلًا من الحقبة الذهبية فيه، فكانت ذاكرة الآباء والأجداد خير معين لتدوين من لم يعش تلك الحقبة، وخصوصًا جيل الستينيات، ومن بينهم ابن بيروت الروائي زياد كاج الذي استحوذت راس بيروت، وخصوصًا حي الصنوبرة التي يقع ضمنه، على روايتين متتاليتين: "رأس بيروت صندوق في بحر، نار على تلة، 2015"، و"بناية تي. في. تاكسي، الصنوبرة راس بيروت" (سيرة مكان) (بيروت، 2023). الصادرتين عن دار نلسن، وهما عملان يؤرخان لراس بيروت التي انحفرت صورها عميقًا في ذاكرة الكاتب، قبل أن تأخذها الحرب إلى غير رجعة.
    منطقة "راس بيروت" تشكلت خصوصيتها نتيجة جمع من العوامل ساهمت في تفردها وتميزها، كان أبرزها انفتاحها المبكر على الحداثة
    مناخ راس بيروت

    تعكس "بناية تي. في. تاكسي، الصنوبرة راس بيروت" (سيرة مكان)، التركيبة السكانية لراس بيروت التي يشكل تنوع الطوائف والجنسيات فيها السمة الأبرز لها، فسكان هذا المبنى ومنهم الروائي كاج الذي عاش مع والده المسلم ووالدته الأرثوذكسية وإخوته ضمن إحدى شققها، خليط كما يصفه: "قل نظيره في أي حي أو بناية في راس بيروت"، ومن بين الساكنين: "سامي عطوي من مغدوشة، جان مايك وزوجته الكورانية، معلم النجارة سليم محيو، آل عاشور، وآل خياط، مدام شاكيه، الخواجة أوهانس، الخواجه ماركار، آل زرتاريان، آل حداد وخادمتهم اليوغسلافية، آل البورسالي، غازي بوزين، وأميل البتروني، ومدام طعمة العراقية، ومدام سعادة ومدام فارس".

    على هذا النحو يعيد كاج عبر سيرته "بناية تي. في. تاكسي" التي تقع في حي الصنوبرة في راس بيروت، إعادة تركيب النسيج السكاني القديم للمنطقة وترسيخه في الذاكرة، كما سبق أن رسخه من كتبوا من قبله، وكأن التأريخ لميزة ذلك المكان، مهمة ارتضى القيام بها كل من عاش فيه، من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق، ومنهم كاج نفسه.

    حي الصنوبرة: حكاية مكان وناسه

    يستحضر كاج في سيرة حي الصنوبرة، ما هو أبعد من مبانيه ومحلاته وشوارعه، بل إنه يغوص في مناخه الإنساني الذي يستعصي وصفه، إلا على من خبر العيش فيه، كما عاش الكاتب. فهذا الحي الذي اكتسب تسميته من شجرة الصنوبر التي لا زالت صامدة، بفرع وحيد، حتى يومنا هذا، يستدعي من كاج إظهار مورفولوجيته الخاصة، فيتدرج في وصف تركيبته من الماكرو إلى الميكرو، إلى تفاصيل الحياة التحتية ومعيش سكانه. هكذا يقبض كاج على روح المكان وحركته وناسه، وهو العالم بخباياه وكل ما يدور فيه، فالعلاقات بين سكان حي الصنوبرة طبيعية ومباشرة، بل إنها تبدو سمة من سمات اجتماعهم اليومي، كتلة بشرية متناغمة ومكملة بعضها للبعض الآخر، ففيه كما يذكر صاحب السيرة: "لا فرق بين غني وفقير، أمي ومتعلم، مهني وصاحب رأسمال، بورجوازي وآخر معدم على باب الله". "الجار الحلبي الذي كان يشرب كأس العرق على الريق"، "متجر الحلويات الغربية الأطيب والأشهر في الحي"، في الحي أيضًا من اكتسب كنية خاصة نسبة لمهنته "أبو علي كرواسان"، "الجيران الأشوريون الذين كانوا يسهرون يوميًا أمام دكان أبو محجوب"، وجارهم ميشال إيشو، جار الحي المطرب والملحن السعودي "طلال مداح"، وأبو نقولا وسيمون الأرمني وعائلتان من آل الغالي وعيتاني الذي يعمل رجالها في إطفائية بيروت. هذا هو حي الصنوبرة المتجذر عميقًا في ذاكرة كاج الذي لا ينفك من تكرار ميزته ووصفه: "هذا حينا، مكاننا، أهلنا والجيران، كانوا يسكنون فيه والإلفة تسكنهم".
    يعيد زياد كاج عبر سيرته "بناية تي. في. تاكسي" التي تقع في حي الصنوبرة في راس بيروت، إعادة تركيب النسيج السكاني القديم للمنطقة وترسيخه في الذاكرة
    هوية تذيب جليد الطبقات بين أبنائها

    يحيلنا مناخ وأحداث "بناية تي. في. تاكسي" إلى ما ذكره ديفيد هارفي في كلامه عن الحق في المدينة عن أن "الصراع على الحيز المديني ونوعية الحياة اليومية داخل الحارات جوهريان لفهم ديناميات الصراع الطبقي". ففي وصفه للممارسات الاجتماعية لسكان راس بيروت بعامة، يُظهر كاج حرصهم على صورة العيش المشترك التي تميزت به المنطقة لحقبات طويلة سابقة، مما ساهم في إذابة العديد من الفوارق الطبقية بين ساكنيها. فعلى من يريد العيش في راس بيروت أن يعرف "الكود" (الشيفرة)، وفق ما يقول كاج، والكود، هو بمثابة مفتاح يعرفك على روح المنطقة، التي لا تشبه برأيه أي منطقة في لبنان، فأنت في راس بيروت، لا مسلم ولا مسيحي، ولا أرمني، ولا من أي طائفة، أنت الإنسان بكل ما تريده وبما تفكر فيه، وما تسعى إليه... فالذي يريد أن يعيش ضمن هذه الشروط يكتسب اسم مواطن "راس بيروت".

    ويستحضر كاج مواصفات مواطن "راس بيروت" في صور ومشاهدات عن علاقات سكان "بناية تي. في. تاكسي": أبو رياض والد الكاتب و"سفرته العامرة دائمًا بما لذ وطاب"، "مشروب ويسكي باب أول"، "شلة الأصدقاء" الذين كانوا يحرصون على أن يجتمعوا مع بعضهم البعض بشكل متواتر، "أوهانس، ماركار، يوسف عيتاني، أبو سامي حداد، خليل مرمر، ورياض الشوفير المتيم بعائشة قريبة جارتنا أم بشير".

    إذابة الجليد وحميمية العلاقات بين ناس حي الصنوبرة في راس بيروت، ساهمت فيها أيضًا مدارس الإرساليات، التي كانت بدورها تترك أبواب ملاعبها مفتوحة لطلاب المدارس الرسمية من أبناء الطبقات الفقيرة، لكي يمارسوا ألعاب كرة الطاولة والسلة والقدم فيها، كما كانت هذه المدارس تتيح للطلاب حضور الأفلام الوثائقية والنشاطات التثقيفية التي كانت تعرضها. هكذا كانت مدرسة الطليان التي يديرها قساوسة أقباط مصريون، وملاعب مدرسة "دون بوسكو" قديس الشباب، وملاعب مدرسة الروضة، تساهم في تقريب أبناء المنطقة الواحدة ودمجهم.
    تاريخ تحولات "بناية تي. في. تاكسي" يتلازم مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 10 نيسان/ أبريل 1973، فمع التاريخ المذكور غاب: "كل رمز للدولة والنظام"، ومع هذا الغياب: "سيغيب عامل البلدية، وحارس البلدية، وجابي الكهرباء"!
    الحرب التي أخذت معها كل جميل

    لا تبقى المدن والمجتمعات جامدة، فهي في تعديل مستمر لبيئتها ولثقافتها الاجتماعية. و"بناية تي. في. تاكسي"، التي تعكس في تحولاتها، تحولات مدينة بيروت ولبنان على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، تردنا إلى مسارات أبطال رواية "عمارة يعقوبيان" للمصري علاء الأسواني، التي يعكس فيها تحولات القاهرة. إلا أن تاريخ تحولات "بناية تي. في. تاكسي" يتلازم مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 10 نيسان/ أبريل 1973، فمع التاريخ المذكور، غاب كما يذكر كاج: "كل رمز للدولة والنظام"، ومع هذا الغياب: "سيغيب عامل البلدية، وحارس البلدية، وجابي الكهرباء". "اهتز البناء الذي هو لبنان، وسقط منه ما سقط"، فدخلت "الكوفية الفلسطينية التي تعايشت، على مضض، مع الكوفية السورية"، وتلتها الحروب المتعددة والمتشعبة بين الأحزاب اللبنانية وغير اللبنانية "المرابطون وحركة أمل والحزب الاشتراكي" وصولًا إلى بروز التيارات الدينية التي يصفها كاج بمرحلة "تصفية اليسار اللبناني، على يد يا أهل المذاهب اتحدوا". ثم ممارسات اليساريين الفقراء الذين ملوا من "ديكتاتورية البروليتاريا"، وأصبحوا تواقين إلى هجرة فقرهم، وحذو حياة البرجوازيين الجدد، الذين دائمًا ما يتكاثرون على عجل مع الحروب.

    التحولات التي تعكسها سيرة "بناية تي. في. تاكسي"، تظهر أيضًا في تبدل مالكيها، من آل الزاهد إلى آل الدباغ إلى آخرين، ومع كل تبدل كان النسيج السكاني للمبنى يتبدل. هكذا يعكس فقدان حي الصنوبرة روحيته، فقدان بيروت ولبنان النسيج السكاني المختلط الذي طالما ميز هوية بقيت على المحك حتى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. أصبح "أكثر من جار نفتقده حين يصمت المدفع ويفتح معبر المتحف". "تركت مدام بورسالي شقتها في الروف لتقيم في الطوابق السفلى"، "صارت أفران المنطقة تسمح ببيع خمسة أرغفة فقط لكل عائلة".

    راس بيروت ذاكرة وحنين

    على النحو المذكور، تأتي سيرة "بناية تي. في .تاكسي"، وثيقة إضافية على عمق وتجذر صورة راس بيروت وحي الصنوبرة ليس في ذاكرة كاج فحسب، بل في الذاكرة الجمعية للبنانيين وكل من عاش في المنطقة المذكورة. فالكاتب لا ينفك يكرر ما تكرس في ذاكرته عن بيروت ورأسها: "أن تكون بيروتيًا يعني أن تشعر بجراح المدينة" فبيروت تبقى حبيبة وهي بنظره: "ضحية وجلادوها كثر"، أما أن تكون بيروتيًا فذلك يعني أن "تتقن الحديث مع الحيطان والأرصفة وإشارات السير العمياء عمدًا، فكل حجر وكل رصيف وكل شارع يختزن مئات القصص والخبريات".

    مع هذا الإعتراف لابن راس بيروت زياد كاج في سيرته "بناية تي. في. تاكسي"، يمكننا أن نترقب أكثر من ذاكرة ستكتب عن هذه المنطقة لاحقًا. فلننتظر.
يعمل...
X