رواية "الطقس مناسب للموت": استئصال لأورام مجتمعية بنَفَس شعري
دارين حوماني
21 مارس 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا يمكن للحياة أن تبدأ إلا بنفسها وتنتهي بالموت، ما يحدث في رواية "الطقس مناسب للموت" (دار زمكان، 2022) للكاتبة زينب فياض أن سطورها تبدأ بالموت وتنتهي بالحياة، وما بينهما حكاية سرمد الذي تخلّت أمه عنه طفلًا من داخل حكاية بيروت الثورة وكورونا وانفجار مرفئها. حكاية تشفّ في أجزاء كثيرة منها عن وجع الكاتبة نفسها من القدر والموت والعالم، "أنا لست الراوية، أنا مجرد مبضع يشق جسد التساؤلات داخل غرفة الاحتمالات... الروايات أولادنا وذاكرتنا وأسرارنا الصغيرة... سيكون الطقس ملائمًا للفراق، حين نستنزف كلّ حكاياتنا، وندوّنها ثم لا نجد ما نكتبه لاحقًا... الكتّاب يدفنون جثث أفكارهم المشوهة في رواية"...
هي رواية قائمة على فكرة واحدة لكنها محمّلة بمفاهيم وأفكار متعددة، ولكل فكرة ظلّها فينا. ثمة تزاوج بيننا وبين ما نقرأه، كأن الكاتبة تستعير منا ذاكرتنا وتساؤلاتنا وتقترحها ضمن تفصيلات الحكاية. هنا الخامات الأولية للألم ولوجع الانسلاخ بين الطفل وأمه، الانسلاخ نفسه لاحقًا بين الطفل الذي سيصير كاتبًا والحياة، "ما الروايات سوى مرآة لإظهار صورة هذا الكوكب، حين قرّر الإله أن يتوارى ويراقبنا... نحن نكتب ليظهر الرب من مخبئه لنفاجئه. هل يعلم كيف أصبح هذا الكون مشوّهًا؟". كتابة تبدو ترجمة لأسئلة وجودية مع اقتراحات أخرى للحياة "ذاك الإرث الثقيل المسمى ـ والدان ـ الذي وهبنا إياهما الرب دون أن يستشيرنا. لو كنت إلهًا لأخذت برأي كلّ طفل أرسله للحياة، سأقدّم خيارات متاحة له. سينجو هذا الكون من تراكم الأمراض النفسية حينها. الأبناء منتجٌ رقيق بحاجة لإله يحتضنهم بعيدًا عن ترهات الأبوة والأمومة، بعيدًا جدًا عن قلق العلاقات المرعبة التي يؤديها الأهل بذريعة قوانين المجتمعات الحمقاء". بهذه اللغة المخزّنة بالعمق الإنساني والبحث عن الكمال الإنساني تكتب فياض روايتها عن كائنها القلق سرمد "المنتج الأصلي للوجع" الذي ليس كاتبًا فحسب بل "لعنة كونية من الخيبات" كما تصفه إحدى شخوص الرواية، وحبيبته شيرين التي ستقرأ بالصدفة حكايته وحكاية أمه في رواية "لا تشرب القهوة معي" فيبدأ سعيها لكشف الحقيقة.
ثمة رواة للحكاية الواحدة، سرمد من جهته الذي يرفض البحث عن أمه ويرى أن الاستفسار عن والدة هجرت ابنها هو بحث آثم، وشيرين التي أخذت دور أمه وغير المتصالحة مع واقعها، المعارضة الدائمة بوجه الظلم من خلال المظاهرات والمحرّضة الدائمة على الأنظمة السياسية والنظم الاجتماعية غير العادلة، وزلفة صاحبة الرواية التي كشفت الحقيقة، وحبيبها فراس الفنان التشكيلي المتزوج، ونينار الأم. خمسة رواة لقصة واحدة، وليست القضية بناءً للشخصيات ودورها في الرواية بقدر ما يشكّل هذا التعدّد بما تُسقط فيه الكاتبة من أفكار استئصالًا لأورام مجتمعية وزحزحة لمواد أرشيفية من مفاهيمنا بحاجة للانتباه لها، فالأنثى حين تقرّر أن تكون أمًا لن تستطيع من بعدها أن تكون شيئًا آخر... والزوج القاتل لا يرى زوجته تطلب الطلاق فقط، هو يستجلب صورًا مستقبلية لما بعد الطلاق. علاقات جسدية جديدة بعد تحرّرها منه، لذّة جديدة مع شخص آخر. حياة مجون كما يتصور الجميع حال المطلقة. كلّ هذه الخيالات المتوارثة من مؤسساته الدينية والأسرية وثقافة السلطة الذكورية وغيرها يستحضرها لحظة طلبها للانفصال. زلفة أيضًا بعلاقتها مع فراس المتزوج تقع في تناقض بين أفكارها النسوية المطالبة برفض الزواج الثاني وإدانة الخيانة والمطالبة بالعدالة والمساواة بين الجنسين، كل هذا لا تنفذّه وهي عاشقة لرجل متزوج. وخلال تركيبها لرواية صديقتها نينار وتخلّيها عن ابنها، تعمد زلفة إلى "محاولات الاختباء وإخفاء الجثث" كي لا تظهر الرواية نسخة طبق الأصل عن وجع سرمد، لتعنون فيما بعد أسلوبها "محو اللعنات" الذي نحتاجه في حياتنا "هناك مشاهد لو تُحذف من حياتنا حين نريد وكيفما نريد، دون الاضطرار للتبرير للرب وللبشر، سيكون الأمر أكثر سعادة للجميع، لا الرب سيحاسبنا ولا البشر سيلاحقون هفواتنا".
أما أمير، الأخ الأصغر لشيرين، المصاب بشلل دماغي، فهو داخل الحكاية لأنه مستلّ من نفس حياة الكاتبة فياض ولأنها تريد من خلاله أن تجمع به قطعة أخرى من "بازل" روايتها الناقدة لمفاهيم من مجتمعنا؛ "تقول جدتي أن أمير هبة إلهية، أعترض على كلامها وهل نحن آثام بشرية؟ لماذا يصرّ البشر على إيجاد مبررات عن الله لكل البلاءات؟ تقول والدتي بالخفاء "إن لم يكن هناك تعليل منطقي، يلجأ الناس لتعليلات ماورائية لكي يصمدوا في هذا الكون" ثم تقول: "الأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة هم عبء في مجتمعاتنا، لأنهم لن يقوموا بما هو متوقع منهم تجاه أسرتهم. في بلاد الغرب التفكير مختلف ليس الأمر أنهم أكثر إنسانية منا بل لأن الأهل عادة لا يتوقعون من أبنائهم أي تبادل في العطاءات"".
بعد أن رأت شيرين التشابه بين رواية "لا تشرب القهوة معي" وحكاية سرمد وبعد إصرارها على زلفة لتخبرها الحقيقة، لن تجد الأخيرة إلا أن تخبر عن صداقتها بنينار والدة سرمد وكيف بدأت داخل سجن النساء بعد شروعها بقتل زوجها الأول. هنا تشتغل زينب فياض على جدارية مشوهة من واقعنا، فزوج نينار الأول كان مقاتلًا شيوعيًا للاحتلال الإسرائيلي ثم سيختفي جثمانه وتُعلن وفاته، وستتزوج نينار مجددًا من والد سرمد، ولما يعود زوجها الأول حيًا ستلحقه حبًا به لكنه سيكون شخصًا آخر منقادًا للقطيع السياسي المسيطر في البلد تاركًا تاريخه النضالي لينخرط في الموجة السياسية التي سادت بداية التسعينيات وليكون جزءًا من المافيات التي تتحكم بأراضي المنطقة والكهرباء والتلوث الناتج عن المحارق التي يستفيد منها وموتورات الكهرباء التي صارت حكرًا له، يذلّ الأهالي فهو رئيس أكبر مافيا للكهرباء والماء والأدوية والأسلحة تحت مرأى رجال السياسة، الذين وكلّوه ليكون الإقطاعي الأول ليتصرف بخيرات المنطقة كيفما يشاء. ستعمد نينار إلى محاولة قتله وتدخل السجن. بعد خروجها من السجن سترحل إلى بلاد فارس.
هذا ليس مجرد سرد بل هو اقتطاع حقيقي ملموس من معاركنا الحياتية ومن حضيض واقعنا دون تعديل على النسخ الأصلية لتصدعات النفس والوطن. وليست مافيات قتل الناس ببطء فقط هو اصطدام الكاتبة فياض الوحيد مع واقعها، فالثورة هي ظل الحكاية ومشهدية أخرى منها أيضًا: "هذه الثورة أيقظت فينا القوة. ثورة 17 تشرين الأول 2019 جدّدت خلايا كلّ الممتعضين منذ سنوات على سياسة الدولة الظالمة، وعلى المسؤولين الذين أمعنوا بسرقة أمولنا عبر التعدي على أملاك الدولة ومن خلال مشاريعهم الوهمية التي بسببها أصبح هذا البلد مديونًا، وأغلب الشعب صار تحت خط الفقر". ثم تنتقد فياض "الانقسامات الأفقية داخل الانتفاضة التي لا تمسّ جوهر الثورة ورفضها للمنظومة وسياساتها". وتكمل الكاتبة كولاجاتها المأخوذة من النفوذ الواسع لألم المدينة وتشققاتها الجوانية فنينار الأم ستموت في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس بعد عودتها إلى لبنان وهي تحاول استعادة حياتها بالمشي قرب البحر. لتولد مباشرة "نينار" ابنة سرمد وشيرين "الإصرار على الحياة هو أكثر ما نبتغيه".
علاقة الكاتبة مع الطقس وتبدلاته تتبدّى لنا ليس فقط في عنوان الرواية، بل بكل مزاج أبطالها على طول الرواية ليكون الطقس عنصرًا فاعلًا وبطلًا آخر من الطبعات المتعاقبة للفرح والحزن، وللحياة والموت: "الطقس مناسب للثورة ولكنه غير مناسب لأكون في دائرة البوح... الطقس ملائم للفراق/ كان الطقس مناسبًا لأغفر لها، لأقبلها، لأغمرها/ الطقس مناسب جدًا لأظل بجانب نينار/ الطقس مناسب للحديث عني وعن طفولتي ومهنتي/ الطقس مناسب للزواج بك/ الطقس لم يعد مناسبًا ليأخذ كلّ منا بيد من يحب، ويذهب لمتاهات الكون/ الطقس المناسب سينتهي، لن يعود باستطاعتنا اتخاذ قراراتنا كما ينبغي"... وغيرها من اللوحات الطقسية التي تبدو كبوسترات لشخوص مدينة بيروت وللمدينة نفسها، لكن أبرزها هو الطقس المصاحب لحديثها عن انفجار المرفأ في نص مكتوب بنَفَس شعري مع مفعول رجعي للحزن: "في الرابع من شهر آب 2020 شوّهوا بيروت وقتلوا امرأة كانت ترسم طقسًا جميلًا وتنتظر لتشم رائحة بيروت منه. نحن الناجون من الانفجار، والحرائق وتسكير الطرقات، وتدمير هذا البلد المنكوب اقتصاديًا. هناك سبع قواعد للموت أهمها أن يكون الطقس مناسبًا، أن تجلس بلا حراك منتظرًا إيّاه، أن يأتي إليك فترحّب به غير مبالٍ، أن تشعر بأنّ وجودك دون جدوى ولا هدف، عدم امتلاك حبيب يخاف عليك، فقدك للفرح وامتلائك بالحزن. القاعدة السابعة لن أحدّدها، فهي متاحة للجميع، يستطيع أي شخص أن يضع ما يحلو له، لأنّ الموت بضاعة لا ترد ولا تبدل".
ثمة معجم آخر لخلايا الرواية مستلّ من سيوران وكافكا وفوكو ونيتشه وأمبرتو إيكو وألبير كامو وهو يقول "عار على البشرية أن ينتحر أحدهم وقد كان في حاجة إلى عناق طويل" وآخرين، سيُرافقون أبطال الرواية في هذه السلالة من الموت والبحث عن الحياة... معجم ليس سوى انعكاس لمزاج الكاتبة نفسها وخصوبة المعنى في حكاياتها، وهو الأثر الخفيّ في مناطق الرواية البكر التي رافقتنا ونحن ندخل معها في طقوسها المتعددة وفي ذلك الطقس المناسب جدًا للموت...
دارين حوماني
21 مارس 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا يمكن للحياة أن تبدأ إلا بنفسها وتنتهي بالموت، ما يحدث في رواية "الطقس مناسب للموت" (دار زمكان، 2022) للكاتبة زينب فياض أن سطورها تبدأ بالموت وتنتهي بالحياة، وما بينهما حكاية سرمد الذي تخلّت أمه عنه طفلًا من داخل حكاية بيروت الثورة وكورونا وانفجار مرفئها. حكاية تشفّ في أجزاء كثيرة منها عن وجع الكاتبة نفسها من القدر والموت والعالم، "أنا لست الراوية، أنا مجرد مبضع يشق جسد التساؤلات داخل غرفة الاحتمالات... الروايات أولادنا وذاكرتنا وأسرارنا الصغيرة... سيكون الطقس ملائمًا للفراق، حين نستنزف كلّ حكاياتنا، وندوّنها ثم لا نجد ما نكتبه لاحقًا... الكتّاب يدفنون جثث أفكارهم المشوهة في رواية"...
هي رواية قائمة على فكرة واحدة لكنها محمّلة بمفاهيم وأفكار متعددة، ولكل فكرة ظلّها فينا. ثمة تزاوج بيننا وبين ما نقرأه، كأن الكاتبة تستعير منا ذاكرتنا وتساؤلاتنا وتقترحها ضمن تفصيلات الحكاية. هنا الخامات الأولية للألم ولوجع الانسلاخ بين الطفل وأمه، الانسلاخ نفسه لاحقًا بين الطفل الذي سيصير كاتبًا والحياة، "ما الروايات سوى مرآة لإظهار صورة هذا الكوكب، حين قرّر الإله أن يتوارى ويراقبنا... نحن نكتب ليظهر الرب من مخبئه لنفاجئه. هل يعلم كيف أصبح هذا الكون مشوّهًا؟". كتابة تبدو ترجمة لأسئلة وجودية مع اقتراحات أخرى للحياة "ذاك الإرث الثقيل المسمى ـ والدان ـ الذي وهبنا إياهما الرب دون أن يستشيرنا. لو كنت إلهًا لأخذت برأي كلّ طفل أرسله للحياة، سأقدّم خيارات متاحة له. سينجو هذا الكون من تراكم الأمراض النفسية حينها. الأبناء منتجٌ رقيق بحاجة لإله يحتضنهم بعيدًا عن ترهات الأبوة والأمومة، بعيدًا جدًا عن قلق العلاقات المرعبة التي يؤديها الأهل بذريعة قوانين المجتمعات الحمقاء". بهذه اللغة المخزّنة بالعمق الإنساني والبحث عن الكمال الإنساني تكتب فياض روايتها عن كائنها القلق سرمد "المنتج الأصلي للوجع" الذي ليس كاتبًا فحسب بل "لعنة كونية من الخيبات" كما تصفه إحدى شخوص الرواية، وحبيبته شيرين التي ستقرأ بالصدفة حكايته وحكاية أمه في رواية "لا تشرب القهوة معي" فيبدأ سعيها لكشف الحقيقة.
ثمة رواة للحكاية الواحدة، سرمد من جهته الذي يرفض البحث عن أمه ويرى أن الاستفسار عن والدة هجرت ابنها هو بحث آثم، وشيرين التي أخذت دور أمه وغير المتصالحة مع واقعها، المعارضة الدائمة بوجه الظلم من خلال المظاهرات والمحرّضة الدائمة على الأنظمة السياسية والنظم الاجتماعية غير العادلة، وزلفة صاحبة الرواية التي كشفت الحقيقة، وحبيبها فراس الفنان التشكيلي المتزوج، ونينار الأم. خمسة رواة لقصة واحدة، وليست القضية بناءً للشخصيات ودورها في الرواية بقدر ما يشكّل هذا التعدّد بما تُسقط فيه الكاتبة من أفكار استئصالًا لأورام مجتمعية وزحزحة لمواد أرشيفية من مفاهيمنا بحاجة للانتباه لها، فالأنثى حين تقرّر أن تكون أمًا لن تستطيع من بعدها أن تكون شيئًا آخر... والزوج القاتل لا يرى زوجته تطلب الطلاق فقط، هو يستجلب صورًا مستقبلية لما بعد الطلاق. علاقات جسدية جديدة بعد تحرّرها منه، لذّة جديدة مع شخص آخر. حياة مجون كما يتصور الجميع حال المطلقة. كلّ هذه الخيالات المتوارثة من مؤسساته الدينية والأسرية وثقافة السلطة الذكورية وغيرها يستحضرها لحظة طلبها للانفصال. زلفة أيضًا بعلاقتها مع فراس المتزوج تقع في تناقض بين أفكارها النسوية المطالبة برفض الزواج الثاني وإدانة الخيانة والمطالبة بالعدالة والمساواة بين الجنسين، كل هذا لا تنفذّه وهي عاشقة لرجل متزوج. وخلال تركيبها لرواية صديقتها نينار وتخلّيها عن ابنها، تعمد زلفة إلى "محاولات الاختباء وإخفاء الجثث" كي لا تظهر الرواية نسخة طبق الأصل عن وجع سرمد، لتعنون فيما بعد أسلوبها "محو اللعنات" الذي نحتاجه في حياتنا "هناك مشاهد لو تُحذف من حياتنا حين نريد وكيفما نريد، دون الاضطرار للتبرير للرب وللبشر، سيكون الأمر أكثر سعادة للجميع، لا الرب سيحاسبنا ولا البشر سيلاحقون هفواتنا".
هذا ليس مجرد سرد بل هو اقتطاع حقيقي ملموس من معاركنا الحياتية ومن حضيض واقعنا دون تعديل على النسخ الأصلية لتصدعات النفس والوطن |
بعد أن رأت شيرين التشابه بين رواية "لا تشرب القهوة معي" وحكاية سرمد وبعد إصرارها على زلفة لتخبرها الحقيقة، لن تجد الأخيرة إلا أن تخبر عن صداقتها بنينار والدة سرمد وكيف بدأت داخل سجن النساء بعد شروعها بقتل زوجها الأول. هنا تشتغل زينب فياض على جدارية مشوهة من واقعنا، فزوج نينار الأول كان مقاتلًا شيوعيًا للاحتلال الإسرائيلي ثم سيختفي جثمانه وتُعلن وفاته، وستتزوج نينار مجددًا من والد سرمد، ولما يعود زوجها الأول حيًا ستلحقه حبًا به لكنه سيكون شخصًا آخر منقادًا للقطيع السياسي المسيطر في البلد تاركًا تاريخه النضالي لينخرط في الموجة السياسية التي سادت بداية التسعينيات وليكون جزءًا من المافيات التي تتحكم بأراضي المنطقة والكهرباء والتلوث الناتج عن المحارق التي يستفيد منها وموتورات الكهرباء التي صارت حكرًا له، يذلّ الأهالي فهو رئيس أكبر مافيا للكهرباء والماء والأدوية والأسلحة تحت مرأى رجال السياسة، الذين وكلّوه ليكون الإقطاعي الأول ليتصرف بخيرات المنطقة كيفما يشاء. ستعمد نينار إلى محاولة قتله وتدخل السجن. بعد خروجها من السجن سترحل إلى بلاد فارس.
هذا ليس مجرد سرد بل هو اقتطاع حقيقي ملموس من معاركنا الحياتية ومن حضيض واقعنا دون تعديل على النسخ الأصلية لتصدعات النفس والوطن. وليست مافيات قتل الناس ببطء فقط هو اصطدام الكاتبة فياض الوحيد مع واقعها، فالثورة هي ظل الحكاية ومشهدية أخرى منها أيضًا: "هذه الثورة أيقظت فينا القوة. ثورة 17 تشرين الأول 2019 جدّدت خلايا كلّ الممتعضين منذ سنوات على سياسة الدولة الظالمة، وعلى المسؤولين الذين أمعنوا بسرقة أمولنا عبر التعدي على أملاك الدولة ومن خلال مشاريعهم الوهمية التي بسببها أصبح هذا البلد مديونًا، وأغلب الشعب صار تحت خط الفقر". ثم تنتقد فياض "الانقسامات الأفقية داخل الانتفاضة التي لا تمسّ جوهر الثورة ورفضها للمنظومة وسياساتها". وتكمل الكاتبة كولاجاتها المأخوذة من النفوذ الواسع لألم المدينة وتشققاتها الجوانية فنينار الأم ستموت في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس بعد عودتها إلى لبنان وهي تحاول استعادة حياتها بالمشي قرب البحر. لتولد مباشرة "نينار" ابنة سرمد وشيرين "الإصرار على الحياة هو أكثر ما نبتغيه".
علاقة الكاتبة مع الطقس وتبدلاته تتبدّى لنا ليس فقط في عنوان الرواية، بل بكل مزاج أبطالها على طول الرواية ليكون الطقس عنصرًا فاعلًا وبطلًا آخر من الطبعات المتعاقبة للفرح والحزن، وللحياة والموت: "الطقس مناسب للثورة ولكنه غير مناسب لأكون في دائرة البوح... الطقس ملائم للفراق/ كان الطقس مناسبًا لأغفر لها، لأقبلها، لأغمرها/ الطقس مناسب جدًا لأظل بجانب نينار/ الطقس مناسب للحديث عني وعن طفولتي ومهنتي/ الطقس مناسب للزواج بك/ الطقس لم يعد مناسبًا ليأخذ كلّ منا بيد من يحب، ويذهب لمتاهات الكون/ الطقس المناسب سينتهي، لن يعود باستطاعتنا اتخاذ قراراتنا كما ينبغي"... وغيرها من اللوحات الطقسية التي تبدو كبوسترات لشخوص مدينة بيروت وللمدينة نفسها، لكن أبرزها هو الطقس المصاحب لحديثها عن انفجار المرفأ في نص مكتوب بنَفَس شعري مع مفعول رجعي للحزن: "في الرابع من شهر آب 2020 شوّهوا بيروت وقتلوا امرأة كانت ترسم طقسًا جميلًا وتنتظر لتشم رائحة بيروت منه. نحن الناجون من الانفجار، والحرائق وتسكير الطرقات، وتدمير هذا البلد المنكوب اقتصاديًا. هناك سبع قواعد للموت أهمها أن يكون الطقس مناسبًا، أن تجلس بلا حراك منتظرًا إيّاه، أن يأتي إليك فترحّب به غير مبالٍ، أن تشعر بأنّ وجودك دون جدوى ولا هدف، عدم امتلاك حبيب يخاف عليك، فقدك للفرح وامتلائك بالحزن. القاعدة السابعة لن أحدّدها، فهي متاحة للجميع، يستطيع أي شخص أن يضع ما يحلو له، لأنّ الموت بضاعة لا ترد ولا تبدل".
ثمة معجم آخر لخلايا الرواية مستلّ من سيوران وكافكا وفوكو ونيتشه وأمبرتو إيكو وألبير كامو وهو يقول "عار على البشرية أن ينتحر أحدهم وقد كان في حاجة إلى عناق طويل" وآخرين، سيُرافقون أبطال الرواية في هذه السلالة من الموت والبحث عن الحياة... معجم ليس سوى انعكاس لمزاج الكاتبة نفسها وخصوبة المعنى في حكاياتها، وهو الأثر الخفيّ في مناطق الرواية البكر التي رافقتنا ونحن ندخل معها في طقوسها المتعددة وفي ذلك الطقس المناسب جدًا للموت...
- عنوان الكتاب: الطقس مناسب للموت
- المؤلف: زينب فياض