دارين حوماني وكتابة الحياة في بيروت عن بُعد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دارين حوماني وكتابة الحياة في بيروت عن بُعد

    دارين حوماني وكتابة الحياة في بيروت عن بُعد

    رباب دبس

    20 مارس 2023
    شارك هذا المقال
    حجم الخط


    من غربتها في كندا تستعيد دارين حوماني في مجموعتها الشعرية الجديدة "عزيزتي بيروت… هنا مونتريال"، الصادرة عن دار العائدون للنشر 2023، مدينتها كمكان إنساني عاشت فيه وانتمت إليه طيلة حياتها، تستجمع عناصرها المتقاطعة بعضها مع البعض الآخر عبر تلاوين وأساليب تعكس قدرة الشاعرة على تطويع لغتها لدلالات وأبعاد وصور، تشي في مجموعها بحساسيتها الشعرية العالية، ما يمكّنها من إنجاز قصيدتها الخاصة أيضًا.

    ترتسم في قصائدها مدينة بيروت أثيرة على ما عداها من المدن، بتناقضاتها المتعددة، ابتداء من طبيعتها وبحرها وأشجارها وطرقاتها وأبنيتها، إلى أنماط وعوالم العيش فيها من الحب والصداقات والتعقيدات الاجتماعية، والحرية، والقيود، والطوائف المختلفة، التي تُظهر أن لهذه المدينة حيوات متعددة بتعدد الناس الذين يعيشون فيها، منهم من رحل ومنهم من هو على قيد الحياة. ففي هذه العاصمة المتوسطية من الحياة بقدر ما فيها من الموت، فيها من الحب بقدر ما فيها من الألم والقسوة، فيها من القبح بقدر ما فيها من الجمال، أَوليست هي مدينة الحب والحروب التي لا تنتهي؟

    تقول حوماني في قصيدتها "عزيزتي بيروت":

    المدينة ساكنة

    في الصباح التالي لانفجار هزّها من النصف…

    جثث فتشت عن أصابعها

    وجثث لسبب غير واضح

    اختارت الموت بلا ملامح...

    ...

    كنا صغارًا نستلقي بين القنبلة والأخرى

    نسأل الوجود أسئلة أطول من أقدامنا وأيدينا...

    عن السماء الرمادية دومًا

    والأبنية المثقوبة بالكامل بالرصاص والجثث

    وخط التماس الذي يقص قلبك لبيروتين...

    بيروت في قصائد حوماني، كائن مخاطب غير قابل للنسيان، هي مادة تلح على الكتابة عنها، ورغم أن عشاقها كُثُر، إلا أنها غير منصفة لمن يحبها، فهذه المدينة تغفر لظالميها ولمن يقطع أشجارها ويدمرها ويمحو ذاكرتها، وتقسو على من يخاف على بحرها وشوارعها ومقاهيها وأرصفتها. على هذا النحو، يبدو كل ما في المدينة مثار حيرة وتساؤلات في ذاكرة الشاعرة، يشوبهما حنين جارف إلى كل ما فيها، ابتداء من رواد المقاهي الراحلين عنها واحدًا تلو الآخر، كما أشجارها المقطوعة، ومثيلاتها التي لا زالت تنتظر، وزرقة بحرها، وعشاقها المحبطين، وشوارعها المكتظة حينًا والخالية حينًا آخر، والمتسولين، والمشردين والعبثيين، والمجرمين الذين أمعنوا في تدميرها وتهميش روحها.

    وتقول لبيروت:

    غيّروا وجهك تمامًا بما يؤذينا، وها هم لا يزالون يمعنون في تشويهك وهم يصيحون بحبهم لنا من نفس الأمكنة، ويكذبون ويؤلفون… مرة أخرى يحرقونك…

    تحترقين،

    وهم يكذبون ويؤلفون...

    ونحن نراقب الحقيقة وشعبك الذي سيخذلك دومًا ويحبهم كل مرة من جديد، فنقرر الرحيل...

    وفي قصيدة "عن مدينة غير قابلة للحب" تقول:

    مصدومة من الحنين

    إلى كل ما كان

    يتجاوز قدرتي على البقاء...

    تأخذنا حوماني في ديوانها إلى أبعد من الشعر المفتوح على احتمالات ومعانٍ لا تحدّ، إذ أن معظم قصائدها تكتنز أبعادًا إنسانية ووجودية تعكس عبرها سيرورة من العذابات والألم والتجارب الشخصية، تكاد تؤسس في اجتماعها واتصالها لما يشبه أن يكون سيرة خاصة غير مكتملة، تروي فيها الشاعرة مسارات حياتها كامرأة وكأم وكعاشقة، تشكك في الشرائع والأديان والتقاليد الاجتماعية التي تكبّل روحها وخياراتها وحريتها. تغلف قصائد حوماني روح التمرد والرفض تجاه كل ما من شأنه أن يشكّل عائقًا لحريتها الشخصية، فتعكس تصوراتها حول حياة مشتهاة تصبو إليها، وتفترض لها تمثلات وصور هي مزيج من تمنيات وأحلام، يحضر فيها الشوق والفقد والحرمان، إلى جانب الاستسلام للحب كخيار لحياة أقل وحدة وأقل قسوة وأكثر رأفة، إلا أن هذه الحياة المتصورة والمشتهاة تبقى قيد التشكل وفي قيد التمني، وترتسم في سطور أبياتها كرسالة إلى العالم عن معاناة الإنسان المحتكم إلى القوانين التي صاغتها الأديان والمجتمعات، تقول:

    أريد أن أعيش معك

    على سطح كوكب غير مرئي

    حيث يمكن مشاهدة الآلاف فقط من بعيد

    ...

    هل يمكن أن أرمي ذلك الجزء من ذاكرتي من النافذة

    أربطه بحبل وأطلقه في الفضاء

    كي أتوقف عن البكاء

    الزمن بحجم كف اليد

    مفتوح على اللامعنى...

    يجوز لنا أن نعجز أحيانًا

    ما لا يجوز هو عدم القدرة على الاستغناء

    الاحتفاظ بكل الطرقات، بكل التناقضات

    ...

    يجوز أن يكون قليل من النسيان

    لكن أن نترك المرأة تعاني وحدها

    في كتاب مقدس

    لا شيء محزن بعد

    ...

    مع ولدين

    لا أعرف ماذا يمكن أن يفعل قلبي بهما

    لكي أمضي وحيدة...
    يبدو كل ما في المدينة مثار حيرة وتساؤلات في ذاكرة الشاعرة، يشوبهما حنين جارف إلى كل ما فيها، ابتداء من رواد المقاهي الراحلين عنها واحدًا تلو الآخر، كما أشجارها المقطوعة، ومثيلاتها التي لا زالت تنتظر
    وتستحضر حوماني الأشجار كعنصر انتماء للمدينة، وتقارن عبر هذا الاستحضار بين بيروت ومونتريال... حيّزان يعكسان حقائق فيهما من الاختلاف ما يجعل الفروقات بين هاتين المدينتين لا تحصى، إن من حيث الحياة في كل منهما، أو من حيث الطبيعة. فبيروت مدينة دافئة، رغم أن أشجارها تقطع كل يوم الأمر الذي يفقد استمرارية الانتماء إليها، تقابلها مونتريال التي تبدو رغم حداثتها مدينة غير قابلة للحياة، وإن كانت الشاعرة تأمل من محاولتها زراعة شجرة على ضفة سان لوران، أن تؤسس مكانًا تنتمي إليه، كما تنتمي الطيور المهاجرة إلى أشجار بعينها، إلا أن مونتريال تبقى مدينة غير قابلة للانتماء، إنما نموذجًا للمدن القاسية والباردة، فلهذه المدينة صورة واحدة للنهر والأرض والشوارع والناس هي صورة الجليد الذي يغلف كل ما فيها، وتتجلى عبر هذه الصور عذابات الوحدة والهجر والعزلة التي لا تنفك صاحبة "أشجار غير آمنة" أن تطرح أسئلتها المحيرة حولها:

    أحاول أن أزرع شجرة

    هنا على ضفة نهر سان لوران

    في مقاطعة شمالية باردة

    تنتمي لها

    كل الطيور المهاجرة عن أوطانها غير السعيدة...

    زرعت في الماضي شجرة

    في مكان يسهل قطع الأشجار فيه...

    ...

    حيث كانوا يصفقون لقطع الأشجار

    كانت شجرة تحاول أن تقتل نفسها

    وتقول:

    أجرّب أن أموت بنفسي

    دون أن أرتجف...

    ...

    الاستعداد لزمن آخر

    الارتباط بما هو حقيقي

    هل نحن مستعدون فعلًا لذلك...

    ...

    كل شيء مرّ كما لو أن أمرًا لم يحصل

    المارة

    السيارات

    المحال التجارية

    مدينة برائحة الجنازة

    وحيث الموت يمضي

    دون ارتعاشة قلب إنسان

    ...

    المدينة غير قابلة للحب

    يحدث أن تكون في مدينة غير قابلة للحب

    فقط لإحداث الألم

    إغواء كثير للعزلة...






    أيضًا حب وعزلة

    عزلة لها قلب عار، بهذا المعنى تعكس حوماني ما يمكن أن يوضح سطوع وعراء عزلتها التي ارتضتها طوعًا بعيدًا من كل قساوة العالم الذي اختبرت فيه ألوانًا من العيش، احتلت فيه الخسارات ما يمكن أن يشكّل أعمارًا بطولها. وهذه الخسارات هي خسارات الحب التي لا زالت آثارها وتمثلاتها حاضرة في الوجدان. هكذا تختار الشاعرة العزلة العارية مساحة نائية لحب متصور يخفف من قسوة وبرودة وحدتها، وتصيغ في هذه العزلة ذات المساحات الجليدية الشاسعة أشكالًا لهذا الحب ورائحة ومفردات وتمثلات وجسدًا وأمنيات تبرز في معظمها فقدًا عميقًا لكل ما يشكل وصلًا إنسانيًا مع الآخر، ومنه الوصل مع حب وحبيب. هكذا تتجلى مع هذا التصور عزلة أخرى ليست أقل قسوة من العزلة نفسها.

    عزلة لها قلب عار

    تسعل في الليل



    فلنسرع في ابتكار إشارات حب جديدة

    من يعرف عن رائحة الحب

    تتحرك في أسفل القلب

    تريد أن تكبو على ركبتيك إلى الأبد.



    الأرض موحشة بدونك

    لو سألتني...

    ما أكثر الحب في يديك.

    بإمكانها أن تفعل بي ما تشاء.

    ...

    المدينة تنهار في عيني

    وأنا أحبك بحزن هائل

    وبجسدي الحي كله.

    ...

    كائن هش

    يستيقظ باحثًا عن قهوته

    ليزيل بؤسًا راقدًا في قلبه بلا لسان

    يكره الأوزان الشعرية ويحس بلا نهاية القلق

    وأنه لا يتحمل خسارة الأشياء الحبيبة إلى قلبه

    أريد أن تكون عزلتي معك

    إلى الأبد.

    تطرح حوماني أسئلتها حول الأديان والإله ومعنى الوجود، وتعكس فيها تعدد الطوائف التي قدمت نفسها ظلًا لله على الأرض. ومع هذا التعدد، تتسلل الشكوك حول العدالة الاجتماعية، ويزداد ألم البشر، وتكثر الجثث، والقتل والخراب، بل إن الإصلاح يبدو مهمة مستحيلة في بلد تتعدد حروبه وتقف حائلًا في استمرار ما هو بديهي في الحياة نفسها، حائلًا بوجه العيش، حائلًا بوجه الحب الذي تمر سنين العمر بدونه.

    تبدو أفكار حوماني حول عدالة السماء والوجود مثار تشتت، وكأنها كائن برأسين، كل رأس يطل على العالم بأسئلة مختلفة، بل متناقضة، تولد الاكتئاب للمؤمنين وغير المؤمنين على السواء، فالأسئلة والشكوك كلها تبقى مفتوحة، ومنها ما يبقى بلا أجوبة، خصوصًا أن التضرع للآلهة لم يجد صداه بعد.

    بدأت برؤية أشياء لم أرها من قبل

    العلاقة بين الموت والولادة من جديد



    الطريقة الوحيدة للصفح عن الإله والآخرين

    التخلي

    كما يتخلى الإله عنا وقت الألم



    ونتفق مع السماء أن تواصل أخطاءها

    ..

    إعادة ترتيب الرؤوس في الخزانة

    ..

    العبور فوق الجثث

    السنوات القادمة غير القابلة للإصلاح

    الأديان وتعدد الآلهة

    الأسئلة

    والصامتون

    الذين يقحمون أنفسهم بي

    وأنا أريد أن أضع حدًا

    لكل هذا الانتظار

    ..

    تنام القبور في ضيعتي

    اغفر لي أيها الخالق العظيم

    تلك المرات التي كرهت أديانك كلها

    وتساءلت لماذا جئت بأعداد مختلفة منها



    الرغبة في اللاشيء

    في الشعور بالخفة من الأفكار الكبيرة التي تقلقنا

    الخوف العميق، الشكوكية، والإله نفسه
    تبدو أفكار حوماني حول عدالة السماء والوجود مثار تشتت، وكأنها كائن برأسين، كل رأس يطل على العالم بأسئلة مختلفة، بل متناقضة
    افتقاد المكان والأصدقاء والزمن، ثلاثية تتلازم في عدد يسير من قصائد الشاعرة التي تفصح عبرها عن حساسية عالية تجاه كل ما مضى، فالزمن هو ماضي حياتها في المدينة، والمكان هو بيروت، أما الأصدقاء والأحبة فهم أكثر من يتركون أثرًا في الروح بل إنهم الذاكرة الأجمل والأعمق والأبقى، شعراء وكتاب تعترف لهم بوقع أفكارهم وأشعارهم وكتاباتهم في حياتها: "إلى أولئك الذين قرأتهم فلم يتركوني بعدها…".

    يتلازم افتقاد ماضي الحياة التي عاشتها حوماني في بيروت مع خوفها من خسارة عالم بكامله بدا لها عن بُعد أنه يتلاشى يومًا بعد يوم، فلأن الغياب قد يطول، ولأن الأصدقاء والأحبة يرحلون واحدًا تلو الآخر، تنسج لهم الشاعرة في قصائدها عالمًا بديلًا لكل منهم تعكس فيه وقع الشوق والألم والحنين والتمنيات تجاه كل هذا العالم المليء بالخسارات الشخصية، تقول حوماني:

    ماذا لو جئت إلى هذا العالم

    دون أن أشعر بالخسارة

    لأن الاشياء الجميلة لا تتكرر

    ولأن الموت يمشي بمحاذاتنا

    ماذا لو كان بإمكاني

    أن أسمع صوتك...

    ولا يجيء هذا الغياب المحتّم.

    ماذا لو لم أجدك ذات يوم

    تشرب قهوتك على طاولة

    جلس عليها كل شعراء العالم.

    ماذا لو لم أقدر بعد

    على الغياب

    على الحنين

    على ضربات القلب المتسارعة

    والوحدة

    في الثانية ليلًا.



    الأصدقاء الذين سقطوا

    يمكن تحويلهم إلى مصباح ليلي

    ….

    أصدقائي الذين يموتون الواحد تلو الآخر

    مثل جنازة طويلة من الحكايات الحزينة

    يتركون لي أمكنتهم الفارغة

    توقفت عن الحفر فيها لأجل حياة أخرى

    أقل ألمًا...
    • عنوان الكتاب: عزيزتي بيروت… هنا مونتريال
    • المؤلف: دارين حوماني
يعمل...
X