"قصائد العمى": نصوص شاعرة عاملة وربة منزل
حسين بن حمزة
17 مارس 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
في كتابها الجديد "قصائد العمى" (منشورات المتوسط)، تكتب الشاعرة التونسية لمياء مقدم ما يمكن أن نسميه نصوصًا على هامش الشعر. إنها أعمال كتابية تحدث في مساحات شاغرة بجوار الشعر، ولكن صاحبة هذه الأعمال تصنع لها استطرادات وإضافات يمكنها أن تقفز بهذه النصوص إلى متن الشعر، وتحاول الانتماء إليه. كأنها تكتب سطورًا ومقاطع عجزت عن اللحاق بالشعر، فبقيت في حوزتها، وها هي تعرّضها لكتابة ثانية، أو تمنحها حياة ثانية. حياة تخصها وحدها بعدما انقطعت بها السبل عن العيش في حياة القصائد العادية. يمكن أن نسمي ذلك "ساعات عمل إضافية" تشبه تلك التي تُضاف إلى ساعات العمل اليومي والرسمية. مناوبة إضافية خارج الدوام الشعري المعتاد.
والحقيقة أن المرأة الحاضرة في أغلب نصوص الكتاب هي امرأة عاملة تركض لإنجاز مهامها في العمل ومهامها في المنزل. إنها أم وموظفة وربة منزل مع ساعات عمل إضافية لا نهاية لها. نقرأ هذه الصفات واضحة ومواربة، في سطور عديدة. امرأة عاملة وشاعرة تحاول أن تمزج يوميات عملها وحياتها الشخصية مع الكتابة. تستحسنُ ذلك، فتكتب كتابًا كاملًا تحتفل فيه بهذا المزيج: "أنظف الثلاجة ثم أجلس لأكتب كم سطرًا في قصيدتي، في الأثناء أسمع صفير الغسالة، فأترك النص وأذهب لأخرج الملابس المغسولة وأضعها في المجفف، أعود للقصيدة أقرؤها، أعدل كلمات هنا وهناك وأفصل بين سطرين بنجمة، ثم أدخل الحمام وآخذ الهاتف معي، هناك أضيف جملة بدت لي في غاية الجمال. أخرج للتبضع وفي الطريق إلى السوبرماركت أعدل عن الجملة التي كتبتها في الحمام، لأنها تبدو ركيكة تحت الشمس.
أتساءل أمام الرفوف: ماذا سنأكل الليلة؟ أمسك الرّز، ثم أعيده إلى مكانه، لا حاجة لطبخة معقدة هذا المساء. القصيدة تتعثر في منتصفها، لكن الثلاجة مليئة بالأكل وأرضية المطبخ تلمع. هذا يوم ناجح أقول في نفسي، وأصحح الهمزة في ’أقرأ’".
ربما لهذا تبدو هذه النصوص معفاة من الشروط الضاغطة للشعر، ومن قلق التلقّي، ومعفاة من التسمية أيضًا، إذْ ما هي هذه المقاطع المنجزة على سطور كاملة، والأشبه بكتلة، ولماذا تتجاور مع كتابات منجزة على سطور متتالية تحت بعضها كما هي حال القصائد العادية! ولماذا تخلط الشاعرة فيها بين عناصر وأشياء عديدة يصعب غالبًا جمعها في مساحة واحدة؟
ليس القصد من هذه التساؤلات نفي الشعرية عن هذه النصوص، بل الإشارة إلى أن ثمة إمكانيات أخرى لكتابة الشعر، بغض النظر عن الشكل الذي سيحتضن هذا الشعر، وبغض النظر عن تسميته "قصيدة" أم لا. بكلمة أخرى، ما نقرأه في الكتاب هو محاولة لكتابة الشعر مع هوامشه المحذوفة عادة، ومع استرسالاته وزياداته التي تخضع للبتر والحذف في القصائد العادية عمومًا. أغلب ما نقرأه في الكتاب هو نثر. لا تبذل الشاعرة جهدًا في تحويله إلى شعر معترف به، ولا يهمها الأمر أيضًا. إنها تريد أن تكتب ما تكتبه، وأن يُقال عنه إنه شعر، من دون أن تكون قد بذلت فيه ما يجعل القارئ يصدق أنه شعر. لعل قوة هذه النصوص كامنة هنا، في إعراضها عن أن تكون شعرًا جاهزًا، في قلة اكتراثها بالحصول على تصديق وختم فوري يصنع لها انتماءً سهلًا إلى ما يُكتب من شعر. لا... الشاعرة مقيمة الآن في أرض كتابية أخرى. قلنا إنها ربما على هامش الشعر، في المساحات الداشرة وغير المحروثة حوله. مساحات غير مُعتنى بها ولا تزال تنمو فيها أعشاب هوجاء لم تُقلّمها مقصات الشعر ومعاييره المتداولة. إنها تتعمد أن تتخلف عن ركب الشعر وعن مسار القصيدة، لكي تكتب شيئًا يحتفظ في داخله بالقوة العفوية والفطرية للشعر، ولكنه يأخذ راحته في ذكر تفاصيل وحكايات ونثريات لا ينبغي، أو لا يُحبَّذ، أن تكون موجودة في الشعر. إنها كتابة متخلصة من الكثافة والحذف والاقتصاد في عدد الكلمات. كتابة تبدو عفوية وتلقائية تقريبًا، ولكنها تجرّ معها شيئًا يلمع هنا وهناك بين السطور، شيئًا ربما هو الشعر نفسه وقد تخفّى واندس في طيات وغضون هذه الكتابة المرتاحة من حمّى التكثيف الشعري المعتادة. بطريقة ما، يمكن القول إن ما نقرأه هو الشعر مع مسوداته، مع مواده الخام. لقد تركت مذاقات ونكهات وعناصر من تلك المواد لتختلط بالشعر وترافقه في النسخة النهائية التي تصل إلى القارئ.
"الحياة قاسية، لن تصبح شعرًا أبدًا"، تقول الشاعرة في أحد المقاطع. جملة يمكن أن تكون بيانًا توضيحيًا فاتنًا لما نقرأه في الكتاب. الحياة هنا ـ كما الشعر ـ لن يكون لها أن تكون شعرًا صافيًا وخاليًا من أي إضافات. إنها حياة قاسية ولن يكون عادلًا أن يتم تنظيفها من دسم الآلام وآثار الكدمات، وأن يتم تقديمها نظيفة ومعقمة إلى القارئ.
داخل هذا السياق، يمكننا إعادة فحص ما قلناه عن أن نصوص الكتاب مكتوبة على هامش الشعر. ما نقرأه هو بالأحرى جرجرة قدم الشعر إلى الهامش وإلى الأراضي المهملة والمتروكة، والتي تحتاج إلى عمل شاق لجعلها صالحة لسكن الشعر والمجاز والخيال الشعري. ليس المقصود هنا تحويل ما ليس شعرًا إلى شعر، بل أن يرتاح الشعر قليلًا من ضغط الكثافة والمحو، من التصنيع والحرفية، لصالح الدفقة العفوية. ترْكُ حبل الكتابة على الغارب قليلًا، وإتاحة الفرصة للسرد والحكاية وحتى اليوميات العادية أن تجد مكانًا لها تحت الضوء. الشاعرة نفسها تقول هذا علانية وبصراحة: "ليس هذا شعرًا جيدًا، لكنه أفضل ما أستطيع كتابته الآن. لاحظتم ربما أن جمله قصيرة وفقراته متقطعة. ذلك أنني أكتب فقط في أوقات الفراغ، وما أقصده بأوقات الفراغ هي تلك الدقائق والساعات القليلة التي أقضيها في الحمام والبانيو والأكل والمشي والنوم. هل يكتب النائم؟ نعم، قصائد أفضل من هذه ويطعمها للغربان.
تستطيعون أن تسمّوها قصائد الفراغ، وستكون هذه تسمية عادلة، تقرؤونها في أوقات فراغكم، التي أتمنى من كل قلبي أن تقضوها في صنع شيء أفضل، كالحديث مع أحبتكم وملاعبة أطفالكم، إذ بربكم من يطيق أن يكون في بيته رجل جالس يقرأ في الحمام؟".
في المقابل، سنقرأ قصائد صافية أيضًا، وربما تحصل هذه القصائد على جودة إضافية لأنها تأتي في سياق نثري، مع نصوص تختلط فيها الكتابة مع مسوداتها، تبزغ فجأة وتمنح القارئ ما يعرف مُسبقًا أنه شعر:
"دائمًا سيأتي من يخبرك عن الحياة
عن الحب
عن الصداقة
لكن لا أحد سيحدثك
عن الغريب الذي يسكن قبالة بيتك
تحركاته الليلية
ظلاله التي تنعكس على يديك وملعقتك
لا أحد سيشرح لك لماذا تشعر بالوحدة
وتوشك أن تبكي
عندما أضواؤه تنطفئ".
حسين بن حمزة
17 مارس 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
في كتابها الجديد "قصائد العمى" (منشورات المتوسط)، تكتب الشاعرة التونسية لمياء مقدم ما يمكن أن نسميه نصوصًا على هامش الشعر. إنها أعمال كتابية تحدث في مساحات شاغرة بجوار الشعر، ولكن صاحبة هذه الأعمال تصنع لها استطرادات وإضافات يمكنها أن تقفز بهذه النصوص إلى متن الشعر، وتحاول الانتماء إليه. كأنها تكتب سطورًا ومقاطع عجزت عن اللحاق بالشعر، فبقيت في حوزتها، وها هي تعرّضها لكتابة ثانية، أو تمنحها حياة ثانية. حياة تخصها وحدها بعدما انقطعت بها السبل عن العيش في حياة القصائد العادية. يمكن أن نسمي ذلك "ساعات عمل إضافية" تشبه تلك التي تُضاف إلى ساعات العمل اليومي والرسمية. مناوبة إضافية خارج الدوام الشعري المعتاد.
والحقيقة أن المرأة الحاضرة في أغلب نصوص الكتاب هي امرأة عاملة تركض لإنجاز مهامها في العمل ومهامها في المنزل. إنها أم وموظفة وربة منزل مع ساعات عمل إضافية لا نهاية لها. نقرأ هذه الصفات واضحة ومواربة، في سطور عديدة. امرأة عاملة وشاعرة تحاول أن تمزج يوميات عملها وحياتها الشخصية مع الكتابة. تستحسنُ ذلك، فتكتب كتابًا كاملًا تحتفل فيه بهذا المزيج: "أنظف الثلاجة ثم أجلس لأكتب كم سطرًا في قصيدتي، في الأثناء أسمع صفير الغسالة، فأترك النص وأذهب لأخرج الملابس المغسولة وأضعها في المجفف، أعود للقصيدة أقرؤها، أعدل كلمات هنا وهناك وأفصل بين سطرين بنجمة، ثم أدخل الحمام وآخذ الهاتف معي، هناك أضيف جملة بدت لي في غاية الجمال. أخرج للتبضع وفي الطريق إلى السوبرماركت أعدل عن الجملة التي كتبتها في الحمام، لأنها تبدو ركيكة تحت الشمس.
أتساءل أمام الرفوف: ماذا سنأكل الليلة؟ أمسك الرّز، ثم أعيده إلى مكانه، لا حاجة لطبخة معقدة هذا المساء. القصيدة تتعثر في منتصفها، لكن الثلاجة مليئة بالأكل وأرضية المطبخ تلمع. هذا يوم ناجح أقول في نفسي، وأصحح الهمزة في ’أقرأ’".
"تبدو هذه النصوص معفاة من الشروط الضاغطة للشعر، ومن قلق التلقّي، ومعفاة من التسمية أيضًا" |
ليس القصد من هذه التساؤلات نفي الشعرية عن هذه النصوص، بل الإشارة إلى أن ثمة إمكانيات أخرى لكتابة الشعر، بغض النظر عن الشكل الذي سيحتضن هذا الشعر، وبغض النظر عن تسميته "قصيدة" أم لا. بكلمة أخرى، ما نقرأه في الكتاب هو محاولة لكتابة الشعر مع هوامشه المحذوفة عادة، ومع استرسالاته وزياداته التي تخضع للبتر والحذف في القصائد العادية عمومًا. أغلب ما نقرأه في الكتاب هو نثر. لا تبذل الشاعرة جهدًا في تحويله إلى شعر معترف به، ولا يهمها الأمر أيضًا. إنها تريد أن تكتب ما تكتبه، وأن يُقال عنه إنه شعر، من دون أن تكون قد بذلت فيه ما يجعل القارئ يصدق أنه شعر. لعل قوة هذه النصوص كامنة هنا، في إعراضها عن أن تكون شعرًا جاهزًا، في قلة اكتراثها بالحصول على تصديق وختم فوري يصنع لها انتماءً سهلًا إلى ما يُكتب من شعر. لا... الشاعرة مقيمة الآن في أرض كتابية أخرى. قلنا إنها ربما على هامش الشعر، في المساحات الداشرة وغير المحروثة حوله. مساحات غير مُعتنى بها ولا تزال تنمو فيها أعشاب هوجاء لم تُقلّمها مقصات الشعر ومعاييره المتداولة. إنها تتعمد أن تتخلف عن ركب الشعر وعن مسار القصيدة، لكي تكتب شيئًا يحتفظ في داخله بالقوة العفوية والفطرية للشعر، ولكنه يأخذ راحته في ذكر تفاصيل وحكايات ونثريات لا ينبغي، أو لا يُحبَّذ، أن تكون موجودة في الشعر. إنها كتابة متخلصة من الكثافة والحذف والاقتصاد في عدد الكلمات. كتابة تبدو عفوية وتلقائية تقريبًا، ولكنها تجرّ معها شيئًا يلمع هنا وهناك بين السطور، شيئًا ربما هو الشعر نفسه وقد تخفّى واندس في طيات وغضون هذه الكتابة المرتاحة من حمّى التكثيف الشعري المعتادة. بطريقة ما، يمكن القول إن ما نقرأه هو الشعر مع مسوداته، مع مواده الخام. لقد تركت مذاقات ونكهات وعناصر من تلك المواد لتختلط بالشعر وترافقه في النسخة النهائية التي تصل إلى القارئ.
"الحياة قاسية، لن تصبح شعرًا أبدًا"، تقول الشاعرة في أحد المقاطع. جملة يمكن أن تكون بيانًا توضيحيًا فاتنًا لما نقرأه في الكتاب. الحياة هنا ـ كما الشعر ـ لن يكون لها أن تكون شعرًا صافيًا وخاليًا من أي إضافات. إنها حياة قاسية ولن يكون عادلًا أن يتم تنظيفها من دسم الآلام وآثار الكدمات، وأن يتم تقديمها نظيفة ومعقمة إلى القارئ.
داخل هذا السياق، يمكننا إعادة فحص ما قلناه عن أن نصوص الكتاب مكتوبة على هامش الشعر. ما نقرأه هو بالأحرى جرجرة قدم الشعر إلى الهامش وإلى الأراضي المهملة والمتروكة، والتي تحتاج إلى عمل شاق لجعلها صالحة لسكن الشعر والمجاز والخيال الشعري. ليس المقصود هنا تحويل ما ليس شعرًا إلى شعر، بل أن يرتاح الشعر قليلًا من ضغط الكثافة والمحو، من التصنيع والحرفية، لصالح الدفقة العفوية. ترْكُ حبل الكتابة على الغارب قليلًا، وإتاحة الفرصة للسرد والحكاية وحتى اليوميات العادية أن تجد مكانًا لها تحت الضوء. الشاعرة نفسها تقول هذا علانية وبصراحة: "ليس هذا شعرًا جيدًا، لكنه أفضل ما أستطيع كتابته الآن. لاحظتم ربما أن جمله قصيرة وفقراته متقطعة. ذلك أنني أكتب فقط في أوقات الفراغ، وما أقصده بأوقات الفراغ هي تلك الدقائق والساعات القليلة التي أقضيها في الحمام والبانيو والأكل والمشي والنوم. هل يكتب النائم؟ نعم، قصائد أفضل من هذه ويطعمها للغربان.
تستطيعون أن تسمّوها قصائد الفراغ، وستكون هذه تسمية عادلة، تقرؤونها في أوقات فراغكم، التي أتمنى من كل قلبي أن تقضوها في صنع شيء أفضل، كالحديث مع أحبتكم وملاعبة أطفالكم، إذ بربكم من يطيق أن يكون في بيته رجل جالس يقرأ في الحمام؟".
في المقابل، سنقرأ قصائد صافية أيضًا، وربما تحصل هذه القصائد على جودة إضافية لأنها تأتي في سياق نثري، مع نصوص تختلط فيها الكتابة مع مسوداتها، تبزغ فجأة وتمنح القارئ ما يعرف مُسبقًا أنه شعر:
"دائمًا سيأتي من يخبرك عن الحياة
عن الحب
عن الصداقة
لكن لا أحد سيحدثك
عن الغريب الذي يسكن قبالة بيتك
تحركاته الليلية
ظلاله التي تنعكس على يديك وملعقتك
لا أحد سيشرح لك لماذا تشعر بالوحدة
وتوشك أن تبكي
عندما أضواؤه تنطفئ".
- عنوان الكتاب: قصائد العمى
- المؤلف: لمياء المقدم