"ملحمة الشعر الفرنسي الجديد" لبول شاوول: أين التجارب الجديدة؟
إسكندر حبش
14 مارس 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
حين صدر "كتاب الشعر الفرنسي الحديث 1900 – 1980" (بطبعته الأولى عام 1980 عن "دار الطليعة" في بيروت)، للشاعر اللبناني بول شاوول، شكّل الكتاب يومها "حدثًا ما" في المشهد الشعري العربي، بكونه من أوائل المختارات الشعرية الفرنسية الشاملة التي تخاطب القارئ العربي. والمفارقة، أنه على الرغم من حضور مجلة "شعر" – السابق على تلك الفترة التي ظهر فيها هذا الكتاب بالعربية – وترجمات الشعر الفرنسي التي امتدت على صفحاتها، من أعدادها الأولى إلى عددها الأخير، لم تصدر أي أنطولوجيا شعرية عن هذا الشعر، بل نجد أن غالبية المختارات كانت من الشعر الأميركي (توفيق صايغ، يوسف الخال...) أو من الشعر الإنكليزي (ما صدر في العراق مثلًا). فالسؤال الذي يطرح فعلًا، هل كانت تجربة الحداثة العربية، في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، تستند فعلًا إلى الحداثة الشعرية الفرنسية (كما بدا في لبنان) أم كانت تستند الى الحداثة الشعرية الأنغلو – ساكسونية بالدرجة الأولى؟ (والتي بدأت في العراق). أطرح السؤال، وفي بالي أيضًا، مقدمة ديوان "هتاف الأودية" لأمين الريحاني الصادر في عام 1905، حيث نقرأ فيها "مديحه" للشاعر الأميركي والت ويتمان، الذي يعتبره مثالًا للشعر الذي يجب أن يكتبه الشعراء العرب.
في أي حال، ليست الغاية من هذه المقالة، العودة إلى "مصدر" تأثيرات الحداثة الشعرية العربية، بل – بالطبع – الإطلالة على كتاب بول شاوول، بعد صدور جزء جديد (إذا جاز القول) بعنوان "ملحمة الشعر الفرنسي الجديد 1960 – 2016"، عن منشورات "الجمل".
في الكتاب الأول (1900 – 1980)، يبدأ شاوول من مرحلة ما "بعد شحوب الرمزية" (التعبير له في مقدمة المجلد الأول) التي وجدت صداها الأعلى مع مالارمي، لتأتي أول قصيدة في الكتاب لغيوم أبولينير، وتتتالى بعده الأسماء المتنوعة والمتعددة، لتأخذنا في رحلة نطل منها على أبرز الأسماء التي صاغت المشهد الشعري في بلاد الفرنجة، لنصل أخيرًا إلى ملحق، يتضمن بعض أبرز الشعراء الفرنكوفونيين العرب (19 شاعرًا). بهذا المعنى، لم يعتبر بول شاوول الأوروبيين كشعراء فرنكوفونيين، إذ يضع مثلًا فيليب جاكوتيه وجاك شيسيكس (من سويسرا) ونورج (بلجيكا) وغيرهم، ضمن سياق الشعر الفرنسي. (وفي الكتاب الحالي، نيمرود، بكونه أيضًا شاعرًا فرنسيًا لا فرنكوفونيًا، وحتى سيرج باي، وهو ابن الهجرة الإسبانية التي استوطنت في مدينة تولوز). هذه نظرة خاصة لمعدّ المختارات ومترجمها. إذ كلّ أنطولوجيا تملك رؤيتها هي، لا رؤيتنا نحن. لكن ذلك، لا يمنع أن نطرح السؤال، حول هذا التقسيم.
ما ميّز هذه المختارات مقدمتها، التي تحاول أن تؤطر – على الأقل تاريخيًا – تيّارات الشعر الفرنسي، وفق الحقب ووفق المدارس والمناخات، لتصل إلى لوحة شبه بانورامية، وإن كانت شبه كافية ووافية. أقول شبه، لأن ثمة الكثير من الأسماء قد غابت عن ذاك الكتاب. أحاول أن أبرر هذا الغياب بـ "قلة المصادر" يومها: بمعنى علينا أن لا ننسى أن الفترة التي أعدّ فيها الكتاب وصدر فيها، كانت هناك حرب طاحنة في المدينة، وبالتأكيد، لم تكن الكتب والمجلات تصل إليها، ولم يكن هناك "مواقع على النت" لتكتشف أشياء لا تعرفها. ومع ذلك، تخبرنا المقدمة عن هذا الغياب. ما من إطلالة مثلًا على مجلة "دفاتر الجنوب" (Les cahiers du Sud) ولا عن محركها الفعلي جان تورتيل ("يستدركه" شاوول ويترجم له في المختارات الجديدة) ولا عن تلك الكوكبة التي دارت في فلك هذه المجلة: جيرار أرسوغيل، جوزيف غوغليمي، جان جاك فيتون (يحضر في هذا الكتاب أيضًا)، إلى آخرين، الذين شكلوا مع غيرهم، لاحقًا، جيلًا جديدًا من مجلة "أكسيون بويتيك" (Action Poetique).
بالتأكيد ليست غايتي الدخول في لعبة الأسماء، فكما أسلفت لكلّ مختارات رؤيتها التي تعمل عليها، لذا لا يمكن أن نجنح هنا إلى أنطولوجيا شاملة، بل هو كتاب، يحاول أن يقدّم أوسع شريحة من الأسماء. ولن أقول بأنها كلها أسماء فاعلة، إذ تجاورت أسماء شعراء "عاديين"، إلى جانب أسماء شعراء غيّروا فعلًا في المشهد الشعري: لغة وكتابة ومناخًا ورؤى. (وبالطبع لا يتحمل الناقل مسؤولية كتاباتهم، وحتى خياراته إلى حدّ ما، حين تكون الغاية، السعي لتعريف هذه القارة الكبيرة). لذا أجدني منساقًا إلى معاودة السؤال: ما كانت عليه الرؤيا والرؤية التي سار عليهما بول شاوول؟ لا أعتقد أننا نستطيع تحميل الكتاب ما لا يدّعيه أصلًا. إذ لم يدّع أنه يحاول "أنطولوجيا" شاملة، بل محاولة تعريف واسعة كما ذكرت قبل قليل.
هذه الغيابات التي كانت موجودة في الطبعة الأولى، حاول الشاعر اللبناني استدراكها في الطبعة الثانية التي صدرت عن "دار الفارابي" في بيروت عام 1987. وحملت عنوان "كتاب الشعر الفرنسي الحديث 1900 – 1985". إذَا، ثمة بعض الإضافات على الطبعة الأولى. الفترة الزمنية أيضًا امتدت لخمس سنوات إضافية. دخلت أسماء شعراء جديدة، وإن لم تكن كثيرة. لكن ما لم يصبه التحديث: المقدمة التي بقيت على حالها. برأيي كان يستحق هذا الجهد الكبير، أن يعاد النظر فيه، بمعنى أن يحظى بـــ (Update - تحديث – ما، فيما لو استعرنا كلمة من مفرداتنا الجديدة التي دخلت إلى حياتنا منذ سنوات قليلة). نعم هي سنوات قليلة، لكن الحالة الشعرية، الفرنسية، متسارعة بشكل كبير: أقصد ثمة مجلات عديدة توقفت في تلك الفترة وصدر غيرها الجديد والكثير. على سبيل المثال مجلة (Poesie 1) – عادت إلى الصدور في نهاية تسعينيات القرن الماضي، بعد أن اندمجت مع "Vagabondages" في مجلة واحدة. أذكر هذه المجلة، لأنها تشكل رافدًا مهمًا في كتاب بول شاوول عن الشعر الفرنسي. متابع هذا الشعر يمكن له أن يؤكد ذلك (وإن كانت بالطبع لا تشكل المصدر الوحيد). بالإضافة إلى أن أسماء كثيرة لم تنشر إلا في هذه المجلة (وفي مختارات صدرت في تلك البلاد، كما بالطبع في دواوين خاصة، على سبيل المثال، دانيال بيغا، وجان أوريزيه، قبل أن يؤسس "Le Cherche Midi Editeur").
جاءت إذًا الطبعة الثانية، أوسع من سابقتها، لكنها أيضًا لم تخرج عن مفهومها. بقي كتاب الشعر الفرنسي، يملك هذه الرغبة: تقديم أوسع شريحة من الشعر والشعراء، ضمن سياقاته التاريخية والثقافية المتعددة. لذا هل يمكن اعتبار المجلد الثاني الذي صدر حديثًا بعنوان "ملحمة الشعر الفرنسي الجديد" تكملة له؟ السؤال عينه مطروح من قبل شاوول الذي يجيب عنه بالقول (ص 13، المقدمة): "ونظن، أن هذا الجزء الثاني من الشعر الفرنسي يكمل إلى حدّ كبير الجزء الأول الذي صدر في الثمانينيات بعنوان "كتاب الشعر الفرنسي 1900 – 1985"... ويكمل: "هل يعني أن هذا الجزء الجديد يشكل قطيعة عمودية مع إرثه السابق؟ نعم ولا. / نعم، لأنه عبر بحرياته عن تجاربه، عن تجريبيته. ولا، لأن ما من جديد مطلقًا تحت الشمس، فما بالك بالشعر: فتواصله ولو منقطعًا، يعبر من خلال ينابيعه الداخلية التي تربطه بعنوان واحد مفتوح إلى ما لا نهاية، وهو الشعر".
بالتأكيد، يدخلنا هذا المقطع إلى المفهوم الذي عمل عليه بول شاوول في إعداده لهذه المختارات. يتحدث عن تكملة وقطيعة. التكملة تأتي من الرغبة في الاستمرار بالمشروع. الاستمرار في ملاحقة الشعر الفرنسي بتجلياته وتمظهراته المتنوعة، ليقدم هذه الخارطة المتشعبة. لكن أين القطيعة؟ القطيعة ليست بالعمل، بل في الشعر نفسه. وأقصد الشعر الفرنسي، الذي عرف في هذه السنين الأخيرة، تجارب جديدة على كثير اختلاف عمّا سبقه في العقود الماضية. لذا يمكن لنا أن نتساءل، عن المقدمة الجديدة التي كتبها بول شاوول، لكتابه هذا. ينطلق السؤال في كونها بعيدة عن ذاك الإطار التاريخي الذي رسمه في المجلد الأول. هنا، تبدو أكثر ذاتية، بمعنى أنها تتحدث عن خاصية الشاعر اللبناني في قراءة الشعر الفرنسي. وإن كان يستعيد فيها فكرة أن الشعر اليوم، بدون جمهور وكأنه يغرد منفردا وبأن الدواوين الجديدة لا تباع.
لكن قبل أن أحاول مناقشة هذه الفكرة، ثمة سؤال آخر؛ هل حين يقول: [... الجزء الأول الذي صدر في الثمانينيات بعنوان "كتاب الشعر الفرنسي 1900 – 1985"...] يكون قد "تنصل" من الطبعة الأولى التي جاءت حول فترة 1900 – 1980؟ بالتأكيد، ليس لدي أي إجابة، أنا شخصيًا. فقط هو سؤال والإجابة ليست عندي.
لنعد إلى ما قيل عن الشعر. أعتقد أن كلام بول شاوول يصلح فعلًا لكتابه السابق. بمعنى أن ثمة تغييرات كثيرة في هذه الفترة الزمنية. لو نظرنا اليوم فعلًا إلى المشهد الشعري الفرنسي، لما وجدناه "أرمل" إلى هذه الدرجة. ما أريد قوله: قد يتبادر إلى ذهننا، للوهلة الأولى، بأن الساحة الأدبية الفرنسية، ساحة "غير شعرية" – بمعنى سيطرة الرواية والفلسفة والعلوم الاجتماعية، بشكل خاص، عليها – إلا أن الواقع هو غير ذلك بتاتًا، على الرغم من أن الإعلام لا يضيء على ذلك، بحيث نادرًا ما تجد في الصحف والمجلات الكبرى "زوايا" عن الشعر، كما هي الحال عندنا، إذ نجري مقابلات مع الشعراء وتحقيقات حول ظواهر شعرية معينة وترجمات لشعراء الغرب، إلخ.
لكن هناك مجلات مختصة بالشعر، على العكس ممّا نجده عندنا. هذه المجلات الشعرية – وأشعر بأنني محظوظ بسبب أصدقاء يرسلون لي بانتظام آخر الأعداد الصادرة – كما المواقع الإلكترونية الخاصة بالشعر، تفرد مساحات واسعة لكل الظواهر الشعرية الفرنسية (والأوروبية).
قد تكون ملاحظتي الأولى أن الشعر في فرنسا يعيش مرحلة من الازدهار، لم نكن نعدّها في العقود القليلة الماضية، أي منذ سبعينيات القرن العشرين، حين بدأت أصوات تتحدث عن موت الشعر والقصيدة، وعن أن "الشعر غير مقبول" (كما روج دوني روش) وغيرها من تنظيرات "الحداثة" التي جعلت الشعر ينسحب من الحياة العامة.
ما يجري اليوم، أمر مخالف ومختلف: دور النشر الخاصة بالشعر فقط، تزداد باطّراد، حتى أن منشورات "لوسوي" عادت لتصدر سلسلتها الخاصة بالشعر بعد أن توقفت لعقود؛ كذلك نجد أن بعض المجلات الثقافية عادت لتفتح صفحاتها أمام المراجعات النقدية والحوارات. القراءات الشعرية، في العديد من الأماكن – العامة والخاصة – ناهيك عن المهرجانات في جميع المدن، و"سوق الشعر" (في باريس) و"ربيع الشعراء"، وبيوت الشعر التي تلعب دورًا في إعادة الألق لهذا الفن الذي لم يمت (ولا يمكن له أن يموت، فــ "الشعر دومًا هو العبارة الأولى"). وأيضًا المفاجأة: مجلة "ليفر إبدو" تحدثت مؤخرًا عن أن نسخ الشعر المباعة في اضطراد مستمر، إلى الأعلى بالطبع. لذا أسال عما تقوله المقدمة الجديدة نقلًا عن مجلة "إسبري" بأن الشعر لا يباع ويشهد انحسارًا. في أي حال، أعتقد أن هذه الفكرة مستعادة من مقدمة الطبعة الأولى.
أمام ذلك كله، لا بدّ أن تستمر القصيدة في تجاربها الجديدة، وأن لا تتوقف عند نقطة معينة. لكن "المدهش" في الأمر – وقد تكون هذه ملاحظتي الثانية – هذه العودة إلى غنائية، كانت تثير الكثير من التعليقات والخوف، بمعنى الرفض التام لها. ثمة جزء لا يستهان به من شعر اليوم، الفرنسي، عاد إلى غنائية عالية ومنهم من عاد أيضًا إلى الوزن الكلاسيكي، ليبتعد عن التجارب اللغوية الصافية والذهنية. في أي حال، يمكن لنا أن نجد الشعر في كلّ مكان ضمن "الشعرية"، التي يعود إليها العديد من الشعراء، والشاعرات أيضًا، وإذا قلت شاعرات، فليس لأفصل بين نوعيّ كتابة، بل لأشير إلى ظاهرة حقيقية انتشرت في السنوات الأخيرة: علو الصوت النسائي المتميز في القصيدة الفرنسية؛ سأكتفي بذكر اسم فاليري روزو، ناتالي كانتان، كامي لوافييه، فلورانس باتزوتو، سيسيل كولون، هيلين بارو، فلورنس تروكميه (صاحبة موقع [Poezibao] المميز جدًا) وغيرهن من شاعرات الأجيال الجديدة (اللاتي يغبن عن "ملحمة الشعر الفرنسي"). حتى أن هناك جيلًا جديدًا يدعى اليوم في فرنسا جيل "الإنستغرام"، أي الذي بدأ الكتابة على منصات التواصل، وقد لاحظ الناشرون الأصوات المميزة، ليفتحوا لهم أبواب النشر الورقي بسرعة، مثل أماندا غورمان، وسيسيل كولون، وإيفا مارزي، واللائحة تطول. وبالتأكيد هي أصوات مختلفة، أي ثمة تجارب لا تقترب من بعضها. وهذا ما يجعل الشعر صاحب امتياز: أن يبحث كل شاعر(ة) عن صوته الخاص، عن مقتربه، عن فضائه، عن مناخه...
في أي حال، يأتي كتاب "ملحمة الشعر الفرنسي الجديد" ليشكل مع سابقه، محاولة للاقتراب من مناخات قصيدة "تلك البلاد". مناخات متنوعة، لرحلة بدأت سابقًا، وتستمر إلى اليوم. لعلنا نجد فيها ما نبحث عنه.
إسكندر حبش
14 مارس 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
حين صدر "كتاب الشعر الفرنسي الحديث 1900 – 1980" (بطبعته الأولى عام 1980 عن "دار الطليعة" في بيروت)، للشاعر اللبناني بول شاوول، شكّل الكتاب يومها "حدثًا ما" في المشهد الشعري العربي، بكونه من أوائل المختارات الشعرية الفرنسية الشاملة التي تخاطب القارئ العربي. والمفارقة، أنه على الرغم من حضور مجلة "شعر" – السابق على تلك الفترة التي ظهر فيها هذا الكتاب بالعربية – وترجمات الشعر الفرنسي التي امتدت على صفحاتها، من أعدادها الأولى إلى عددها الأخير، لم تصدر أي أنطولوجيا شعرية عن هذا الشعر، بل نجد أن غالبية المختارات كانت من الشعر الأميركي (توفيق صايغ، يوسف الخال...) أو من الشعر الإنكليزي (ما صدر في العراق مثلًا). فالسؤال الذي يطرح فعلًا، هل كانت تجربة الحداثة العربية، في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، تستند فعلًا إلى الحداثة الشعرية الفرنسية (كما بدا في لبنان) أم كانت تستند الى الحداثة الشعرية الأنغلو – ساكسونية بالدرجة الأولى؟ (والتي بدأت في العراق). أطرح السؤال، وفي بالي أيضًا، مقدمة ديوان "هتاف الأودية" لأمين الريحاني الصادر في عام 1905، حيث نقرأ فيها "مديحه" للشاعر الأميركي والت ويتمان، الذي يعتبره مثالًا للشعر الذي يجب أن يكتبه الشعراء العرب.
في أي حال، ليست الغاية من هذه المقالة، العودة إلى "مصدر" تأثيرات الحداثة الشعرية العربية، بل – بالطبع – الإطلالة على كتاب بول شاوول، بعد صدور جزء جديد (إذا جاز القول) بعنوان "ملحمة الشعر الفرنسي الجديد 1960 – 2016"، عن منشورات "الجمل".
في الكتاب الأول (1900 – 1980)، يبدأ شاوول من مرحلة ما "بعد شحوب الرمزية" (التعبير له في مقدمة المجلد الأول) التي وجدت صداها الأعلى مع مالارمي، لتأتي أول قصيدة في الكتاب لغيوم أبولينير، وتتتالى بعده الأسماء المتنوعة والمتعددة، لتأخذنا في رحلة نطل منها على أبرز الأسماء التي صاغت المشهد الشعري في بلاد الفرنجة، لنصل أخيرًا إلى ملحق، يتضمن بعض أبرز الشعراء الفرنكوفونيين العرب (19 شاعرًا). بهذا المعنى، لم يعتبر بول شاوول الأوروبيين كشعراء فرنكوفونيين، إذ يضع مثلًا فيليب جاكوتيه وجاك شيسيكس (من سويسرا) ونورج (بلجيكا) وغيرهم، ضمن سياق الشعر الفرنسي. (وفي الكتاب الحالي، نيمرود، بكونه أيضًا شاعرًا فرنسيًا لا فرنكوفونيًا، وحتى سيرج باي، وهو ابن الهجرة الإسبانية التي استوطنت في مدينة تولوز). هذه نظرة خاصة لمعدّ المختارات ومترجمها. إذ كلّ أنطولوجيا تملك رؤيتها هي، لا رؤيتنا نحن. لكن ذلك، لا يمنع أن نطرح السؤال، حول هذا التقسيم.
ما ميّز هذه المختارات مقدمتها، التي تحاول أن تؤطر – على الأقل تاريخيًا – تيّارات الشعر الفرنسي، وفق الحقب ووفق المدارس والمناخات، لتصل إلى لوحة شبه بانورامية، وإن كانت شبه كافية ووافية. أقول شبه، لأن ثمة الكثير من الأسماء قد غابت عن ذاك الكتاب. أحاول أن أبرر هذا الغياب بـ "قلة المصادر" يومها: بمعنى علينا أن لا ننسى أن الفترة التي أعدّ فيها الكتاب وصدر فيها، كانت هناك حرب طاحنة في المدينة، وبالتأكيد، لم تكن الكتب والمجلات تصل إليها، ولم يكن هناك "مواقع على النت" لتكتشف أشياء لا تعرفها. ومع ذلك، تخبرنا المقدمة عن هذا الغياب. ما من إطلالة مثلًا على مجلة "دفاتر الجنوب" (Les cahiers du Sud) ولا عن محركها الفعلي جان تورتيل ("يستدركه" شاوول ويترجم له في المختارات الجديدة) ولا عن تلك الكوكبة التي دارت في فلك هذه المجلة: جيرار أرسوغيل، جوزيف غوغليمي، جان جاك فيتون (يحضر في هذا الكتاب أيضًا)، إلى آخرين، الذين شكلوا مع غيرهم، لاحقًا، جيلًا جديدًا من مجلة "أكسيون بويتيك" (Action Poetique).
ما يجري اليوم أمر مخالف ومختلف: دور النشر الخاصة بالشعر فقط تزداد باطّراد، حتى أن منشورات "لوسوي" عادت لتصدر سلسلتها الخاصة بالشعر بعد أن توقفت لعقود؛ كذلك نجد أن بعض المجلات الثقافية عادت لتفتح صفحاتها أمام المراجعات النقدية والحوارات |
هذه الغيابات التي كانت موجودة في الطبعة الأولى، حاول الشاعر اللبناني استدراكها في الطبعة الثانية التي صدرت عن "دار الفارابي" في بيروت عام 1987. وحملت عنوان "كتاب الشعر الفرنسي الحديث 1900 – 1985". إذَا، ثمة بعض الإضافات على الطبعة الأولى. الفترة الزمنية أيضًا امتدت لخمس سنوات إضافية. دخلت أسماء شعراء جديدة، وإن لم تكن كثيرة. لكن ما لم يصبه التحديث: المقدمة التي بقيت على حالها. برأيي كان يستحق هذا الجهد الكبير، أن يعاد النظر فيه، بمعنى أن يحظى بـــ (Update - تحديث – ما، فيما لو استعرنا كلمة من مفرداتنا الجديدة التي دخلت إلى حياتنا منذ سنوات قليلة). نعم هي سنوات قليلة، لكن الحالة الشعرية، الفرنسية، متسارعة بشكل كبير: أقصد ثمة مجلات عديدة توقفت في تلك الفترة وصدر غيرها الجديد والكثير. على سبيل المثال مجلة (Poesie 1) – عادت إلى الصدور في نهاية تسعينيات القرن الماضي، بعد أن اندمجت مع "Vagabondages" في مجلة واحدة. أذكر هذه المجلة، لأنها تشكل رافدًا مهمًا في كتاب بول شاوول عن الشعر الفرنسي. متابع هذا الشعر يمكن له أن يؤكد ذلك (وإن كانت بالطبع لا تشكل المصدر الوحيد). بالإضافة إلى أن أسماء كثيرة لم تنشر إلا في هذه المجلة (وفي مختارات صدرت في تلك البلاد، كما بالطبع في دواوين خاصة، على سبيل المثال، دانيال بيغا، وجان أوريزيه، قبل أن يؤسس "Le Cherche Midi Editeur").
أعتقد أن كلام بول شاوول يصلح لكتابه السابق. ثمة تغييرات كثيرة في هذه الفترة الزمنية. لو نظرنا اليوم فعلًا إلى المشهد الشعري الفرنسي، لما وجدناه "أرمل" إلى هذه الدرجة |
بالتأكيد، يدخلنا هذا المقطع إلى المفهوم الذي عمل عليه بول شاوول في إعداده لهذه المختارات. يتحدث عن تكملة وقطيعة. التكملة تأتي من الرغبة في الاستمرار بالمشروع. الاستمرار في ملاحقة الشعر الفرنسي بتجلياته وتمظهراته المتنوعة، ليقدم هذه الخارطة المتشعبة. لكن أين القطيعة؟ القطيعة ليست بالعمل، بل في الشعر نفسه. وأقصد الشعر الفرنسي، الذي عرف في هذه السنين الأخيرة، تجارب جديدة على كثير اختلاف عمّا سبقه في العقود الماضية. لذا يمكن لنا أن نتساءل، عن المقدمة الجديدة التي كتبها بول شاوول، لكتابه هذا. ينطلق السؤال في كونها بعيدة عن ذاك الإطار التاريخي الذي رسمه في المجلد الأول. هنا، تبدو أكثر ذاتية، بمعنى أنها تتحدث عن خاصية الشاعر اللبناني في قراءة الشعر الفرنسي. وإن كان يستعيد فيها فكرة أن الشعر اليوم، بدون جمهور وكأنه يغرد منفردا وبأن الدواوين الجديدة لا تباع.
يأتي كتاب "ملحمة الشعر الفرنسي الجديد" ليشكل مع سابقه، محاولة للاقتراب من مناخات قصيدة "تلك البلاد". مناخات متنوعة، لرحلة بدأت سابقًا، وتستمر إلى اليوم. لعلنا نجد فيها ما نبحث عنه |
لنعد إلى ما قيل عن الشعر. أعتقد أن كلام بول شاوول يصلح فعلًا لكتابه السابق. بمعنى أن ثمة تغييرات كثيرة في هذه الفترة الزمنية. لو نظرنا اليوم فعلًا إلى المشهد الشعري الفرنسي، لما وجدناه "أرمل" إلى هذه الدرجة. ما أريد قوله: قد يتبادر إلى ذهننا، للوهلة الأولى، بأن الساحة الأدبية الفرنسية، ساحة "غير شعرية" – بمعنى سيطرة الرواية والفلسفة والعلوم الاجتماعية، بشكل خاص، عليها – إلا أن الواقع هو غير ذلك بتاتًا، على الرغم من أن الإعلام لا يضيء على ذلك، بحيث نادرًا ما تجد في الصحف والمجلات الكبرى "زوايا" عن الشعر، كما هي الحال عندنا، إذ نجري مقابلات مع الشعراء وتحقيقات حول ظواهر شعرية معينة وترجمات لشعراء الغرب، إلخ.
لكن هناك مجلات مختصة بالشعر، على العكس ممّا نجده عندنا. هذه المجلات الشعرية – وأشعر بأنني محظوظ بسبب أصدقاء يرسلون لي بانتظام آخر الأعداد الصادرة – كما المواقع الإلكترونية الخاصة بالشعر، تفرد مساحات واسعة لكل الظواهر الشعرية الفرنسية (والأوروبية).
قد تكون ملاحظتي الأولى أن الشعر في فرنسا يعيش مرحلة من الازدهار، لم نكن نعدّها في العقود القليلة الماضية، أي منذ سبعينيات القرن العشرين، حين بدأت أصوات تتحدث عن موت الشعر والقصيدة، وعن أن "الشعر غير مقبول" (كما روج دوني روش) وغيرها من تنظيرات "الحداثة" التي جعلت الشعر ينسحب من الحياة العامة.
ما يجري اليوم، أمر مخالف ومختلف: دور النشر الخاصة بالشعر فقط، تزداد باطّراد، حتى أن منشورات "لوسوي" عادت لتصدر سلسلتها الخاصة بالشعر بعد أن توقفت لعقود؛ كذلك نجد أن بعض المجلات الثقافية عادت لتفتح صفحاتها أمام المراجعات النقدية والحوارات. القراءات الشعرية، في العديد من الأماكن – العامة والخاصة – ناهيك عن المهرجانات في جميع المدن، و"سوق الشعر" (في باريس) و"ربيع الشعراء"، وبيوت الشعر التي تلعب دورًا في إعادة الألق لهذا الفن الذي لم يمت (ولا يمكن له أن يموت، فــ "الشعر دومًا هو العبارة الأولى"). وأيضًا المفاجأة: مجلة "ليفر إبدو" تحدثت مؤخرًا عن أن نسخ الشعر المباعة في اضطراد مستمر، إلى الأعلى بالطبع. لذا أسال عما تقوله المقدمة الجديدة نقلًا عن مجلة "إسبري" بأن الشعر لا يباع ويشهد انحسارًا. في أي حال، أعتقد أن هذه الفكرة مستعادة من مقدمة الطبعة الأولى.
أمام ذلك كله، لا بدّ أن تستمر القصيدة في تجاربها الجديدة، وأن لا تتوقف عند نقطة معينة. لكن "المدهش" في الأمر – وقد تكون هذه ملاحظتي الثانية – هذه العودة إلى غنائية، كانت تثير الكثير من التعليقات والخوف، بمعنى الرفض التام لها. ثمة جزء لا يستهان به من شعر اليوم، الفرنسي، عاد إلى غنائية عالية ومنهم من عاد أيضًا إلى الوزن الكلاسيكي، ليبتعد عن التجارب اللغوية الصافية والذهنية. في أي حال، يمكن لنا أن نجد الشعر في كلّ مكان ضمن "الشعرية"، التي يعود إليها العديد من الشعراء، والشاعرات أيضًا، وإذا قلت شاعرات، فليس لأفصل بين نوعيّ كتابة، بل لأشير إلى ظاهرة حقيقية انتشرت في السنوات الأخيرة: علو الصوت النسائي المتميز في القصيدة الفرنسية؛ سأكتفي بذكر اسم فاليري روزو، ناتالي كانتان، كامي لوافييه، فلورانس باتزوتو، سيسيل كولون، هيلين بارو، فلورنس تروكميه (صاحبة موقع [Poezibao] المميز جدًا) وغيرهن من شاعرات الأجيال الجديدة (اللاتي يغبن عن "ملحمة الشعر الفرنسي"). حتى أن هناك جيلًا جديدًا يدعى اليوم في فرنسا جيل "الإنستغرام"، أي الذي بدأ الكتابة على منصات التواصل، وقد لاحظ الناشرون الأصوات المميزة، ليفتحوا لهم أبواب النشر الورقي بسرعة، مثل أماندا غورمان، وسيسيل كولون، وإيفا مارزي، واللائحة تطول. وبالتأكيد هي أصوات مختلفة، أي ثمة تجارب لا تقترب من بعضها. وهذا ما يجعل الشعر صاحب امتياز: أن يبحث كل شاعر(ة) عن صوته الخاص، عن مقتربه، عن فضائه، عن مناخه...
في أي حال، يأتي كتاب "ملحمة الشعر الفرنسي الجديد" ليشكل مع سابقه، محاولة للاقتراب من مناخات قصيدة "تلك البلاد". مناخات متنوعة، لرحلة بدأت سابقًا، وتستمر إلى اليوم. لعلنا نجد فيها ما نبحث عنه.
- عنوان الكتاب: ملحمة الشعر الفرنسي الجديد 1960 – 2016
- المؤلف: بول شاوول