خارج الكهف، بعيدًا عن سرير بروكرست": تحريض ضد السلطويات
صدام الزيدي
5 مارس 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
في كتابه الصادر حديثًا عن دار النشر اليمنية "عناوين بوكس" في القاهرة، بعنوان "خارج الكهف"، متبوعًا بعنوان فرعي: "بعيدًا عن سرير بروكرست الحضرمي"، يشتبك الكاتب اليمني المقيم في هولندا، سعيد الجريري، عبر سلسلة مقالات ساخرة وناقدة في آن، مع كل ما هو رسميّ ومستبد كالسلطة والفحولة والمديح بالوزن الخليليّ، متخذًا من "سرير بروكرست" الشهير برمزيته الدالة في الميثولوجيا اليونانية الذي يحيل إلى نزعة فرض القوالب الجاهزة على الأفكار والذوات، ليأتي المحتوى على تماس اشتباكيّ مع الكهفية والبروكروستية.
وتتصدر الكتاب الواقع في 200 صفحة، كلمة موجزة للكاتب التونسي عبد الدائم السلّامي، عدّ فيها كتاب الجريري تحريضًا على يقينيات عدة: كتاب يهدم بنيان السائد والمألوف أو ما يمكن تسميته بالإثم المجتمعي الذائع، سواء كان (هذا الإثم) سياسيًا أم اجتماعيًا أم أدبيًا أم تاريخيًا أم جغرافيًا.
ولا يخفي الكتاب، منذ عنوانه الرئيس، إعلانه المواجهة الحادة مع السائد الذي استبدّ بالأفق، فأغلقه عقودًا، عبر سبيل الاشتباك مع أعوانه وسردياته المتحكمة في رقاب الناس والمتصرفة في أحوالهم، وإذ يفعل الجريري ذلك، يتابع السلامي، فإنه يفعله وفق أسلوب في الكتابة يشدّك بجميل التعبير، محرضًا على مغامرة التفكير ضد كثير من اليقينيات.
ويتخذ الجريري من الكهف عنوانًا لكتابه لكنه يبقى خارجه، مستفيدًا من الرمزية والحواف الدلالية المتعددة للكهف في سياقات فلسفية ودينية وثقافية وأدبية ولغوية عابرةً القارات واللغات.
ومنذ الإهداء، يحرض الجريري على مواجهة السائد والسلطويّ، معلنًا شفقته على الذين علقوا في حياة الكهوف: "إلى العالقين، هنالك، والعالقات.... بين الكهف والسرير". ويتابع في استهلال ثانٍ عرض مشاهد متخيلة لمآلات من علقوا في الكهوف ورضوا بمصيرهم بين جدرانها المعتمة، مشبهًا إياهم بمن يرجمون بالأحجار نهرًا بغية إيقاف جريانه: النهر يجري من تحت أقدامهم، ولأنهم لا يجيدون السباحة يرجمونه بالأحجار، ظنًا منهم أن سيتوقف عن الجريان.
ومن كهف أفلاطون الفلسفي إلى كهوف ظلامية أفرزتها تداعيات الصراع الراهن في الداخل اليمني، مرورًا بأبعاد وظلال أخرى من كهفيات الخطاب الديني والمتخيل الأدبي والثقافي وما يتناصّ معهما، يأتي الكهف في كتاب الجريري مرتكزًا دلاليًا يتماسّ مع مآلات الاستسلام والرضوخ لكل ما هو سلطويّ وتسيّدي.
بين الكهف والسرير
وتتواتر مقالات الكتاب، على مسافةٍ تتوازى مع الكهف مكانيًا، فهي (خارجه) من جهةٍ، ومن جهة أخرى، توازي سرير بروكرست أيضًا، فهي (بعيدًا عنه) لكنها، وهي تُساجِل وتُجادِل وتُسائِل وتُشاكِل وتُحاوِل، لا يشخص أمامها بروكرست اليونانيّ، وإنما الحضرميّ، الذي هو هنا بروكرست آخر معاصر ذو صفةٍ افتراضية، ويمثل امتدادًا موضوعيًا لميثولوجيا قديمة وسريرٍ حديديٍّ عتيق.
ويحاول الجريري، بصيغة ما، القول إن ثمة حالة من (الاكتهاف أو التكهف) تعيد إنتاج رمزية بروكرست وفاعليته السلبية في مشهد مثل المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي الحضرمي، غير أن بروكرست هذا، لا تحده جغرافيا حضرموت وحدها، فهو أيضًا بروكرست اليماني والعربي، إذا ما حضرت إلى الواجهة مشاهد ومواقف (بروكرستية) متماثلة أو متشابهة، على أن (حضرَمَة) بروكرست هنا إنما هي في سياق تغليب رمزي، فالأفكار ومقارباتها تتسع ولا تنحصر، ويتمازج فيها المحدود باللامحدود، تعبيرًا عن "مُهيمِنات جوهرية" مؤثرة، ينوه عنها الجريري، في مشهد مثخن بإعاقات وتشوهات تحُول دون تحولٍ حقيقيٍّ نحو عتبات المستقبل المحلوم به وفضاءاته الحرة.
وثمة هوية كتابية وأسلوبية جميلة تتسم بها مقالات الكتاب، فهي إذ تطلق الأفكار بعيدًا عن الجفاف والجفاء وتُقرِن الرؤية بمتحٍ ينبع من اللغة وشعريتها ولا تخلو من سخرية كلما اقتضى السياق ذلك، تتوقف أمام المفارقات والتناقضات - وما أكثرها- ومن ثم تتصور كيف هي مآلاتها في ما بين الكهف والسرير، من خلال أنساق ثقافية مختلفة، وهي أيضًا لا تبتعد عن فاعلية الأدب ولا سيما الشعر وعن التراث ولا سيما الأمثال والمقولات الشعبية ضمن متكئات كتابية تروم تشكيل بنية الذات الفردية والجماعية على حد سواء.
سعيد الجريري: شاعر وناقد أدبي يمني. دكتوراه في الأدب العربي الحديث والنقد من الجامعة المستنصرية في بغداد. عمل أستاذًا للأدب والنقد الحديث في كلية الآداب- جامعة حضرموت حتى عام 2014؛ العام نفسه الذي انتقل فيه للسكنى في أمستردام/ هولندا حيث يقيم حتى الآن. رئيس سابق لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فرع حضرموت.
صدرت له إضافة إلى كتابه الأحدث "خارج الكهف، بعيدًا عن سرير بروكرست- 2022"، عدة كتب منها: "شعر البردوني: دراسة أسلوبية" - 2004؛ "أثر السياب في الشعر العربي الحديث" - 2004؛ "بلا غيبوبة: مقالات في الشأن الثقافي" - 2010؛ "بخيتة ومبخوت - قصائد بالعامية الحضرمية" 2012؛ "من يوميات الشنفرى في هولندا"- مجموعة شعرية - 2015. يعكف حاليًا على ترجمة رواية هولندية صادرة في عام 1958 تدور أحداثها بين تنزانيا وحضرموت، وجُلّ شخصياتها حضرمية. له تفاعل نقابي وثقافي في عديد من الأطر الأكاديمية والثقافية والمدنية. شارك في عدد من الملتقيات والمهرجانات والمؤتمرات الأدبية والثقافية المحلية والعربية وفي أوروبا.
صدام الزيدي
5 مارس 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
في كتابه الصادر حديثًا عن دار النشر اليمنية "عناوين بوكس" في القاهرة، بعنوان "خارج الكهف"، متبوعًا بعنوان فرعي: "بعيدًا عن سرير بروكرست الحضرمي"، يشتبك الكاتب اليمني المقيم في هولندا، سعيد الجريري، عبر سلسلة مقالات ساخرة وناقدة في آن، مع كل ما هو رسميّ ومستبد كالسلطة والفحولة والمديح بالوزن الخليليّ، متخذًا من "سرير بروكرست" الشهير برمزيته الدالة في الميثولوجيا اليونانية الذي يحيل إلى نزعة فرض القوالب الجاهزة على الأفكار والذوات، ليأتي المحتوى على تماس اشتباكيّ مع الكهفية والبروكروستية.
وتتصدر الكتاب الواقع في 200 صفحة، كلمة موجزة للكاتب التونسي عبد الدائم السلّامي، عدّ فيها كتاب الجريري تحريضًا على يقينيات عدة: كتاب يهدم بنيان السائد والمألوف أو ما يمكن تسميته بالإثم المجتمعي الذائع، سواء كان (هذا الإثم) سياسيًا أم اجتماعيًا أم أدبيًا أم تاريخيًا أم جغرافيًا.
ولا يخفي الكتاب، منذ عنوانه الرئيس، إعلانه المواجهة الحادة مع السائد الذي استبدّ بالأفق، فأغلقه عقودًا، عبر سبيل الاشتباك مع أعوانه وسردياته المتحكمة في رقاب الناس والمتصرفة في أحوالهم، وإذ يفعل الجريري ذلك، يتابع السلامي، فإنه يفعله وفق أسلوب في الكتابة يشدّك بجميل التعبير، محرضًا على مغامرة التفكير ضد كثير من اليقينيات.
ويتخذ الجريري من الكهف عنوانًا لكتابه لكنه يبقى خارجه، مستفيدًا من الرمزية والحواف الدلالية المتعددة للكهف في سياقات فلسفية ودينية وثقافية وأدبية ولغوية عابرةً القارات واللغات.
ومنذ الإهداء، يحرض الجريري على مواجهة السائد والسلطويّ، معلنًا شفقته على الذين علقوا في حياة الكهوف: "إلى العالقين، هنالك، والعالقات.... بين الكهف والسرير". ويتابع في استهلال ثانٍ عرض مشاهد متخيلة لمآلات من علقوا في الكهوف ورضوا بمصيرهم بين جدرانها المعتمة، مشبهًا إياهم بمن يرجمون بالأحجار نهرًا بغية إيقاف جريانه: النهر يجري من تحت أقدامهم، ولأنهم لا يجيدون السباحة يرجمونه بالأحجار، ظنًا منهم أن سيتوقف عن الجريان.
ومن كهف أفلاطون الفلسفي إلى كهوف ظلامية أفرزتها تداعيات الصراع الراهن في الداخل اليمني، مرورًا بأبعاد وظلال أخرى من كهفيات الخطاب الديني والمتخيل الأدبي والثقافي وما يتناصّ معهما، يأتي الكهف في كتاب الجريري مرتكزًا دلاليًا يتماسّ مع مآلات الاستسلام والرضوخ لكل ما هو سلطويّ وتسيّدي.
حاول الجريري، بصيغة ما، القول إن ثمة حالة من (الاكتهاف أو التكهف) تعيد إنتاج رمزية بروكرست وفاعليته السلبية في مشهد مثل المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي الحضرمي |
وتتواتر مقالات الكتاب، على مسافةٍ تتوازى مع الكهف مكانيًا، فهي (خارجه) من جهةٍ، ومن جهة أخرى، توازي سرير بروكرست أيضًا، فهي (بعيدًا عنه) لكنها، وهي تُساجِل وتُجادِل وتُسائِل وتُشاكِل وتُحاوِل، لا يشخص أمامها بروكرست اليونانيّ، وإنما الحضرميّ، الذي هو هنا بروكرست آخر معاصر ذو صفةٍ افتراضية، ويمثل امتدادًا موضوعيًا لميثولوجيا قديمة وسريرٍ حديديٍّ عتيق.
ويحاول الجريري، بصيغة ما، القول إن ثمة حالة من (الاكتهاف أو التكهف) تعيد إنتاج رمزية بروكرست وفاعليته السلبية في مشهد مثل المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي الحضرمي، غير أن بروكرست هذا، لا تحده جغرافيا حضرموت وحدها، فهو أيضًا بروكرست اليماني والعربي، إذا ما حضرت إلى الواجهة مشاهد ومواقف (بروكرستية) متماثلة أو متشابهة، على أن (حضرَمَة) بروكرست هنا إنما هي في سياق تغليب رمزي، فالأفكار ومقارباتها تتسع ولا تنحصر، ويتمازج فيها المحدود باللامحدود، تعبيرًا عن "مُهيمِنات جوهرية" مؤثرة، ينوه عنها الجريري، في مشهد مثخن بإعاقات وتشوهات تحُول دون تحولٍ حقيقيٍّ نحو عتبات المستقبل المحلوم به وفضاءاته الحرة.
وثمة هوية كتابية وأسلوبية جميلة تتسم بها مقالات الكتاب، فهي إذ تطلق الأفكار بعيدًا عن الجفاف والجفاء وتُقرِن الرؤية بمتحٍ ينبع من اللغة وشعريتها ولا تخلو من سخرية كلما اقتضى السياق ذلك، تتوقف أمام المفارقات والتناقضات - وما أكثرها- ومن ثم تتصور كيف هي مآلاتها في ما بين الكهف والسرير، من خلال أنساق ثقافية مختلفة، وهي أيضًا لا تبتعد عن فاعلية الأدب ولا سيما الشعر وعن التراث ولا سيما الأمثال والمقولات الشعبية ضمن متكئات كتابية تروم تشكيل بنية الذات الفردية والجماعية على حد سواء.
سعيد الجريري: شاعر وناقد أدبي يمني. دكتوراه في الأدب العربي الحديث والنقد من الجامعة المستنصرية في بغداد. عمل أستاذًا للأدب والنقد الحديث في كلية الآداب- جامعة حضرموت حتى عام 2014؛ العام نفسه الذي انتقل فيه للسكنى في أمستردام/ هولندا حيث يقيم حتى الآن. رئيس سابق لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فرع حضرموت.
صدرت له إضافة إلى كتابه الأحدث "خارج الكهف، بعيدًا عن سرير بروكرست- 2022"، عدة كتب منها: "شعر البردوني: دراسة أسلوبية" - 2004؛ "أثر السياب في الشعر العربي الحديث" - 2004؛ "بلا غيبوبة: مقالات في الشأن الثقافي" - 2010؛ "بخيتة ومبخوت - قصائد بالعامية الحضرمية" 2012؛ "من يوميات الشنفرى في هولندا"- مجموعة شعرية - 2015. يعكف حاليًا على ترجمة رواية هولندية صادرة في عام 1958 تدور أحداثها بين تنزانيا وحضرموت، وجُلّ شخصياتها حضرمية. له تفاعل نقابي وثقافي في عديد من الأطر الأكاديمية والثقافية والمدنية. شارك في عدد من الملتقيات والمهرجانات والمؤتمرات الأدبية والثقافية المحلية والعربية وفي أوروبا.
- عنوان الكتاب: خارج الكهف: بعيدًا عن سرير بروكرست الحضرمي"
- المؤلف: سعيد الجريري