غرافيا السياسية لما بعد الحداثة": عن عصر الإمبراطوريات الجديدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غرافيا السياسية لما بعد الحداثة": عن عصر الإمبراطوريات الجديدة

    غرافيا السياسية لما بعد الحداثة": عن عصر الإمبراطوريات الجديدة

    حامد الناظر

    4 مارس 2023
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    هذا أثر مهم للكاتب والمفكر وعالم الاجتماع السياسي والفيلسوف الروسي المثير للجدل ألكسندر دوغين (1962) الذي تُنسب إليه الانعطافة الحادة لروسيا الجديدة في عهد فلاديمير بوتين، حتى أنه يوصف في دوائر كثيرة بأنه "عقل بوتين"، وبأنه صاحب رؤية قومية متطرفة تشكل رؤية هذا الأخير إلى العالم.
    يناقش الكتاب الموسوم بـ "الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة ـ عصر الإمبراطوريات الجديدة"، وبعنوان ثانوي "الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين"، التغييرات الجيوسياسية في عصر الانفتاح والعولمة (ما بعد الحداثة)، ونظرة الكاتب الكلية إلى النظام العالمي الجديد بعد الحرب الباردة، وتصوراته بشأن خلق أقطاب جديدة في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية التي تنفرد بالهيمنة على العالم. والكتاب من ترجمة إبراهيم إستنبولي، ونشر في حزيران/ يونيو 2022 ضمن سلسلة "ترجمان" التي يقوم عليها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة.
    يقسم الكاتب خريطة العالم إلى كتلتين كُبريين: "حضارة البحر"، التي تمثلها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيون حول الأطلسي، و"حضارة البر" التي تمثلها منطقة أوراسيا، التي يقع منها الاتحاد السوفياتي السابق بمنزلة النواة الصلبة. انتصرت الأولى على الثانية مع نهاية عصر الصناعة "الحداثة"، وفرضت شروطها للعصر التالي، ما بعد الحداثة "عصر العولمة"، الذي ابتلع العالم وراح يهضمه على مهل، غير آبه لا بالاختلافات الحضارية، ولا بالعواقب.
    يقول دوغين: "وقد كانت جميع الحروب التي جرت خلال القرون الأخيرة، بما في ذلك الحربان العالميتان في القرن العشرين، نتيجة لهذا الصراع بين البر والبحر. وإذ فاز البحر على اليابسة في الحرب الباردة، فإن البحر يخطط للقضاء علينا بصورة نهائية. فلماذا يجب علينا أن نحبه؟ نحن نريد أن نولد من جديد، وأن ننهض من بين الرماد والدمار، نريد أن نعود إلى التاريخ. لذلك نحن لا نحب أميركا"!.


    "هو مفكر متطرف بلا شك، ولديه موقف مبدئي وعدائي مع كل ما هو أميركي، على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية"


    هذا مفكر متطرف بلا شك، ولديه موقف مبدئي وعدائي مع كل ما هو أميركي، على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية، وفوق كل ذلك الحضارية، وكاره لها أيضًا، وفي الوقت نفسه غير واثق من قدرة روسيا على المواجهة الحاسمة. يقول إن أميركا نشأت في فراغ كبير وراء الأطلسي، من دون جذور ثقافية، أو حضارية راسخة، وقامت من دون أي ثقافة وطنية، أو قومية، وخلقت نموذجها الليبرالي الخاص "بطريقة مخبرية"، ثم غزت به العالم من دون أية قيود أخلاقية، أو مثل عليا.
    إنه عصر "ما بعد الحداثة" بحسب دوغين، حيث تسيطر التكنولوجيا والإنترنت على العالم، وتفرض الولايات المتحدة من خلالها هيمنتها الناعمة والافتراضية على العالم، بتصدير ثقافة مسطحة، ونمط محدد من السلوكيات يقوم على مفاهيم جديدة للجنس والتجارة والعلاقات العائلية والتواصل الإنساني، وتديره حكومة عالمية واحدة تتعامل مع جموع البشر في كل مكان على أنهم مجرد حشود جائعة لهذه الثقافة التي نبعت من اللاشيء، وتتقدم نحو فراغ افتراضي مرعب!
    وهنا يطرح الكاتب تصوره لمقاومة هذا العصر الجديد بالفكرة الأوراسية كمفهوم فلسفي له أبعاد مضادة للعولمة الأميركية، وبالتالي فإن العالم كله باستثناء الولايات المتحدة الأميركية يقع ضمن مفهوم الأوراسية عن طريق التكامل في ما يسميه "الفضاءات الحضارية المغايرة"، بما فيها أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ وأفريقيا وأميركا اللاتينية والعالم الإسلامي، ومن ثم، وبالضرورة أن تصبح الأوراسية عقيدة داخل روسيا لها فلسفتها ومغزاها، وتطبق كنموذج مصغر داخل روسيا نفسها.
    قال دوغين في عام 2004 في حوار منشور ضمن ملحقات هذا الكتاب: "إذا أقدمت كييف على التقارب مع الناتو، سوف تسبب تمرد الجزء الشرقي من أوكرانيا (يقصد الأقاليم الأربعة)، ويمكن العثور على حل عن طريق نقل العلاقات الثنائية إلى مستوى آخر من اللغة العملياتية. يجب على روسيا أن تتصرف، لا كروسيا، وإنما على أنها أوراسيا، أي على أنها مصفوفة حضارية، وليس باعتبارها بلادًا، أو دولة"! وهذا ربما ما يحدث الآن، ويلخص جوهر الصراع الدائر على الأرض الأوكرانية اليوم.
    أعتقد جازمًا أن الاطلاع على هذا الكتاب لا غنى عنه لمن أراد أن يفهم السياقات التي تجري فيها هذه الحرب، ورغبات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من وراء هذه المخاطرة الكبرى بالدخول في حرب شبه مفتوحة مع حلف الناتو. هذه لعبة جغرافيا سياسية يريد بوتين أن يضع شروطها الجديدة مسبقًا ويتحكم في نتائجها لاحقًا، وهي باختصار الجانب العملي من الفكرة "الأوراسية" كما تصورها ونظّر لها صاحب هذا الكتاب، ألكسندر دوغين، قبل نحو عقدين من الزمن.


    * روائي وكاتب من السودان.
    • عنوان الكتاب: الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة: عصر الإمبراطوريات الجديدة
    • المؤلف: ألكسندر دوغين
    • المترجم: إبراهيم إستنبولي
يعمل...
X