مع عودة يوزف روت إلى الأضواء من جديد
عماد فؤاد 27 فبراير 2023
تغطيات
يوزف روت (إلى اليمين) مع صديقه الكاتب شتيفان تسفايغ
شارك هذا المقال
حجم الخط
كان يوزف روت صحافيًا وروائيًا لامعًا. وقد ملأ اسمه الأسماع عبر تقاريره الصحافية اللاذعة في عشرينيات القرن الماضي، وكاد النازيون أن ينجحوا في تدمير منجزه الأدبي، لولا أن هُرِّبت أعماله مخبّأة تحت سرير بوّاب في باريس.
هنا وقفة مع سيرة جديدة وذكريات صديق ترجمتا إلى الهولندية، وأعادتا واحدًا من أهم كتّاب أوروبا في فترة ما بين الحربين إلى الأضواء من جديد.
أين أعمال روت من اللغة العربية؟
تشهد أعمال الكاتب النمساوي اليهودي يوزف روت (1894-1939) انتعاشًا كبيرًا في الترجمات الأوروبية، إلّا أنّنا، في عالمنا العربي، ما زلنا نعاني ندرة كبيرة في ترجمة أعماله الأدبية والصحافية حتى اليوم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أوّل عمل أدبي تُرجم ليوزف روت إلى العربية حدث عام 1997، وتمّ عن اللغة الفرنسية وليس عن الألمانية مباشرة، حين تصدّت المترجمة اللبنانية ماري طوق لترجمة روايته "مدفن الكبوشيين" (الفارابي، 1997). ثمّ غابت أعمال روت الأخرى عن العربية طويلًا، حتى صدرت مؤخّرًا ترجمة لاثنين من رواياته القصيرة أو النوفيلا، وهما: "أسطورة السكّير المقدَّس" (نُشرت بعد وفاة روت عام 1939)، و"مصير ناظر المحطّة"، وصدرتا في كتاب واحد عن دار "المحروسة" في 2022، بترجمة عن الألمانية للمصري حسن الحديدي. وفي العام ذاته صدرت ترجمة لروايته "الهروب بلا نهاية" عن دار "عصير الكتب" بترجمة المصرية آية عبد الحكيم، أيضًا عن الألمانية، ومن المنتظر أن تصدر ترجمتها لروايته الأهم "أيوب"، في القاهرة، منتصف العام الحالي.
رحلة لا نهاية لها
يُعرف يوزف روت بأنّه أحد أعظم الكتّاب الأوروبيّين في فترة ما بين الحربين العالميّتين. خاصة بفضل روايتيه الأكثر شهرة: "أيوب" (1930)، والتي تدور أحداثها حول أسرة من يهود المملكة النمساوية المجرية الأرثوذكس، الذين يضّطرون إلى الهجرة إلى أميركا قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، و"مارش راديتسكي" (1932)، وتدور أحداثها حول انهيار امبراطورية هابسبورغ، ورصد وقائع سقوط عائلة فون تروتا النبيلة عن الحكم.
على جانب آخر، تشهد ترجمات يوزف روت إلى اللغة الهولندية حاليًا حالة انتعاش كبيرة، فقد صدرت الترجمة الهولندية للسيرة الذاتية التي وضعها الكاتب البريطاني كَيرون بيم Keiron Pim ليوزف روت تحت عنوان "رحلة لا نهاية لها" - Eindeloze vlucht، والتي صدرت بالإنكليزية نهاية 2022 في 544 صفحة، ويمكن اعتبارها أوّل سيرة شاملة باللغة الإنكليزية ليوزف روت، حيث يستكشِف كاتبها عبقرية روت وقصة حياته المأساوية في ظلّ الحرب، خاصة نشأته اليهودية المحافظة في بلدة صغيرة هي "برودي Brody" في إقليم غاليسيا، على الحافة الشرقية المهملة للإمبراطورية النمساوية المجرية، وعلى الحدود مع الإمبراطورية الروسية، والتي تقع اليوم ضمن حدود أوكرانيا... المكان الذي خجل منه روت لاحقًا، لكنّه كتب عنه باعتزاز في العديد من أعماله، بدون الإشارة إليه صراحة.
وُلد موسى يوزف روت (الذي يحب البعض كتابة اسمه بالمنطوق الإنكليزي جوزيف روث) عام 1894 في بلدة برودي تلك، وكبر ليكتشف أنه يعيش على حافّة الفقر بين اليهود الحسيديّين والبولنديّين والرّوس والأوكرانيّين. أصيب والده، الذي كان تاجرًا فاشلًا للأخشاب، بالجنون قبل أن يولد ابنه الوحيد ومات في سنّ صغيرة، لتصبح طفولة روت اليتيمة صدمة لن يُشفى منها أبدًا (وربّما لهذا السبّب تدور أغلب أعماله الأدبية حول العلاقات الصعبة بين الآباء والأبناء) وليكبر الطفل يتيمًا في كنف أمّ مريضة بجنون العظمة والتسلّط، لكنّها رغم ذلك حاربت بإخلاص لتكون نصيرة لطموحات ابنها المتردّد.
طوال حياته، اخترع روت أساطير بديلة عن والده الغائب، والذي لم يره أبدًا، ويشير كَيرون بيم في سيرته عن روت، إلى أن كاتبنا ارتبط كطفل بصورة إمبراطور هابسبورغ فرانز يوزف، التي كانت معلّقة على الدوام أمام روت في بيته الفقير، وقد اعتبره روت آخر جلالة أبوية له، واتّخذه بديلًا عن والده. لكن علاقة روت بوالدته المستبدّة كانت أكثر التواءً. فقد تمرّد عليها حين قرّر الالتحاق بالجامعة وتجاهل رسائلها اليائسة. وعندما ماتت الأم عام 1922، إثر إصابتها بسرطان الرحم، ذهب روت إلى المستشفى، وفي نوبة مرضية سيطرت عليه هواجس فرويد وهو يشاهد جسد أمّه الميت، وحين طال وقوفه وطلبوا منه المغادرة، ناشدهم أن يرى رحم أمه قبل أن يغادر! مساءلة الجذور اليهودية
درس روت في فيينا، وعمل في برلين كصحافي وكاتب منذ عام 1920. وعلى الرغم من أنّه كان يحمل آراءً تقدّمية في البداية، إلا أنّه بعد رحلة عمل صحافية إلى الاتحاد السوفياتي، سرعان ما انشق إلى المعسكر المحافظ بعد أن رأى الأمور على أرض الواقع. حينها بدأ يرى خطرًا في القومية الروسية الناشئة وعارض الحركة النازية. وفي عام 1933 هرب من ألمانيا التي حظرت كتبه في ظلّ النظام النازي. وانتهى الأمر بزوجته فريدل ريتشلر إلى إصابتها بالشيزوفرينيا، ووقوعها ضحيّة لبرنامج القتل الرحيم النازي، وهي مأساة لن يستطيع يوزف روت أن يغفرها لنفسه أبدًا.
هذه النشأة البائسة والتكوين الصعب جعلا كاتبنا الشاب وقتها يحارب طوال حياته للحصول على بعض المال، إلّا أنّه كان أيضًا كثير التبذير، وعاش حياته كلّها يتوسّل الصدقات من الناشرين والأصدقاء، حتى على حساب علاقاته بهم، فقط ليهدرها على الشراب والكرم المتهوّر. وبينما كان يوزّع الأموال بسخاء على الأصدقاء "المحتاجين" (كما كان يتفاخر)، كان عليه هو نفسه أن يتوسّل للحصول على المساعدة من المحيطين به، وخاصة صديقه الكاتب شتيفان تسفايغ. كذلك لم يتخلَّص روت أبدًا من الاستياء المربك تجاه جذوره اليهودية. وكان يبدو في بعض الأحيان معاديًا للسامية بشكل صريح، ويسخر من "الملابس الغريبة" التي يرتديها إخوانه اليهود، و"صوتهم الحاد الذي تنبعث منه رائحة البصل". لكنّه رغم ذلك، لم يتردّد في كتابة أعمال أدبية كبيرة يتناول فيها أحوال يهود أوروبا الذين ينحدر منهم.
لكنّنا نستطيع القول أيضًا إن هذه النشأة البائسة ذاتها في برودي، هي التي جعلت يوزف روت يطوّر داخله هوسًا اجتماعيًا تجاه أصوله اليهودية من ناحية، ومن ناحية أخرى سمحت له باختبار هوّيته الأوروبية، تلك التي لا يمكن النظر إليها بمعزل عن نشأته اليهودية، هذا الهوس مكّن روت لاحقًا من أن يصبح كالحرباء وسط تجمّعات نخب الكتّاب والمثقفين والفنانين الأوروبيين. فكان يندمج وسطهم بسهولة، سواء في فيينا أو برلين أو لاحقًا في باريس. والحقيقة أنّ لا أحد نظر نظرة تقدير حتى اليوم إلى نجاح روت في فرض اسمه وموهبته ككاتب ناشئ رغم يهوديّته، خاصة في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كان من النادر جدًا أن يصبح يهودي فقير من أوروبا الشرقية كاتبًا مشهورًا.
"يهود على غير هدى"
صدرت قبل أيام طبعة جديدة من تقرير صحافي بعنوان "يهود على غير هدى - Joden op drift"، وهي ترجمة كاملة لمقال نشره يوزف روت عام 1927، يستحضر فيه صورة لحياة اليهود في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى. في هذا التقرير الصحافي المكتوب بانسيابية اعترافية لافتة، يضع كاتبنا النمساوي يهود أوروبا الشرقية تحت ميكروسكوبه، راصدًا حيرتهم في تقرير أيّ البلدان الأوروبية التي يهربون إليها قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ ألمانيا أم فرنسا أم الولايات المتحدة أم الاتحاد السوفياتي؟ وقد صارت العديد من دول أوروبا الشرقية الجديدة آنذاك غير آمنة بالنسبة لهم.
كتب روت تقريره هذا عام 1927، قبل ما يقرب من 20 عامًا ممّا أُطلق عليه وقتها: "الحل النهائي للمسألة اليهودية". لكنّنا حين نقرأه اليوم، نشعر أنّنا أمام وثيقة زمنية فريدة، يصف فيها روت كيف أجبر الاضطهاد والبؤس عائلة "أوستيدين" اليهودية على الفرار إلى الغرب، وكيف نجحوا في ذلك، فيما يشبه الوثيقة التاريخية لرصد أحوال يهود أوروبا الشرقيين قبل ستّ سنوات من وصول النازيين إلى السلطة. (هل يمكننا اعتبار هذا التقرير النواة الأولى التي خرجت منها تحفته اللاحقة "أيّوب" عام 1930؟). ليخلص روت في أحد نصوص الكتاب إلى القول: "إنّه شعور تاريخي متأصّل في التجربة اليهودية، وهو أنهم سيكونون أوّل الضحايا حيثما يتسبّب تاريخ العالم في إسالة بحر من الدماء".
رحلة ونهاية
أمّا الجانب المبكّر من حياة يوزف روت الشاب، فيكشف عنه كتاب آخر صدر حديثًا باللغة الهولندية تحت عنوان "رحلة ونهاية يوزف روت" للكاتب النمساوي سوما مورجنسترن Soma Morgenstern، والذي تعرّف على روت لأوّل مرّة عام 1909 في ليمبيرخ (لفيف حاليًا)، خلال مؤتمر للطلّاب اليهود. وقد ساعدت خلفيّتهما المشتركة، حيث جاء كليهما من غاليسيا المنكوبة ذاتها، على ارتباطهما منذ اللحظة الأولى للقائهما، فقد درس كلاهما في فيينا، وفي الحرب العالمية الأولى كانا جنديّين في الجيش النمساوي المجري. ثمّ عملا كمراسلين للصفحات الثقافية لصحيفة Frankfurter Zeitung، مورجنسترن في فيينا وروت في برلين. وعندما وصل هتلر إلى السلطة عام 1933، فرّ روت إلى باريس، حيث وجد أخيرًا مكانه الذي لن يتغيّر لسنوات في فندق صغير. وفي عام 1938 هرب مورجنسترن أيضًا إلى باريس وأخذ غرفة في نفس الفندق. وفي هذه السيرة التي يكتبها صديق عن صديقه، يتبدّى لنا أيّ شخص بائس كان روت في سنوات حياته الأخيرة، حيث أودى به إدمانه الكحول إلى الموت مديونًا وفقيرًا في أحد مستشفيات باريس المخصّصة للفقراء في أيار/ مايو 1939.
مات يوزف روت عن عمر يناهز 44 عامًا فقط، بينما طبول الحرب العالمية الثانية تستعد لتصمّ آذان العالم كلّه. كان قد شرب روحه حتى الموت حرفيًا، حتى أصبح: "وجهه متعرّقًا وأصابعه منتفخة وبطنه مكوّرة بسبب تليّف الكبد، وإن ابتسم تظهر مجموعة أسنان مليئة بالثقوب تحت شاربه الأحمر الكثيف. وكان نظره قد ضعف بشدّة، لكنّه لم يعد يطيق ارتداء النّظارات"، وفقًا لوصف مورجنسترن له في كتابه. فيما شبّهته حبيبته إيرمجارد كيون، الكاتبة الألمانية، بـ"عنكبوت الحديقة"، بسبب بطنه المنتفخة وأطرافه النحيفة.
وعلى الرغم من إرث يوزف روت الكبير، سواء في الصحافة أو الأدب، إلّا أنه كان يعتبر نفسه كاتبًا وليس صحافيًا، وقد كتب روت أفضل وأنجح رواياته في السنوات العشر الأخيرة من حياته. نُشرت روايته الأولى "شبكة العنكبوت" لأوّل مرّة مسلسلة في صحيفة Arbeiter Zeitung في فيينا عام 1923. وكان روت هو أوّل من أدخل اسم أدولف هتلر في كتاب خيالي عبر هذه الرواية، حين أشار صراحة إلى كارثة صعود النازيين إلى الحكم. ثمّ نشر كتابه "فندق سافوي" عام 1924، لكن الاختراق العظيم لاسم يوزف روت كروائي لم يأت إلا عام 1930 مع صدور روايته الأهم "أيّوب".
وقد كان يوزف روت من أوائل الكتّاب الأوروبيّين الذين تنبّأوا بالمصير الأسود القادم لأوروبا على أيدي النازيين. هذا الدور لم يتراجع عنه روت أبدًا في أعماله الأدبية المختلفة، بل أصبح الراوي الرئيسي لعصره. فقد كانت ألمانيا النازية قد ضمّت النمسا. وكان الهجوم على بولندا ومعه الحرب العالمية الثانية في طور الإعداد. كلّ ذلك كان روت قد توقّعه في أعماله، وحذّر مرارًا وتكرارًا من انتشار القومية والفاشية والديكتاتورية. في عام 1933، وهو العام الذي هرب فيه من ألمانيا، أحرقت كتبه عند أقدام جوبلز في ميدان أوبرنبلاتزا في برلين، وقد كاد النازيون أن ينجحوا في محو ذكرى روت وإحراق جميع مؤلّفاته، لولا أن هُرِّبت مخبّأة تحت سرير بوّاب في باريس.
عناوين آخر ما نشر فيما يتعلق بيوزف روت في أمستردام/ هولندا:
عماد فؤاد 27 فبراير 2023
تغطيات
يوزف روت (إلى اليمين) مع صديقه الكاتب شتيفان تسفايغ
شارك هذا المقال
حجم الخط
كان يوزف روت صحافيًا وروائيًا لامعًا. وقد ملأ اسمه الأسماع عبر تقاريره الصحافية اللاذعة في عشرينيات القرن الماضي، وكاد النازيون أن ينجحوا في تدمير منجزه الأدبي، لولا أن هُرِّبت أعماله مخبّأة تحت سرير بوّاب في باريس.
هنا وقفة مع سيرة جديدة وذكريات صديق ترجمتا إلى الهولندية، وأعادتا واحدًا من أهم كتّاب أوروبا في فترة ما بين الحربين إلى الأضواء من جديد.
أين أعمال روت من اللغة العربية؟
تشهد أعمال الكاتب النمساوي اليهودي يوزف روت (1894-1939) انتعاشًا كبيرًا في الترجمات الأوروبية، إلّا أنّنا، في عالمنا العربي، ما زلنا نعاني ندرة كبيرة في ترجمة أعماله الأدبية والصحافية حتى اليوم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أوّل عمل أدبي تُرجم ليوزف روت إلى العربية حدث عام 1997، وتمّ عن اللغة الفرنسية وليس عن الألمانية مباشرة، حين تصدّت المترجمة اللبنانية ماري طوق لترجمة روايته "مدفن الكبوشيين" (الفارابي، 1997). ثمّ غابت أعمال روت الأخرى عن العربية طويلًا، حتى صدرت مؤخّرًا ترجمة لاثنين من رواياته القصيرة أو النوفيلا، وهما: "أسطورة السكّير المقدَّس" (نُشرت بعد وفاة روت عام 1939)، و"مصير ناظر المحطّة"، وصدرتا في كتاب واحد عن دار "المحروسة" في 2022، بترجمة عن الألمانية للمصري حسن الحديدي. وفي العام ذاته صدرت ترجمة لروايته "الهروب بلا نهاية" عن دار "عصير الكتب" بترجمة المصرية آية عبد الحكيم، أيضًا عن الألمانية، ومن المنتظر أن تصدر ترجمتها لروايته الأهم "أيوب"، في القاهرة، منتصف العام الحالي.
رحلة لا نهاية لها
يُعرف يوزف روت بأنّه أحد أعظم الكتّاب الأوروبيّين في فترة ما بين الحربين العالميّتين. خاصة بفضل روايتيه الأكثر شهرة: "أيوب" (1930)، والتي تدور أحداثها حول أسرة من يهود المملكة النمساوية المجرية الأرثوذكس، الذين يضّطرون إلى الهجرة إلى أميركا قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، و"مارش راديتسكي" (1932)، وتدور أحداثها حول انهيار امبراطورية هابسبورغ، ورصد وقائع سقوط عائلة فون تروتا النبيلة عن الحكم.
على جانب آخر، تشهد ترجمات يوزف روت إلى اللغة الهولندية حاليًا حالة انتعاش كبيرة، فقد صدرت الترجمة الهولندية للسيرة الذاتية التي وضعها الكاتب البريطاني كَيرون بيم Keiron Pim ليوزف روت تحت عنوان "رحلة لا نهاية لها" - Eindeloze vlucht، والتي صدرت بالإنكليزية نهاية 2022 في 544 صفحة، ويمكن اعتبارها أوّل سيرة شاملة باللغة الإنكليزية ليوزف روت، حيث يستكشِف كاتبها عبقرية روت وقصة حياته المأساوية في ظلّ الحرب، خاصة نشأته اليهودية المحافظة في بلدة صغيرة هي "برودي Brody" في إقليم غاليسيا، على الحافة الشرقية المهملة للإمبراطورية النمساوية المجرية، وعلى الحدود مع الإمبراطورية الروسية، والتي تقع اليوم ضمن حدود أوكرانيا... المكان الذي خجل منه روت لاحقًا، لكنّه كتب عنه باعتزاز في العديد من أعماله، بدون الإشارة إليه صراحة.
وُلد موسى يوزف روت (الذي يحب البعض كتابة اسمه بالمنطوق الإنكليزي جوزيف روث) عام 1894 في بلدة برودي تلك، وكبر ليكتشف أنه يعيش على حافّة الفقر بين اليهود الحسيديّين والبولنديّين والرّوس والأوكرانيّين. أصيب والده، الذي كان تاجرًا فاشلًا للأخشاب، بالجنون قبل أن يولد ابنه الوحيد ومات في سنّ صغيرة، لتصبح طفولة روت اليتيمة صدمة لن يُشفى منها أبدًا (وربّما لهذا السبّب تدور أغلب أعماله الأدبية حول العلاقات الصعبة بين الآباء والأبناء) وليكبر الطفل يتيمًا في كنف أمّ مريضة بجنون العظمة والتسلّط، لكنّها رغم ذلك حاربت بإخلاص لتكون نصيرة لطموحات ابنها المتردّد.
طوال حياته، اخترع روت أساطير بديلة عن والده الغائب، والذي لم يره أبدًا، ويشير كَيرون بيم في سيرته عن روت، إلى أن كاتبنا ارتبط كطفل بصورة إمبراطور هابسبورغ فرانز يوزف، التي كانت معلّقة على الدوام أمام روت في بيته الفقير، وقد اعتبره روت آخر جلالة أبوية له، واتّخذه بديلًا عن والده. لكن علاقة روت بوالدته المستبدّة كانت أكثر التواءً. فقد تمرّد عليها حين قرّر الالتحاق بالجامعة وتجاهل رسائلها اليائسة. وعندما ماتت الأم عام 1922، إثر إصابتها بسرطان الرحم، ذهب روت إلى المستشفى، وفي نوبة مرضية سيطرت عليه هواجس فرويد وهو يشاهد جسد أمّه الميت، وحين طال وقوفه وطلبوا منه المغادرة، ناشدهم أن يرى رحم أمه قبل أن يغادر! مساءلة الجذور اليهودية
درس روت في فيينا، وعمل في برلين كصحافي وكاتب منذ عام 1920. وعلى الرغم من أنّه كان يحمل آراءً تقدّمية في البداية، إلا أنّه بعد رحلة عمل صحافية إلى الاتحاد السوفياتي، سرعان ما انشق إلى المعسكر المحافظ بعد أن رأى الأمور على أرض الواقع. حينها بدأ يرى خطرًا في القومية الروسية الناشئة وعارض الحركة النازية. وفي عام 1933 هرب من ألمانيا التي حظرت كتبه في ظلّ النظام النازي. وانتهى الأمر بزوجته فريدل ريتشلر إلى إصابتها بالشيزوفرينيا، ووقوعها ضحيّة لبرنامج القتل الرحيم النازي، وهي مأساة لن يستطيع يوزف روت أن يغفرها لنفسه أبدًا.
هذه النشأة البائسة والتكوين الصعب جعلا كاتبنا الشاب وقتها يحارب طوال حياته للحصول على بعض المال، إلّا أنّه كان أيضًا كثير التبذير، وعاش حياته كلّها يتوسّل الصدقات من الناشرين والأصدقاء، حتى على حساب علاقاته بهم، فقط ليهدرها على الشراب والكرم المتهوّر. وبينما كان يوزّع الأموال بسخاء على الأصدقاء "المحتاجين" (كما كان يتفاخر)، كان عليه هو نفسه أن يتوسّل للحصول على المساعدة من المحيطين به، وخاصة صديقه الكاتب شتيفان تسفايغ. كذلك لم يتخلَّص روت أبدًا من الاستياء المربك تجاه جذوره اليهودية. وكان يبدو في بعض الأحيان معاديًا للسامية بشكل صريح، ويسخر من "الملابس الغريبة" التي يرتديها إخوانه اليهود، و"صوتهم الحاد الذي تنبعث منه رائحة البصل". لكنّه رغم ذلك، لم يتردّد في كتابة أعمال أدبية كبيرة يتناول فيها أحوال يهود أوروبا الذين ينحدر منهم.
كان يوزف روت من أوائل الكتّاب الأوروبيّين الذين تنبّأوا بالمصير الأسود القادم لأوروبا على أيدي النازيين. هذا الدور لم يتراجع عنه روت أبدًا في أعماله الأدبية المختلفة، بل أصبح الراوي الرئيسي لعصره |
صدرت قبل أيام طبعة جديدة من تقرير صحافي بعنوان "يهود على غير هدى - Joden op drift"، وهي ترجمة كاملة لمقال نشره يوزف روت عام 1927، يستحضر فيه صورة لحياة اليهود في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى. في هذا التقرير الصحافي المكتوب بانسيابية اعترافية لافتة، يضع كاتبنا النمساوي يهود أوروبا الشرقية تحت ميكروسكوبه، راصدًا حيرتهم في تقرير أيّ البلدان الأوروبية التي يهربون إليها قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ ألمانيا أم فرنسا أم الولايات المتحدة أم الاتحاد السوفياتي؟ وقد صارت العديد من دول أوروبا الشرقية الجديدة آنذاك غير آمنة بالنسبة لهم.
كتب روت تقريره هذا عام 1927، قبل ما يقرب من 20 عامًا ممّا أُطلق عليه وقتها: "الحل النهائي للمسألة اليهودية". لكنّنا حين نقرأه اليوم، نشعر أنّنا أمام وثيقة زمنية فريدة، يصف فيها روت كيف أجبر الاضطهاد والبؤس عائلة "أوستيدين" اليهودية على الفرار إلى الغرب، وكيف نجحوا في ذلك، فيما يشبه الوثيقة التاريخية لرصد أحوال يهود أوروبا الشرقيين قبل ستّ سنوات من وصول النازيين إلى السلطة. (هل يمكننا اعتبار هذا التقرير النواة الأولى التي خرجت منها تحفته اللاحقة "أيّوب" عام 1930؟). ليخلص روت في أحد نصوص الكتاب إلى القول: "إنّه شعور تاريخي متأصّل في التجربة اليهودية، وهو أنهم سيكونون أوّل الضحايا حيثما يتسبّب تاريخ العالم في إسالة بحر من الدماء".
الترجمة الهولندية لكتابات يوزف روت "يهود على غير هدى"، "شبكة العنكبوت"، "أيوب"، و"هروب بلا نهاية"، و"رحلة ونهاية يوزف روت" للكاتب النمساوي سوما مورجنسترن |
أمّا الجانب المبكّر من حياة يوزف روت الشاب، فيكشف عنه كتاب آخر صدر حديثًا باللغة الهولندية تحت عنوان "رحلة ونهاية يوزف روت" للكاتب النمساوي سوما مورجنسترن Soma Morgenstern، والذي تعرّف على روت لأوّل مرّة عام 1909 في ليمبيرخ (لفيف حاليًا)، خلال مؤتمر للطلّاب اليهود. وقد ساعدت خلفيّتهما المشتركة، حيث جاء كليهما من غاليسيا المنكوبة ذاتها، على ارتباطهما منذ اللحظة الأولى للقائهما، فقد درس كلاهما في فيينا، وفي الحرب العالمية الأولى كانا جنديّين في الجيش النمساوي المجري. ثمّ عملا كمراسلين للصفحات الثقافية لصحيفة Frankfurter Zeitung، مورجنسترن في فيينا وروت في برلين. وعندما وصل هتلر إلى السلطة عام 1933، فرّ روت إلى باريس، حيث وجد أخيرًا مكانه الذي لن يتغيّر لسنوات في فندق صغير. وفي عام 1938 هرب مورجنسترن أيضًا إلى باريس وأخذ غرفة في نفس الفندق. وفي هذه السيرة التي يكتبها صديق عن صديقه، يتبدّى لنا أيّ شخص بائس كان روت في سنوات حياته الأخيرة، حيث أودى به إدمانه الكحول إلى الموت مديونًا وفقيرًا في أحد مستشفيات باريس المخصّصة للفقراء في أيار/ مايو 1939.
مات يوزف روت عن عمر يناهز 44 عامًا فقط، بينما طبول الحرب العالمية الثانية تستعد لتصمّ آذان العالم كلّه. كان قد شرب روحه حتى الموت حرفيًا، حتى أصبح: "وجهه متعرّقًا وأصابعه منتفخة وبطنه مكوّرة بسبب تليّف الكبد، وإن ابتسم تظهر مجموعة أسنان مليئة بالثقوب تحت شاربه الأحمر الكثيف. وكان نظره قد ضعف بشدّة، لكنّه لم يعد يطيق ارتداء النّظارات"، وفقًا لوصف مورجنسترن له في كتابه. فيما شبّهته حبيبته إيرمجارد كيون، الكاتبة الألمانية، بـ"عنكبوت الحديقة"، بسبب بطنه المنتفخة وأطرافه النحيفة.
وعلى الرغم من إرث يوزف روت الكبير، سواء في الصحافة أو الأدب، إلّا أنه كان يعتبر نفسه كاتبًا وليس صحافيًا، وقد كتب روت أفضل وأنجح رواياته في السنوات العشر الأخيرة من حياته. نُشرت روايته الأولى "شبكة العنكبوت" لأوّل مرّة مسلسلة في صحيفة Arbeiter Zeitung في فيينا عام 1923. وكان روت هو أوّل من أدخل اسم أدولف هتلر في كتاب خيالي عبر هذه الرواية، حين أشار صراحة إلى كارثة صعود النازيين إلى الحكم. ثمّ نشر كتابه "فندق سافوي" عام 1924، لكن الاختراق العظيم لاسم يوزف روت كروائي لم يأت إلا عام 1930 مع صدور روايته الأهم "أيّوب".
وقد كان يوزف روت من أوائل الكتّاب الأوروبيّين الذين تنبّأوا بالمصير الأسود القادم لأوروبا على أيدي النازيين. هذا الدور لم يتراجع عنه روت أبدًا في أعماله الأدبية المختلفة، بل أصبح الراوي الرئيسي لعصره. فقد كانت ألمانيا النازية قد ضمّت النمسا. وكان الهجوم على بولندا ومعه الحرب العالمية الثانية في طور الإعداد. كلّ ذلك كان روت قد توقّعه في أعماله، وحذّر مرارًا وتكرارًا من انتشار القومية والفاشية والديكتاتورية. في عام 1933، وهو العام الذي هرب فيه من ألمانيا، أحرقت كتبه عند أقدام جوبلز في ميدان أوبرنبلاتزا في برلين، وقد كاد النازيون أن ينجحوا في محو ذكرى روت وإحراق جميع مؤلّفاته، لولا أن هُرِّبت مخبّأة تحت سرير بوّاب في باريس.
عناوين آخر ما نشر فيما يتعلق بيوزف روت في أمستردام/ هولندا:
- ‘Eindeloze vlucht’, Keiron Pim (Auteur) Lidwien Biekmann (Vertaling) Het leven van Joseph Roth, Atlas-Contact, Amsterdam 2022.
- 'Vlucht en einde van Joseph Roth', Soma Morgenstern', Van Oorschot, Amsterdam 2022.
- 'Joden op drift',